الأخلاقيات الثقافية
بعد الموجة العارمة التي أثارها فيلم حول الدعارة في المغرب، الذي وصلت بعض ردود الفعل إزاءه إلى حد القيام بالاعتداء على أحد الممثلين، تواترت صور أخرى تسير في الفلك نفسه مخلفة ردود الأفعال نفسها. تتمثل هذه الصور في استغلال ساحة مسجد حسان، أو منصات مهرجان «موازين» للموسيقى من لدن بعض المغنين الذين أقدموا على العزف على الوتر عينه: التعري، والدفاع عن الجنسية المثلية، والتعريض بالقانون المغربي.
في مهرجان موازين قامت المغنية الأمريكية جنيفير لوبيز التي أخذت مليارا، نظير مشاركتها، بأداء رقصات جنسية بلباسها العاري، منهية ذلك بتوجيه مؤخرتها للجمهور. في السلوك الشعبي المغربي، يعني هذا الفعل الأخير إهانة من توجه إليه، والتعبير عن قلة شأنه وتحقيره.
وفي المهرجان نفسه، قام عازف بريطاني ستيفان أولسدال بنزع قميصه، كاشفا أعلى جسده الذي كتب عليه رقم الفصل 489 الذي يعاقب على المثلية، وقد شطب عليه تعبيرا عن رفضه الفصل المتضمن في القانون الجنائي المغربي.
وفي ساحة مسجد حسان التاريخي، قامت شابتان فرنسيتان من حركة «فيمن»، يوم الثلاثاء 02 يونيو/حزيران2015 ، بالتعري وتبادل القبلات والحركات الشاذة، والتقاط صور توثق الحدث؟
تداولت وسائل الإعلام المرئية والاجتماعية هذه الأحداث، وكثرت التعليقات، وسال مداد، وكانت ردود أفعال. يجمع بين كل هذه الصور فعل واحد: التعري. وهو ما يناظره في التصور الإسلامي: كشف العورة. تم هذا الكشف في فضاء عمومي يلتئم فيه جمهور للاستمتاع بالفن الرفيع: الموسيقى، وفي فضاء مقدس هو فضاء المسجد. وكان من الممكن لو عرض الفيلم أن يشاهد في قاعة السينما التي يحج إليها الجمهور للاستمتاع بالفن السابع. لكن كل الذين شاهدوه في الوسائط الجماهيرية الرقمية اعتبروه فيلما رديئا، ولا يرقى إلى مستوى الفيلم السينمائي. ما يجمع، أيضا، بين هذه الصور جميعا هو أنها ممولة من أموال ضرائب الشعب المغربي، لذلك لا نستغرب من ردود الأفعال.
قد يتحمل جزءا من المسؤولية من قام باستدعاء هؤلاء المشاركين، أو ساهم في تمويل فيلم لم يطلع على كتابته. فكل فنان معروف بميولاته ونزواته. ومن يحترم «الجمهور» لا بد أن يراعي حساسياته وثقافته وذوقه الفني العام. لكن الجزء الأكبر من المسؤولية يتحملها «الفنان» الذي حل ضيفا على شعب وعلى ثقافة، لأن من أخلاقيات الفنان الراقي احترام مشاعر المضيف، وتقدير دعوته له، والتنازل عن أنانيته ونرجسيته.
يقول مثل مغربي: «على الضيف أن يأكل ما حضر، ويغض البصر، ولا ينقل أي خبر». لكن الفنانة الأمريكية، والبريطاني، تشرطا على الأكل، فأكلا فوق ما هو متخيل، وأخذا معهما بالعملة الصعبة حمل بعير، ولم يغض أي منهما بصرا، بل كشف عورة. ونقل الخبر عن البلد، وجعله منقولا على مستوى عال، بصورة تقوم على التشويه والابتذال. فمن أين لهؤلاء بأخلاقيات الفنان الراقي؟ إنهم جميعا يعرفون المغرب، وقد جاؤوا إليه بصورة واحدة: الدفاع عن المثلية، والشذوذ الجنسي. فما الفرق بين هذا الدفاع عن مثل هذه الأمراض، ودعوى إنجاز فيلم عن الدعارة، بهدف تعرية الواقع؟ أليس في استغلال «الفن» بهذه الكيفية، تعبير عن «قضية» وانحياز إلى تصورات وتمثلات، ضد قيم وأخلاق خاصة؟ هذا هو الابتذال الفني.
أعني بالابتذال الفني جعل «القضية» في المستوى الأول، والأداء الفني «مطية» فقط. وكل الأعمال الأدبية والفنية التي تعتمد الابتذال لا علاقة لها بالأخلاقيات الجمالية والثقافية للفن والإبداع. إننا لا نناقش المسألة من منظور إسلامي يتخذ موقفا من كشف العورة. إن للفن أخلاقياته الخاصة التي نظر لها المختصون في الجماليات. والفن الذي لا يسمو بالأخلاق غير جدير بأن يكون فنا.
ما الفرق بين ذاك المغربي، وهاتين الفرنسيتين، وهذا البريطاني، وذاك الأمريكي؟ وما الموقف الذي يتخذونه جميعا من قضية الحجاب التي طرحت في فرنسا وبعض الدول الغربية، وصارت قضية القضايا، التي كان من نتائجها تعرض «المحتجبات» للسؤال والحرمان من الوظيفة، ومن قاعة الدرس؟ بدون أن أعرف أيا من هؤلاء جميعا، ولا تهمني معرفتهم، سيكونون جميعا ضد «الحجاب»، أي ضد تصرف أناس بأجسادهم على غير ما يتصرفون هم بها. ومع ذلك تجدهم يتشدقون بحرية الفن والثقافة، والتعدد الثقافي والتنوع الثقافي والهوية الثقافية والآخر والاختلاف، وبقية الأسطوانة التي نرددها ببلاهة في أدبياتنا العربية؟
إن الإيمان بالحرية والاختلاف معناه الإيمان بأخلاق الحرية وأخلاق الاختلاف. ومن لم يحترم هذه الأخلاق الثقافية يسقط في الابتذال. موضوع الأخلاقيات من الموضوعات التي أثارت وما تزال تثير في الغرب والغرب الأقصى دراسات وأبحاثا لا حصر لها، وفي كل الاختصاصات. بالنسبة إلينا ما تزال الأخلاق مرتبطة بمبادئ تتصل بـ»الحشمة»، فضاعت كل أخلاقنا. و»إذا لم تستحي فاصنع ما شئت». ولم يكن الحياء، ومعناه احترام الآخر، واحترام الذات، فكان كل يصنع ما يشاء في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة، فكانت الأفعال المسيئة للأخلاق، أي للإنسان، وكانت ردود الأفعال التي تدافع عما تسميه أخلاقياتها، وكان الصدام.
الأخلاقيات الثقافية بكلمة: احترام الذات معناه الآخر.
كاتب مغربي
(عن القدس العربي http://www.alquds.uk/?p=404795