رواية “مس من الحب” تعويذة أنور الخطيب لقرائه ..
بقلم سامية عيسى
ما هو الحب، ولماذا نصاب بالهذيان حين نحب؟
كيف يبدأ الحب، وإلى أين يفضي بنا؟ وكيف يمكن له أن يصوغنا من جديد؟
أسئلة اقترحها علينا الكاتب والشاعر الفلسطيني أنور الخطيب، في روايته الجديدة ” مس من الحب “. رواية في ” الحب” بطلها كاتب يقف أمام ناشره مرتبكا، وهو يطلب منه أن يعيد كتابة الرواية، ليستولي على امرأته، بطلة الرواية،بوصفها عصية على أن تكون ممكنة . لا يضمن أنور الخطيب روايته هموم القضية الفلسطينية،أذ لم تقترب الرواية منها أو إشكالياتها الإنسانية الأعمق، بل تناولت موضوع الحب بعيدا عن ضغوطات الواقع الفلسطيني المعهود.وهذا شيء جديد وإنساني مطلوب ربما في الأدب الفلسطيني، فالفلسطيني إنسان لديه همومه ومشاغله الإنسانية كأي إنسان آخر،بعيدا عن الأرض ببعدها السياسي أو الجغرافي وهو اللاجئ في أرض الشتات. أتت رواية ” مس من الحب”، في قالب وجودي درامي وفلسفي، لتبحث في عمق الوجود الإنساني من منطلق العلاقة مع الجنس الآخر، خاض الكاتب من خلالها مغامرة البحث عن معنى الوجود وجدواه أذا ما واصلنا المضي في الحب على نحو يستلب أنسانيتنا ويبقي الحب أسير علاقة السيد بالعبد لا في أطارعلاقة تحررنا وتعيد صياغة وجودنا .
يحاول أنور الحطيب في روايته أن يقدم لحب تغيب عنه أوهام التقاليد والتسلط والأنماط الجاهزة المريضة، ليحل محله معنى جديد يتماهي فيه الرجل مع المرأة،ويتبادل الأدوار ويتداولها بوصف الحبيب “أماً ” يحمل حبيبته في ” رحمه “، ويعلن عن رغبته في خلقها من أحشائه. ما يلبث أن يتبادل التماهي بينه وبين الحبيبة، بتبادل تقمص دور الأم، فيولد منها وتولد منه في ذروة الهذيان، بعد أن يمسسهما الحب. وفي ذروة هذا التماهي يغدو الحب عنصر تشكيل للحياة بكل تنوعاتها وتجلياتها، وفي ذروة هذا الهذيان، يستسلم العاشقان للمس، يتبددان ويولدان ويتلاشيان معا، ثم يتجمعان ويتداخلان، وما يلبثا أن يتحدا معا في جسد واحد وروح واحدة، حتى يصعب معرفة أي منهما هو أو الآخر.
مس من الحب ” تقترح الحب طقسا للخلق لا لأعادة أنتاج تبعية المرأة النمطية التي تستمد منابعها من منظومة القيم الذكورية، فالمس بداية الرحلة إلى الحرية والانبعاث.هو بداية الخروج عن الجسد المادي و ” برد العائلة ” وسجن تقاليدها، هو التوق للدفء والعودة إلى الطفولة لأجل بداية جديدة، هو بداية الانعتاق من السلطة: أكانت هذه السلطة ناشرا أم قيصرا أم عالما.. ( بقاؤك عذاب، وخروجك مني خروج الروح من الجسد، ليس لي سلطة عليك، لأن ليس لي سلطة علي..)
” مس من الحب ” تصف حال المحب في ذروة انصهاره بالآخر، فيرتجف لحظة التلاقي مع الحبيبة التي تمضي في خلقه غير عابئة بأي سلطة، بل تستمد قوتها من ” الحي الذي لا يموت” فتدخل حبيبها أكثر في جوف حضنها ورحمها يدخل فيها الكاتب لحظة صوفية تتماهى فيها لغته مع النص الألهي: ( أغتسل بمائك يوم ولدت، ويوم عشقتك، ويوم تموت حيا )، فيثقل رأسه ويهبط جسده ويخف !! كأننا في خضم نشيد الأناشيد التوراتي بل في استعارة بابلية من”أخذة كش” يوم لم تكن هنالك أي قيود تكبل المشاعر والمخيلة حين كان الحب فعلا أيروتيكيا خالصا لا تنسج حوله الأوهام أوالذكورية المتوارثة و المعاد أنتاجها. فالحب أحساس خالص بالحب و لا شيء آخر.
