الحصاد: الروائي والشاعر أنور الخطيب في حديث مع الحصاد :
من حقي أن أكتب عن غير فلسطين
حاورته : هبة عبد الخالق
أنور الخطيب، روائي وشاعر فلسطيني، ولد في لبنان وظل فيه حتى حصل على الثانوية العامة، ثم غادره للدراسة الجامعية في الجزائر، ليتنقل بعدها بين عواصم عربية عديدة، حاملا معه توقه لوطن الأب والأم والجدة، وإصراره على التصالح مع نفسه كأديب، فلا تطغى هالة المبدع على الإنسان العادي، ويسمح في مواقف كثيرة بسيادة الإنسان العادي على شخصية المبدع، تجنباً لتداعيات الشخصية العامة على سلوكه …
أصدر حتى الآن اثنتي عشرة رواية، كان آخرها رواية ”وردة عيسى” التي تناول فيها أثر الاقتتالات داخل عدد من البلدان العربية على إنسانية الإنسان، كما أصدر ستة دواوين شعرية كان آخرها ديوان “لست الذي في المرايا”، وله ثلاث مجموعات شعرية وكتابان في النقد والتوثيق الثقافي.
زار مؤخرا لبنان، وأحيا أمسيتين شعريتين بمناسبة يوم الأرض، في طرابلس وصيدا، وأحيا أمسية ثالثة في إطار مجموعة “شهرياد” الثقافية في بيروت، وتركت هذه الأمسيات صدى جميلا لدى الحضور والوسط الثقافي اللبناني والفلسطيني..
يوم الأرض
بدأنا حوارنا معه انطلاقاً من زيارته إلى لبنان فقال إنه يحرص على وجوده في هذه المناسبة في لبنان، للمشاركة في إحياء المناسبة، ويعيد ترتيب أوراق الانتماء من جديد، حيث فلسطين على مرمى حجر، وحيث المناسبة تجدد في روحه أملاً يصر على ألا يخبو أبدا، ولأنه يرى في لبنان ساحة ثقافية تضج بالجديد وتعمل على غسل روح المبدع من غبار المنافي.
الحصاد: الروائي والشاعر أنور الخطيب في حديث مع الحصاد : من حقي أن أكتب عن غير فلسطين
حوار: هبة عبد الخالق
الوطن والغربة والانتماء:
»الحصاد«: ولدت في لبنان، بعيداً عن وطنك، حدثنا عن إشكالية الوطن والغربة، ومستوى الانتماء لديك ؟
انور الخطيب: لن أخجل من قولي أن الوطن فكرة ملتبسة لدي كإنسان ومبدع، أنا لست مواطناً في أي مكان على هذه الكرة الأرضية، ويصعب عليّ الادعاء بأن العالم كله وطني، هذا تمييع لفكرة الانتماء، ويقلقني جهلي بالإحساس الذي يسكن مواطناً ما وهو يعيش في وطنه، وعبّرت عن هذا الهاجس في أكثر من قصيدة، ونثرته في معظم رواياتي. لكن لدي توق حار وقاتل كي يكون لي وطن، ولم أجد سوى الوطن الذي نقله لي والدي ووالدتي وجدتي عبر حنينهم الذي استبد بهم وهم أحياء، وأورثوني إياه بعد موتهم، كانوا أكثر من محترفين في نقل الذكريات والروائح والمذاقات، حتى بت أشعر أنها ذكرياتي وروائحي ومذاقاتي، وأن ما أُجبروا على تركه خلفهم يستحق الموت من أجله. فلا خيار آخر لي في هذه الحالة سوى فلسطين. تكتبني كل يوم مئات المرات، حتى بت أشعر بمتلازمة الغربة، التي تقود إلى الإحساس بالضجر والغضب، أترجم كل ذلك بالكتابة، حتى لا أُهزم أمام نفسي، ولا لأكون اسماً كبيراً في عالم الأدب، ولهذا قلت في قصيدتي: (خذوا كل الشعر يا سادتي، وامنحوني ساعة في وطني، أطارد فيها فراشة، ولا ألتقطها..). وقلت بأن الشعر لا يبني وطنا، ويفشل السرد في افتعال حادث بسيط جداً، لأنني أرفض إيهام نفسي أكثر.. يكفينا أوهام الانتصارات والإنجازات.
