قصيدة الصراخ لم تعد مطلوبة لأنها تخاطب الهواء
أنور الخطيب: لا أتعمد التنوّع لكن أجتاز المراحل
أجرى الحوار: إسكندر حبش
جريدة السفير
اسكندر حبش: من بيروت حيث وُلد، إلى الخليج حيث يعيش من سنين، مروراً بالجزائر والعديد من البلدان الأخرى التي مر وعاش فيها، لا يزال الكاتب الفلسطيني أنور الخطيب يحمل ذاكرة وطنه الأم معه، ليكتبه شعراً ونثراً، «كي يكون جديراً به» كما يقول. مؤخراً زار بيروت، حيث أحيا أمسية شعرية في مدينة صور. فكان هذا اللقاء :
- بين الشعر والرواية والعديد من الكتابات الأخرى، تتواتر تجربتك الأدبية. إلى أيّ من هذه الكتابات تميل؟ أسأل لأننا حين نذكر اسمك، نقول بسرعة «الشاعر». وكأن الشاعر فيك تغلب على الروائي، مع العلم أن رواياتك قد تفوق عدد مجموعاتك الشعرية؟
- القاسم المشترك دائماً ما بين كل الأنواع الأدبية أو أداة هذه الأنواع هي اللغة، والقاسم المشترك الفني ما بين الشعر والرواية والقصة وأحياناً المقالة هي اللغة الشعرية، بما تحمل من دلالات وإيحاءات وتأويلات، وتكون هي الأقدر دائماً على اصطياد المعنى بشكل أو بآخر. يبدو لي أن الإنسان يولد ويمارس الشعر في حياته. وإن لم يشعر فهو يستخدم الشعر في الرواية واللغة والتعبير والحلم. بدأت حياتي أتهجى الشعر وبقيت أكتبه حتى عندما انتقلت إلى القصة القصيرة التي كدت أحذفها لأنني توقفت عن كتابتها منذ فترة طويلة، وحتى عندما دخلت عالم الرواية، ظلت اللغة الشعرية سيدة السرد الروائي لديّ. أما اختياري للرواية فهو يتعلق بجانب موضوعي فقد وجدت أنها الأقدر والأرحب على التعبير عن الحالة الإنسانية والوطنية التي نعيشها كفلسطينيين، ويظل الشعر هاجسي الذي أتنفس من خلاله كلما ضاقت بي الدنيا والمعنى، وعشت فترة طويلة أكتب الشعر ولا أنشره، لنظرتي المقدسة لهذا الفن التعبيري المهم جداً في حياتنا العربية، خلاف ما يعتقده النقاد.
- لماذا بدأ يطغى الشاعر على الروائي؟
- ربما لأن الفاعلية الثقافية الأبرز في حياتنا تكاد تكون الشعر، وهذا قد يعود إلى وعي الناس أيضاً، يحبون أن يطلقوا على الأديب لقب الشاعر. أصبحوا يتفاجأون أني أكتب الرواية مع العلم أني أصدرت 11 رواية، برغم أن الكثير من النقاد قالوا إني لم أُقرأ روائياً بالشكل الذي تستحقه تجربتي الروائية.
- هل في انتقالك بين هذه الأنواع، كنت تشعر بأنك تتنقل من حيّز إلى آخر، أم أن الكتابة ومهما كان أسلوبها، هي التي تعنيك في نهاية الأمر؟
- صحيح أن الكتابة تعنيني في النهاية. في الواقع قد أبدأ كتابة قصة قصيرة فتتحول إلى رواية، والانتقال من نوع أدبي إلى آخر لا يتم بقصدية، لكن عندما أقرر أن هذا العمل سيكون قصيدة أو قصة قصيرة أو رواية ربما أبرمج نفسي تلقائياً لأستغرق في هذا النوع الأدبي حسب عناصره المتعارف عليها، مع أنني لا أؤمن بالقواعد المحنطة، التي يدّعي بعض النقاد أنها إرث يجب الالتزام به والخضوع له على الدوام. وهذا الكلام يشمل كل الأنواع الأدبية مثلما أرفض أن يدخل أي ناقد إلى روايتي ويتعامل معها وفق مدرسة نقدية يؤمن بها بشكل مسبق ويطبق عليها شروط هذه المدرسة. الإبداع أكثر حرية مما يتخيلون وأكثر مرونة أيضاً، ولولا تجاوز الأنماط التقليدية لما وصلنا إلى الحداثة وما بعد الحداثة أيضاً، ولما وجدنا هناك نصاً مفتوحاً، ولما استفادت الرواية من الفن السينمائي ومن المسرح، ولما استفادت الكتابة الشعرية من الفن القصصي، أنا أؤمن بأن يمارس المبدع حريته بشكل مطلق على أن يكون مقنعاً.