يرتقي أنور الخطيب إلى ذروة الخلق في الصور الشعرية أو التأملات الفلسفية التي يضمنها روايته نراها في اللغة الرقيقة المرهفة والمفعمة بروحانية تتماهى مع المطلق في الحب، وتتصاعد مع درجات من الهذيان إلى الحد الذي يدفع القارئ إلى الانخراط في مغامرة الكاتب والاستسلام للهذيان: ( وفجأة أراني في مهب المحطات، ومفترق طرق، ولا علامة واحدة تفضي إلى مكان واضح، ولا أجوبة لأسئلتي الحائرة، ولا مستقر، ازدادت ثقوبي كجناح طائر مهاجر صب صياد جام غضبه على جناحيه، لكنه يطير وفق ما تشتهي انحدارات الفضاء.. ) .
إذن، لا جواب عن أسئلة الكاتب في الحب سوى هذا الفيض من الحيرة الذي يولده المس، والذي يدفع المحبين إلى التحليق أو الطيران ألى حيث لا جدوى من السؤال عن كنه الحب , بل يصبح السؤال هو عن أمكانية عيش الحب والاستسلام له لما يولده في الكاتب (بطل الرواية) من رغبة دفينة للموت في الآخر، والانبعاث منه . تصبح الحاجة الأكثر ألحاحاهي في فهم حالتنا وما يعترينا من مشاعر وأفكار وتهويمات متلاطمة في بحر هائج لحظة يمسسنا الحب، وهو ما يدفع أنور الخطيب ربما، للجوء إلى الشعر ( وهو شاعر أيضا)، ليعبر عن هذا التوق للتحرر من حيرة السؤال، أنموت في الحب أم نولد أم يبعثرنا الهذيان؟ ( لم يولد أحد من قبل ولم يولد / فتعلق بالماء الأبيض / وتألق كاللوز الأبيض / قد يزحف ماء الصدر إلى العينين / قد يتلاشى المشهد في الضدين / أو قد تمشي في جهتين / فاربط رأسك / واكشف صدرك / وازرع في رئتيك بذور الصدمة / وفي نبضيك شموع العتمة/ واربط شفتيك بقفل الدمع .. ) من الصعب أن نمسك بنص يكتنفه الهذيان، فالبنية الروائية لـ ” مس من الحب ” تندمج اندماجا كليا بموضوعها: تصعد وتهوي في آن، تتماسك وتتبعثر، وتجري بأحداث الرواية في رهافة سلسة، وتنساب كالماء العذب ، ومن ثم توقظك على فجاجة هنا ورقة هناك، فتحتار: هل جن الكاتب فأضل الطريق إلى الكتابة وصار أسير هذيانه؟ولكن لا.لا يحصل هذا. أذ يقكك الكاتب الرواية ويلمها إلى حد الإرباك الذي يجعل شخصياتها عصية على الفهم حينا، ومركبة من تناقضات غامضة وفجة ، حينا آخر، يصعب جمعها إلا في من أصابه الهذيان فصار يتحرك على إيقاع من خبط عشواء. فالحب يترك بصمته على كل شخصية، ويزعزع كيانها، حتى تلك الأشد دكتاتورية أو الأكثر عدلا أو الأكثر حكمة واتساعا.أما المرأة في ” مس من الحب ” فهي متعددة محيرة، تلهب خيال حبيبها، تحرره وتسجنه، تحييه وتميته، تبعثره وتجمعه في حضنها وتسحبه إلى رحمها، ترغب في حمله ثم ولادته، هي جاهلة و حكيمة، هي طاهرة ومغوية، هي ممكنةومستحيلة، هي داعرة ونقية، صادقة وكاذبة، غامضة ومشعة، هي قاسبة ورقيقة، هي أكبر سر في الوجود، لا يرغب الحبيب في كشفه أو التعرف إليه ليبقي على مساحة ملتبسة تبدو عصية على المألوف ليمضي في عوالمها المتعددة، كي يتمكن من تشكيلها من جديد, كي لا تعود تشبه نفسها: ( ولا تتوقع كلاما متوقعا، وكي يكتب فيها كلاما لا يعجبها ويضع إعجابه في اللاكلام، في إحساس غامض، في فضول يعذبني، في انتظار قاتل..)