كرم الوطن وظلمه:
»الحصاد«: هل منحك الوطن شيئا وأنت في غربتك؟
انور الخطيب: التوق إلى الوطن ورطني في الكتابة، ولو كنت في وطني لما كنت، ربما، كاتباً، وربما احتسيت كل مفردة إبداعية حتى الثمالة. أما اسمي الأدبي، الذي لا أتوقف عنده كثيرا، فقد صنع ذاته بذاته، لأنه انسجم حد الذوبان بهواجسه، ومن المعيب ممارسة الانتهازية في موضوع الوطن، فالوطن ليس شجرة نتسلقها وصولاً إلى القمة، الوطن شجرة نزرعها في القلب فنشمخ بها، ونستظل بها، لا أكثر ولا أقل. ولهذا لا أريد من الوطن أكثر، أريد أن أعطيه أكثر، وأتعذب كثيرا حين لا أجد سوى الكتابة أعطيها له، وأتعذب أكثر، حين أجد المؤسسات الثقافية الفلسطينية تمارس (التحزّب) نحو المبدعين. الوطن لا يظلم، المواطنون يظلمون. وأنا لا أنتمي لحزب أو منظمة أو جبهة أو حركة، أنا أنتمي لوطن أبي وأمي وجدتي فقط لا غير.
وجود الذات والانسجام:
أنت تكتب الرواية والشعر والقصة القصيرة والنقد الأدبي، أين يجد أنور الخطيب نفسه؟
لقد كتبت ونشرت حتى الآن اثنتي عشرة رواية وست مجموعات شعرية وثلاث مجموعات قصصية، وكتبت مئات الخواطر والمقالات، وكتبت مسرحيات مونودراما ولم أنشرها، ولو استطيع الغناء لغنيت، أو التمثيل لمثلت، أو الرقص لرقصت، أو الرسم لرسمت، أجد نفسي في كل إبداع يقرّبني من رائحة الوطن، تلك التي وصفها لي أبي وصفاً اسطوريا. وأرفض أن أحدّ نفسي بشكل واحد من اشكال التعبير، لكنني وجدت نفسي منغمساً في الرواية والشعر، فالرواية تعينني على ترتيب الأحداث والزمن، والشعر يمنحني القدرة على تحقيق بعض الانسجام مع نفسي والآخرين الساكنين في القلب وحوله. ولا اسمح لنفسي بالاختيار بين هذا أو ذاك، أمارس كل ما من شأنه تأجيل انفجاري بي، وبالمحيط الذي يبني جدرانا تعرقل خطوي في طريقي نحوي. ومن جهة ثانية، أنا لا أفتعل تقنيات الكتابة، ولن اسمح للثوابت والمدارس والأساليب أن تأسرني، أكتب بطريقة التدفق الذي ينسجم مع إيقاعاتي، أكتب كي أتنفس، وليس لأثبت للنقاد قدرتي على اتقان استخدام التقنيات واللغة، فقد نضج الاغتراب في روحي إلى درجة الاحتراف والتماهي، والإبداع غربة واغتراب، ومن لم يختبرهما معاً بمعانيهما الإنسانية والوجودية والوطنية، لن يتمكن من تحقيق الجودة لا في الشكل ولا في المضمون. أنا لا أمارس السادية على لغتي، ولا أمنح القصيدة نرجسية. لا شذوذ في الكتابة، يكفينا شذوذا في السياسات العقيمة التي تسعى إلى تأطيرنا، وإدخالنا إلى أقفاصها القذرة، والكتابة لدي هي وسيلة للحفاظ على شيء من نظافة الروح، وعدم الذوبان في اليومي المربك حد الانفصام..
الحداثة وما بعد الحداثة:
»الحصاد«: هل تؤرقك مصطلحات مثل الحداثة وما بعد الحداثة التي تشغل معظم المبدعين، وكيف تنظر إليهما ؟
انور الخطيب: التحديث والتطوير والتغيير مصطلحات أجبر مروجوها الأدباء والنقاد على الانهماك بها حتى سبقت الإبداع، ووضعت المنظرين في مأزق حقيقي، لأن هذه المصطلحات موجودة بالفعل في مراحل تطور البشرية فكريا وأدبيا واساليب حياة، فقد اكتشف نقاد كثيرون أن الحداثة قائمة بالفعل ومتجسدة في الإبداعات التي سبقت رواج المصطلحات. الإنسان الحقيقي مبدع بطبيعته، أي مبتكر وتائق للتجاوز الدائم، وبالنسبة لي لا أنشغل بهذه المصطلحات تنظيريا وإنما تأتي في سياق التطور المعرفي والإبداعي بشكل تلقائي، ولا أنشغل بالنقد إلا بالقدر الذي ينقل الإبداع إلى حيز الوجود، وللأسف، هناك استعراض نقدي بحت يتكئ اتكاء انتهازيا ووصوليا على المنتج الإبداعي ليصل إلى أماكن بعيدة عن روح النصوص، وهو ما خلق أزمة في النقد الأدبي، وجعل العملية النقدية تعاني من انفصام وانفصال عن الجهود الإبداعية. وأنا أؤمن إيمانا راسخاً بأن النقد ليس تابعا للإبداع، وإنما يسير معه جنباً إلى جنب، ليشكلا في النهاية بحيرة دافئة محاطة بالياسمين المعتّق. كما أؤمن بضرورة وجود العاطفة في الكتابات النقدية، ليس بمعنى أن يكون النقد نصاً إبداعيا، ولكن أن يكون إبداعاً في النصوص.
