زعيم قومي أدرك خطر التطرف باكراً
بقلم: الدكتور جمال سند السويدي
مدير عام مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية
رسم الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر صورة ذهنية إيجابية لا تزال محفورة في أذهان كثيرين من أبناء جيلي للزعيم العروبي المدافع عن أمته، والمؤمن بعدالة قضاياها، وكان من أكثر الذين اعتنقوا الفكر القومي العربي وثبتوا على إيمانهم به، وعاش حلم الوحدة العربية بكل تجلياتها، في وطن عربي واحد يمتد من المحيط إلى الخليج، يملك مقومات السيادة، ويستطيع الدفاع عن ثرواته واستقلاله السياسي.
ارتبط اسم جمال عبد الناصر وشخصيته القيادية الكاريزمية بمحطات تاريخية مهمة في مصر والعالم العربي، من بينها دوره في إنهاء الاحتلال البريطاني لبلاده، وقراره التاريخي تأميم قناة السويس، وتطبيق قانون الإصلاح الزراعي، وبناء السد العالي، وإطلاق المشروعات التنموية الكبرى في المجالات الصناعية والزراعية المختلفة، بما في ذلك الصناعات العسكرية، التي نجح من خلالها في بناء دولة قوية لها مكانتها الإقليمية الكبرى، ونفوذها الذي تجاوز المنطقة العربية إلى الساحة الدولية، لاسيما بعد أن نجح في تأسيس حركة عدم الانحياز في إبريل 1955 بالتعاون مع رئيس الوزراء الهندي الأسبق جواهر لال نهرو ورئيس يوغسلافيا السابقة جوزيف بروز تيتو.
لم يكن جمال عبد الناصر زعيماً مصرياً فقط، بل كان زعيماً عربياً، فأفكاره وشعاراته حول العروبة والوحدة والقومية العربية ألهمت لعقود طويلة، ولا تزال تلهم، عقول كثيرين من أبناء الشعوب العربية، خاصة من الشباب، الذين عادة ما يتذكرونه ويرفعون صوره ويرددون مقولاته في كل أزمة أو انتكاسة يتعرض لها العالم العربي. وساعد على ذلك مزجه للشعارات والأفكار بخطوات عملية تهدف إلى تحقيقها على الأرض، تجسدت أوضح ما يكون في وقفته الصلبة مع حركة التحرير الجزائرية وحركات التحرر في المغرب العربي وفلسطين، وتجربته في تحقيق الوحدة مع سوريا، وهي الأولى من نوعها عربياً، حيث أُعلنت الجمهورية العربية المتحدة في 22 فبراير 1958 بقيادة عبد الناصر، لكن هذه التجربة لم تستمر طويلاً، حيث تفككت في عام 1961 بعد انقلاب عسكري حدث في دمشق انفصلت إثره سوريا معلنة قيام الجمهورية العربية السورية، بينما ظلت مصر تحمل اسم الجمهورية العربية المتحدة حتى عام 1971.
وكان موقف عبد الناصر من القضية الفلسطينية من أكثر ما جسد إيمانه بالفكر القومي العروبي، فقد وضع هذه القضية في مقدمة أولويات الأجندة العربية باعتبارها قضية العرب الأولى، واقترح في مايو 1964 إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية، وأيدها كممثل شرعي لشعب فلسطين، بهدف تمكين الشعب الفلسطيني من عرض قضيته في المحافل الدولية، ودعم قرار المنظمة بإنشاء جيش التحرير الفلسطيني، الذي اعتمدته القمة العربية في سبتمبر من العام ذاته. واستمر يقدم الدعم للقضية الفلسطينية حتى آخر يوم من حياته، عندما دعا إلى عقد قمة عربية طارئة في سبتمبر 1970 لوقف نزيف الدماء التي سالت بسبب المواجهات المسلحة التي وقعت بين الجيش الأردني والجماعات الفلسطينية فيما عُرف باسم أحداث أيلول الأسود، وبرغم أن القمة نجحت في وقف نزيف الدماء، فإن ذلك الشهر أبى إلا أن يزداد سواداً بعد أن توفي جمال عبد الناصر عقب توديعه آخر القادة المشاركين في هذه القمة، وهو أمير الكويت.
كان جمال عبد الناصر من أوائل القادة الذين أدركوا خطر الجماعات الدينية السياسية، وفي مقدمتها جماعة «الإخوان المسلمين»، لاسيما بعد محاولتها الفاشلة اغتياله في ميدان المنشية بالإسكندرية في 26 أكتوبر 1954، حيث تصدى بقوة لهذه الجماعة، واعتقل كثيراً من قياداتها وعناصرها الذين سعوا في الأرض خراباً، ومن بينهم المرشد الأسبق للجماعة حسن الهضيبي الذي صدر ضدّه حكمٌ بالإعدام في أواخر عام 1954، على خلفية حادثة المنشية، قبل أن يتم تخفيف الحكم إلى المؤبد، والمنظّر الجهادي للجماعة سيد قطب الذي تم إعدامه في عام 1965 بعد اتهامه بتدبير مؤامرة لقلب نظام الحكم. ولولا جهود عبد الناصر لربما كان خطر هذه الجماعة اليوم أشد وأقوى.
إن ما يشهده العالم العربي اليوم من تحديات، وما يحاك له من خطط للتقسيم ونشر الفوضى والصراعات الأهلية، تحت دعاوى الجهاد والطائفية، يعيد الروح من جديد لأفكار ورؤى طرحها قبل عقود هذا الزعيم التاريخي، لاسيما ما يتعلق بتعزيز أواصر العروبة والوحدة بين الشعوب والدول العربية لمجابهة التحديات والأخطار المشتركة التي تواجهها، وفي مقدمتها الخطر الذي تمثله تنظيمات الإرهاب والجماعات الدينية السياسية.
المصدر: جريدة الاتحاد
http://www.alittihad.ae/wajhatprint.php?id=85773