الشعارات فرغت
- لماذا تشعر بالحاجة إلى هذا التنوع؟
- لأن إيقاع المبدع غير نمطي وغير تقليدي. إيقاعه النفسي والفكري، أداته التعبيرية كلها يجب أن لا تنتمي إلى الصنمية، أنا لا أتعمد التنوع، لكنني ربما أنتقل من مرحلة إلى أخرى كما يتنقل الفنان التشكيلي من مرحلة لونية إلى أخرى. وهذا التنوع أحياناً ملتصق بشكل كبير بإيقاع الحياة نفسها، وأحيانا يكون مرتبطاً بالتطور الفكري، وأحياناً يسبر أغوار المعنى، وأحياناً التجريب. ككاتب أحاول دائماً أن لا أحاصر بفلسطين بالمعنى المباشر المتعارف عليه. أحاول أن أكون كاتباً إنسانياً في المقام الأول وأحمل هذه القضية بأبعادها الإنسانية أكثر من عملية الخطابية والجماهيرية والشعارات التي في كثير من الأوقات فرغت من محتواها. الكاتب في هذا الظرف الحالي، وأقصد منذ 40 عاماً، وهو ظرف مليء بالتغيرات والهزائم، مهمته صعبة جداً، وتكاد تكون عويصة. فعليه أولا أن يتماسك ويتجنب الانهيار، وأن ينجو من هاجس الانتحار الذي أقدم عليه بعض الشعراء والمبدعين.
- إعادة الدموع
- بهذا المعنى ماذا تحمل من فلسطينيتك في داخلك؟
- أحمل كلّ فلسطين في داخلي بما تعني من وطن مادي ووطن حلم وأحمل فلسطين بإبداعي، آملاً أن أستحقها. أخدم فلسطين، وكل مبدع يجب أن يخدم فلسطين بطريقته التي يجب أن ترتقي بمعنى فلسطين وتاريخها. قصيدة الصراخ لم تعد مطلوبة لأنها تخاطب الهواء. فقط أطالب المبدعين بأن يتركوا بصماتهم على جدران قلوب الناس كي يكونوا أكثر رقة وأكثر إحساساً، لأننا وصلنا إلى زمن تبلدت فيه الأحاسيس فعلا، وأصبح مشهد القتل يصاحب حفلة غداء مثلا. أصبحنا نشاهد أخبار القتل والسحل والدمار ونحن نتناول إفطارنا، ونتحدث عنه بشكل هزلي. والقصيدة الصارخة في هذا الوقت لن تضيف إلى المشهد شيئاً. أريد أن أعيد الدموع إلى الإنسان وهو يشاهد نشرة الأخبار أو كلما تذكر وطنه.
ولدت في لبنان وعشت متنقلا بين بلدان عدة، هل أثر المكان على كتاباتك؟ وبخاصة أن مكانك الأول، الأصلي، إذا جاز القول، لا تعرفه إلا من خلال ذاكرة الآخرين؟
– لا أعرف فلسطين إلا من خلال ذاكرة أبي وأمي وأحاديث جدتي، لكن هذا الأب والأم والجدة استطاعوا أن ينتجوا فيلماً سينمائياً حقيقياً لفلسطين، عرفني على تفاصيلها المادية والمعنوية، وأنا أعيش بهذه الذاكرة التي نقشت بداخلي، وأجتهد للمحافظة عليها في كل مكان أنتقل إليه. يتحدثون عن أثر المكان، خصوصاً الخليج، في المبدع من باب الفضل، لكن ليس بالضرورة أن يشكل المكان المبدع، لأن مهمة المبدع في الأساس هو تشكيل الأمكنة، لكن تعلق في جسد اللغة كلمة من هنا وجملة من هناك مستمدة من البيئة. في كلامك عن قصيدة الصراخ، كأنك تحاكم جزءاً لا يستهان به مما كتب عن القضية الفلسطينية؟
- ألا تجد أن هذه الكتابة كانت ضرورة في مرحلة من المراحل؟
- – ربما كانت ضرورية، لكنني لست معها لسبب بسيط أني لست مع الطريقة التي أديرت بها تلك السياسة التي أنتجت هذه القصيدة، لأنها كانت مرحلة صراخ لم تؤسس لوعي وطني مستدام، وهذا ما يجنيه الشعب الفلسطيني حالياً من جهل وتشرذم وانقسامات. أنا لا أتحدث بشكل مثالي، لكن طبيعة الثورات أن تؤسس الوعي لدى الشعب الذي يعينها على الاستمرار في أوقات التحديات والأزمات. وللأسف قصيدة الصراخ لم يبق منها شيء، كما أنه لم يبق من تلك المرحلة النضالية شيء أيضاً. وأكبر مثال على ذلك هو المشهد المثقوب الذي نراه حالياً في اللوحة الفلسطينية.
http://assafir.com/Article/311375