النقد السجان:
»الحصاد«: ما هي الإشكالية التي يواجهها أنور الخطيب مع النقاد والساحات الثقافية؟
انور الخطيب: لقد كتب عني كثيرون، لكنهم ظلوا أسرى لفلسطينيتي، فأحضروا فلسطين عنوةً في وجه الحبيبة. من حقي الطبيعي أن أكتب شعراً عاطفياً خالصا غير مناضلٍ بالمعنى التقليدي للنضال. لا أفضل هذا السجن للمبدعين الفلسطينيين، وأطالب النقاد الالتفات إلى المبدع الفلسطيني الإنسان العاشق. من لا يجيد فن العشق لا يجيد فن النضال. وهنا أود أن أشير إلى مسألة مهمة يعاني منها معظم المبدعين الفلسطينيين، وهي أنني أعاني كمثقف ومبدع فلسطيني مهجّر عن وطنه من أمرين، الأول أن الساحات الثقافية التي أقيم فيها لا تعتبرني من صلبها إلا مجاملةً، والساحة الثقافية الفلسطينية تتعامل معي كنازح، ولهذا، لا ظهر لي سوى المحبين المتحررين من عقدة الشوفينية، المؤمنين بالإبداع، وهؤلاء ليس لديهم مؤسسات، ولا ماكينات إعلامية، ولهذا أسعى دائما للحفاظ على توازني والانسجام مع نفسي، وألا أقع تحت وطأة الاسم أو المسمى، ولا أنشغل بمكانتي في المجتمع الثقافي، فقط أخلص لكتاباتي، ولكل من يؤمن بها. الأمر الوحيد الذي أسعى إليه هو الاحتكاك بالجماعات الثقافية التي تحاول الانفلات من أسر النموذج، لتخلق عطرها الخاص، تضمخ به طرحة عروس وهي تُزفُ إلى الوطن الحلم..
ثقافة الشباب في مواجهة الاستلاب:
»الحصاد«: منذ سنوات والشباب العربي يعيش حالة فوضى وحروباً بأنواع مختلفة، وكثيرون منهم يتجهون نحو الفن لمواجهة هذا الواقع، كيف ترى هذا التوجه؟
انور الخطيب: الشباب العربي يعاني من أزمات نفسية وإنسانية وسياسية ووطنية وفكرية وفي كل مجالات الحياة، وقد خبر واختبر إيديولوجيات كثيرة أثبتت فشلها، وسبب الفشل كان واضحا ويتمثل في أن أصحابها حاولوا فرضها بالقوة حيناً وبوسائل خبيثة حيناً آخر، وما يُفرض بالقوة لن تُكتب له الديمومة. وفي السنوات الأخيرة، تضخمت هذه الأزمات، ووضعت الشباب العربي أمام سؤال الدين، وأيضا بالقوة، وهذا أيضا لن تُكتب له الديمومة والاستمرارية. لقد أثبتت كل الصراعات منذ آلاف السنين أنه من الأفضل التعامل مع الإنسان على أساس أنه كائن مخيّر. والشباب العربي اليوم في حاجة ماسة إلى الفضاءات الرحبة، يفرد فيها جناحيه ليعانق أحلامه المصادرة منذ عشرات السنين، والفن والشعر والموسيقى والرسم وكل أشكال التعبير ضرورة ملحة للشباب، ليعيدوا ترتيب طبقات أرواحهم من جديد، والثورة الثقافية هي المنفذ الرئيس لتحقيق ذواتهم، وإنسانيتهم واستقرارهم. وما رأيته في المقاهي في بيروت، بعيدا عن المؤسسات الرسمية والتكتلات، ظاهرة تستحق الوقوف عندها، فطالما كانت بيروت واحة للإبداع، وستستعيد دورها، من خلال هذه التجمعات، وتحقق المعادلة الناجحة: الثقافة في مواجهة الاستلاب