رحلة الوجع الفلسطيني .. القدس طريق الآلام بقلم واسيني الأعرج

رحلة الوجع الفلسطيني .. القدس طريق الآلام بقلم واسيني الأعرج

 رحلة الوجع الفلسطيني

.. القدس طريق الآلام     واسيني الأعرج

بقلم: واسيني الأعرج

القدس. كلمة تكفي وحدها لتهز كياننا العميق. أحلامنا المشوشة. المثل الغربي يقول: voir Venise et mourir رؤية البندقية، والموت بعدها . في طفولتي، من كثرة ما سمعت عن القدس، استعرت المثل وعوضت المدينة: رؤية القدس والموت بعدها. لا أدري كيف صنعت لهذه المدينة الخرافية طرقات وشوارع كما اشتهيتها، وتخيلت حتى قبابها وكنائسها وناسها وممراتها. يوم كتبت روايتي عنها: أشباح القدس، لم أكن خارج هذا المتخيل الذي ظللت أحفظه، وأخاف عليه من الاندثار.
المدينة فوق كونها ثقافة بكاملها وعمرانا قائما فينا، في دواخلنا، فهي ملتقى الأنبياء، وسحر الأديان، والرموز التي صاحبت الإنسان في فرحه وخوفه، والحروب الدينية أيضا، قبل العبور نحو التسامح الثقافي والديني والإنساني. لم أكن أعلم أن الأقدار الجميلة أحيانا، ستمنحني فرصة أن أقف للمرة الثانية في باحات مسجديها مثل بوذي يبحث عن لحظة سلام، وأن أغمض عيني أمام كنيسة القيامة وألمس جراحات سيدنا المسيح، لأدرك فقط كم أن الإنسان صغير أمام جبروت الماضي الذي لا يستفيد منه إلا قليلا. دخلت القدس للمرة الثانية وأنا ممتلئ بذاكرة مضت عليها سنتان، خزنتهما في قلبي وعيني مثل الذي يحفظ سرا ثمينا. بدأت العبور هذه المرة، من بابها الواسع، باب دمشق العتيق، برفقة الصديق والحبيب الغالي الفنان الشعبي الكبير والمسرحي، محبوب الأطفال والكبار، حسام أبو عيشة. هو من جعلني ذات صيف، قبل سنتين، في يوم واحد، ليس فقط أحب فقط القدس، لكن أتعرف على تفاصيلها وأهم دروبها وكنائسها ومساجدها العتيقة. أن أكتشف السحر الذي يتخفى في عيون المقدسيين حتى في لحظات آلامهم.
عبرنا نحو مدينة لا تتعب حتى من أعدائها الذين لم يجلبوا وراءهم إلا الأحقاد والحروب. بعد تدحرج جميل في أحيائها العتيقة وملاحظة الوجوه التي تعبر، أو تلك التي تحس بأن لها أحقية في المكان أكثر من غيرها.
كنا نصور شريطا لصالح «الجزيرة» الوثائقية، برفقة الدكتورة رزان التي كانت مكلفة من القناة بطرح أسئلة الكتابة عليّ، وكيف انجرت رواية كاملة عن مدينة لم أرها إلا في الكتب والوثائق. فوجئت بجنديين إسرائيليين مدججين ينزلان تحت الكاميرا ويتخفيان، لا أدري خوفا ممن؟ هي الحركة نفسها التي قام بها مجموعة من اليهود المرتدين لألبستهم التقليدية السوداء وقبعاتهم. مع أننا كنا نصور في الشارع ونتحدث عن كتاب «سوناتا لأشباح القدس» ولم نكن نحمل سلاحا. في النهاية لم يكونوا إلا جزءا من الديكور العام للمدينة بكل ما تحمله من غضب، ومن أسئلة قلقة في مدينة تم تقسيمها وتقطيع أوصالها في كل المراحل المتعاقبة. كم كانت ستكون عادلة وجميلة، لو ظلت القدس كما خلقت، مدينة الله بمختلف أديانه، ومساحة للتسامح. لكن لا يمكن أن نطلب من الذي سُلب حقه وسُرقت أرضه أن يكون متسامحا لدرجة التلاشي والموت؟ الكثير من الوجوه الفلسطينية التي رأيتها تقف أمام الكاميرا وتمضي، بعد أن ترفع أصبعي النصر، أو تسأل عمن نكون، أو تحتفي بنا عندما تعرف أننا عرب وضيوف، نزور فلسطين لأننا نحبها ولأننا نريد أن نقتسم معها آلامها، والحديث عنها وعن معاناتها وفضح الظالمين. أحدهم اقترب مني وهو يردد بيقين: «قل للعرب الذين نسونا، إننا ما تبقى لهم من كرامة. تركوا فلسطين تواجه قدرا حارقا هم خلقوه، وها هم بدورهم ينتهون تحت ضربات نفس القدر. ربما كنّا اليوم أفضل حال منهم». شعرت بالكلمات تخرج من قلبه ومن حشرجة صوته المبحوح. كان الرجل، من شدة مصاعب الدنيا، قد تحول إلى جسد جف من كل شيء إلا من روح حية، لم يعد لها ما تخسره إذا اشتعلت. أتساءل أحيانا: من قال إن الفلسطيني مات؟ انتهيت من تسجيلات الجزيرة وحياة القدس الضيقة، وانسحبت نحو مقهى أبو موسى، وهو أحد أصدقاء الفنان أبو عيشة الذي ينشب فيه المارة في كل لحظة، لأنه رمزهم الشعبي الذي يتكلم عن حرائقهم في مسرحه، وبلغتهم. عبرت سوق القطانين بكل طولها، ممتلئة بالعابرين كانت، كما في كل القصبات العربية. لاحظت أن الكثير من الروايات التي تباع هناك مقرصنة. سألت البائع عن ذلك. ضحك: «ومن يستطيع أن يشتري الأصلي. ثم أن الكتاب المقرصن يصل والأصلي يبقى في مكانه. من حق الفقير أيضا أن يقرأ. في نظام العبودية هل يسأل السجين عن نوع القيد الذي يمزق يديه؟ وهل يسأل الجائع عن نوعية الأكل المقدم له؟» كم تتشابه الأشياء وكم تختلف. الذي أشعل رغبتي بزيارته القدس أول مرة، ما وجدته في كتب التاريخ وأنا أكتب عن رماد القدس في 48. نفس الألوان وجدتها. نفس العطور التي اجتاحتني، حتى الروائح نفسها لمدينة قمت بتصنيعها من تفاصيل التاريخ. حتى الهندسة التي قرأتها والصور القديمة التي رأيتها في الجامعة الأمريكية، قبل سنوات، لم تختلف عن المدينة اليوم، سوى أن الأسقف العالية في الواقع، كانت حانية في روايتي. أعالي سوق القطانين التي كنت أظنها مسودة من الرطوبة والأدخنة، اكتشفت أنها أجمل بكثير مما تصورت. نفس المسالك. الباب الذي يفضي إلى المسجد الأقصى المبارك، يحمل نفس اسم السوق: باب القطانين. كان المرافقون، أبو عيشة، والدكتورة رزان وسامح، ينتظرون في مقهى أبو موسى، ويبحثون عن السبل التي تسمح لصحفي «الجزيرة» بالعبور بأجهزة التصوير. الدوريات الإسرائيلية تتحكم في مداخل ومخارج القدس الغربية، تستبيحها بفعل القوة وخارج القانون الدولي، ولا أحد يعبر باب المغاربة باتجاه القدس الشرقية أو حائط المبكى (البراق). أشعر بحزن أحيانا. لقد تنازل الفلسطيني عن حق كبير مقابل القليل من السلام، وهل كان يملك غير ذلك؟ حتى الحق القليل الذي أعطي له، ليس له في النهاية. القدس الغربية تخضع لسياسة الموت التدريجي. كل سنة تفقد مساحة وبيوتا وأنفاقا كثيرة، وفي كل سنة تحوط أيضا بمستوطنات الضغينة، وتضيق بحائط العار الذي أصبح مسلمة بعد التواطؤ الدولي الذي رفضه في البداية بشدة، قبل أن يستسلم لسلطان القوة. حتى المدينة القديمة اخترقت من الداخل وسرقت بعض معالمها، وتاريخها. شيء في القدس لا يشبه المدن الفلسطينية الأخرى. لكل طريق أو درب، هدير وصدى خفي. لكل بناية لغة، في العمران، التاريخ، التفاصيل اليومية وكتاب الأحزان. في السنة الماضية عبرت نحو القدس عن طريق معبر قلندية ورأيت عن قرب كيف يسرق من الإنسان ما تبقى من إنسانيته وحبه للآخر. كيف رمى الفلسطيني الخوف وراءه، فيشتم ويحتج بكل ما يملك من طاقة، ولا استغرب إذا كان معبر قلندية البائس هو معبر أيضا نحو الشهادة، قسوة الظلم لا تترك مسلكا آخر أمام الفلسطيني. هذه السنة كان اجتهاد العزيز سامح، مدير متحف درويش المرافق لنا، أقل صعوبة. فقد أقلّنا سفير دولة أوروبية محب لفلسطين، في سيارته الدبلوماسية التي مرت كما يمر الهواء، بلا توقف ولا تفتيش. خفف علينا ذلك وهن المعابر التي كنت أفكر في أذاها وقسوتها بالنسبة للفلسطيني وبالنسبة للزائر أيضا الذي يختار هذا المسلك المضني.
أشياء كثيرة تتغير في ذهنية الإنسان المؤمن عميقا بالسلام، وهو يعبر مسالك المدينة.
في كل خطوة يخطوها باتجاه القدس أو المدن الممنوعة عليه، يحتاج الفلسطيني إلى سلسلة من الإجراءات التعجيزية، وإلى حيل عديدة، ليشم تربة أو يرى أهلا. من باب القطانين عبرت نحو الأقصى. كان مدهشا في صمته وجبروته. كأن وجوده وحده يثبت بأن بلادا بكاملها ما تزال قائمة على كاهله. جلست قليلا وتأملت وجوه الناس. لا شيء يثبت أنها تخفي وراءها عواصف بلا حدود. شممت عطرا كان خليطا من الياسمين والميرامية الطرية. سرت بعدها برفقة الأصدقاء، سالكين طريق الآلام بعد أن صعدنا عبر عقبة المفتي باتجاه سوق خان الزيت، قبل أن نحط الرحال هناك في السوق لآخذ لحبيبتي علياء سلسلة ذهبية باسمها وبعطر القدس، ربما تكون فلسطين في زمانها قد تغيرت كثيرا. واشتريت خاتما لذاكرة القلب وأعراس الروح الخفية. الغريب هو أني اليوم، كلما مررت على مدينة عربية واشتريت شيئا تذكاريا منها، انتابني الإحساس الغريب كأنها المرة الأخيرة التي أراها فيها.
بعدها سلكنا باب العامود باتجاه مخرج المدينة، عن طريق بابها الرئيسي، باب دمشق. ويستقر بنا المقام في دار إسعاف النشاشيبي، بيت عربي قديم أصيل من البيوتات الكبيرة. رُمم بطوابقه وحديقته الجميلة ووضع تحت تصرف النشاطات الثقافية بسبب الأمكنة الثقافية التي تعاني القدس نقصا كبيرا منها.
مكتبتها الغنية حولها روادها من الشباب إلى مساحة للقراءة والسجالية. عندما دخلت إلى قاعة المحاضرات رأيت من هناك جبل الزيتون أو بعضه. أدركت لحظتها أن في فلسطين شيئا أكبر من أيادي الموت. شيئا خالدا.

(عن القدس العربي   http://www.alquds.co.uk/?p=351010

اترك تعليقاً