تحاول الرواية في معرض وصفها للهذيان الذي يعتري المحبين أن تجد رابطا بين تناقضات لا حصر لها تبدأ من التجربة الفردية في الحب وتشترك مع التجربة الجماعية للبشر، إذ يحول الحب شخصيات الرواية إلى أشياء دقيقة رقيقة أشبه بجناح فراشة فيحملهم إلى الجنة التي ينشدها كل كائن أنهكه الثقل حتى لو كان القيصر نفسه، وهو أكثرهم قسوة وجبروتا، حتى لو كان حكيما أو عالما أثقلت عقله المعرفة، فلا تعود أي من الشخصيات على حالها ويصير كل منهم هو ونقيضه، ويمس الحب فيهم كل جوانب حياتهم، ويقلبها رأسا على عقب ليعيد تشكيلها في بوتقة فكرية وروحية وجسدية واجتماعية جديدة ترتب لقلب تقاليد المجتمع في صحراء ما تزال توأد فيها النساء وتذرو حياتهم الرمال وهو ما يبدو نوع من البصمة التى يتركها الشتات الفلسطيني في أدبائه, ومن الجدير ذكره أن الكاتب أنور الخطيب عاش الشطر الأكبر من حياته وما يزال في المجتمع الخليجي.فهو يبدو كمن تجرع الهم الوجودي للمرأة الخليجية وقام بمحاولة مستترة متواضعة أن يعبر عن تجربتها في الحب وتوقها للتحرر منه وفيه حتى يكاد يستعير صوتها ليعبر عن هذيانهابلغة أقرب ما تكون أنثوية. وفي هذا المطلق من الهذيان الذي تعبره ” مس من الحب ” محاولات لا تنتهي لفهم فوضى الأدوار التي يتوزعها الرجال والنساء، حتى باتت الرغبة في الشيء ونقيضه هي التعبير الأمثل عن ” الهذيان” وفوضى العلاقات بعد التقدم السريع الذي باتت تحرزه المرأة العربية وخاصة الخليجية فيماهي على الطرف الآخر تعاني التخلف الاجتماعي الذي يتجلى أكثر ما يتجلى بعلاقة الرجل مع المرأة في موضوع الحب حيث يتجلى التوق للحب طوقا من العذاب وتوقا للحرية في آن ,توقا لأن تكون جديدة. مما يطرح السؤال هل نتحلل مع الحب من كل ما قدم لنا على أنه ” العقل والمنطق والمقبول”؟ نلمس السؤال حين تصل الحبيبة إلى حد الهلوسة، فتتضرع إلى حبيبها قائلة : ( صلني برحمك كي أولد منك، واشهقني كي تزفرني هواء مختلفا وهوى كندى نبضك، أراك أنا كأنك أنا، إني أنت، كأن حواء عادت إلى ظهر آدم، كأن الشجرة استعادت تفاحتها، فلا تبحث عني إلا في حناياك، لأنني لست من آدم ولا من حواء .. )
ينهي الكاتب قصيدته الروائية، وأحب أن أدعوها ” القصيدة “، لانطوائها على لغة شعرية راقية بامتياز يصعب صوغها في رواية كاملة دون شطط، فالكاتب لم يشط عن موضوعه بل حاول أن يمس قارعة الحب على ضفاف الصحراء الذي ما زال غبارها يغطي الوجوه، وحيث ما زالت البنات تتعرض للوأد في غموض الرغبات، وحيث ما زالت القلوب صلدة غليظة وحيث البلاغة الكلامية خالية من المعنى.
( مئات السنين من الكلام ولا أرى حرفا يتشبث بمعناه، لا في أول الكلام ولا في آخره، أيها الكلام الذي تصطدم بالجدران ولا تعود إلي، كم أنت جاف تتدحرج ككرة الثلج! أيها الكلام الحقيقي الناتج عن عرق الصوت القادم من بعيد، من مكان لا يصله عقل ولا مخيلة بشر، تسرب عبر مسامات الاسمنت، واستبح الشوارع والبيوت والمؤسسات والحراس والأماكن السرية.. )
هل هي دعوة صريحة لأن يعبرنا الحب كي نتخفف من أثقالنا ؟هذا هو الاقتراح الأخير الذي قدمه الكاتب لنا-على ما يبدو- بعد كل هذا الهذيان،لنجد أنفسنا فجأة في مصحة عقلية , ربما لأنه المكان الأكثر واقعية حيث يمكن للجنون وحده أن يعيد لنا التوازن وحيث يمكن للحب أن يزهر و يفتح أعيننا وعقولنا وأرواحنا لنعيد النظر في ما نحن عليه وما نود أن نكونه.
تختلف مس من الحب عن روايات أنور الخطيب السابقة عن تجربته الروائية الشعرية بالبناء المعماري للرواية العربية الذي يكاد يكون بناءا قابلا للانفجار في أية لحظة, مما يعبر عن نضوج روائي يحمل من المجازفة ما يضيف للتجربة الروائية العربية فتحا جديدا ينتقل بالرواية العربية أكثر فأكثر ألى العالمية.
سامية عيسى/ روائية وإعلامية لبنانية من اصل فلسطيني