آخر الأخبار
في مدينة الأحذية .. بقلم باسكال صوما

في مدينة الأحذية .. بقلم باسكال صوما

في مدينة الأحذية                               باسكال صوما

بقلم: باسكال صوما

هو الحذاء مسؤولٌ عن كل ما ارتكبته حتى الآن، هو الحذاء يدير شؤون مدينة أسكنها منذ سبع سنواتٍ على التوالي. ذهابٌ. إيابٌ. أحذيةٌ. هي مدينةٌ لا يمكن أن تنتمي إليها في المنتصف، لا يمكن أن تكونك كلّك، إن لم تصرخ فيها بكاءك الأول. هي مدينةٌ لا يمكن أن تحبها مع الوقت، لا يمكن حتى أن تكرهها، أو تحمل لها أي شعور واضح. مدينة الأحذية المستعجلة، الأيدي المتباعدة، خطط السفر المؤكدة، المواعيد المربّعة، القهوة السريعة، السيارات المتّسخة، الابتسامات الصفراء، البكاء الأصفر. هنا لن تعانق أحداً بكلّ يديك، لن يقبّلك أحدٌ بكلّ شفتيه، لن تحبّ امرأةً بكل قلبك.
سيأتي موزّع الصحف الى أمام بيتك، سيأخذ ثمن كل ورقة على حدة، ثمّ يطلب مكافأة لأولاده الجياع. وستصبح حقيراً لدرجة أن ترميه خارجاً هو والـــورق، كلّ الورق. ستفضّل أكل أظافرك على قراءة شيءٍ مفيد، وإذا قرأت، ستفعل ذلك بعد أكل الأظافر وتقليمها بكلّ بلادة العالم. هذا طبعاً في يوم العطلة.
في الأيام الأخرى، ستستطيع أن تبصق على نفسك، أن تسير بنظارتين كبيرتين، حتى تقوى على البكاء، لكنك لن تستطيع أبداً. في مدينة الأحذية، يدرّبك الهواء على قتل دمعك، وتجويف عينيك بالعدم المطلق.
ستشعر ذات مرّة أنّك ميتٌ بكل لغات العالم، ستوقف سيارتك في الموقف المحاذي للبحر. ستحاول أن تعود إنساناً، أن تلملم ظلّك من على الشاطئ، أن تتأكّد أن ذقنك طويلة وأن سترتك كحلية، وأن ابتسامتك ما زالت مفقودة، أن تبرهن لنفسك أنك لم تمت بعد. سيريحك البحر، فأنت كدت تنسى أن لهذه المدينة بحراً. سيفهــــمك البحر، وحده يفهم غربة الغرباء وحزنهم المديد، لكنّه لن يأخذك معه. لن يأخذ معه سوى نفسه. لا تنتظر.
ستعود بعدها الى سيارتك، ستجد على الزجاج الأماميّ، «ضبطاً» يُدفع بالدولار. يتبيّن لك أنّ هذا البحر مملوك وأنت الآن متّهمٌ بسرقة بحر رجل آخر، ينتعل حذاءً عجيباً مثلك تماماً، مع فرق اللماعية. فأنت ما زلت طيباً وتستحي من تلميع حذائك عند طفلٍ في السادسة، وما زلت ترمي له نقوداً وترفض أن يمسح لك الحذاء المتّسخ. مالك البحر اعتاد تلك الأشياء، حتى أنه أحياناً يدفع أقلّ من المطلوب، أو لا يدفع شيئاً بحجة الوقت الضيق.
حين ستزور أحداً في بيته، لتفهم لعبة الأحذية أكثر، فمطلوبٌ منك قبل كلّ شيءٍ مسح حذائك جيداً عند الباب، والتأكّد بأنّ شيئاً من حزنك لن يتساقط من قدميك. فهنا لا رغبة لأحد بحزن الغرباء لأنه عميق إلى درجة السذاجة. عليك أن تدخل البيوت ومعك أسنانك البيضاء وفوقها ابتسامتهم الصفراء، حتى يعرفوك، ويسمحوا لك بالدخول.
إذا أحببت أحداً وصودف أن أحبّك بالقوّة ذاتها، غادرا المدينة. الحبّ متهم بكل جرائم الانسانية، ولن يستطيع السير وحيداً داخل قطارٍ مسرع. أكملا الطريق مشياً على الأقدام في قريةٍ بعيدة، أو إذا استطعتما، إذهبا الى آخر المدينة، هناك قد تجدان بحراً غير مملوكٍ، للعشاق الذين لا ينتعلون الأحذية.
باسكال صوما

عن جريدة السفير   http://assafir.com/Article/410809

اترك تعليقاً