حين توقظني القصيدة      شعر: محمد محمد

حين توقظني القصيدة شعر: محمد محمد

عامٌ وَنَيفٌ وَأَنا أَغُطُّ في قَصيدَتي
وَلمْ نَسْتَيقظْ بَعْد
تَقولُ الشَّجرَةُ: سَأُهْديكَ وَرقَة
تَقولُ الْوَرقةُ: لا داعِيَ الآنَ لِلْكِتابَة
فَما حِبْرٌ يَبْقى في آخرِ الْأَحْلامِ وَلا أَقْلام
يَقولُ الْقَلَمُ: لا حاجَة لِلْحِبْرِ هذا الْعام
فَبِماذا سَوْفَ تَكْتُب؟
يَقولُ الشّاعِر:
بِمِطْرَقةِ الْحَنين
بِعَطشِ الْأَشْواقِ في الْمَنْفى
بِأَناملِ الْحُزْنِ الرَّجيم
بِدَمْعِ الْأَراملِ وَالْيَتامى
بِشَفْراتِ الْحِلاقَةِ الْمُهْملَة
بِأَمْواسِ الرِّجالِ الصَّدِئَة
بِظَمأِ مَصّاصي الدِّماء
بِغَضبِ الثُّوّارِ في كُهوف الْجِبال
وَبِذاكِرَةِ شاعِرٍ في أَحْراشِ الْخَيالِ
سَوْفَ أَكْتُب.

عَنْ وَحيدٍ ظَلَّ صامِداً في ضِفَّةِ الشَّمال
سَأَكْتُب
عَنْ أَصْدِقائي في عُزْلَةِ الْجَنوبِ الْبَعيدَة
عائِلَتي الَّتي خَلَّفْتُها وَرائي
بَيْنَ مِطْرَقَةِ الْوُسْطى وَسِنْدِيانِ النُّزوح
أُمّي النّائِمَة طَويلاً
وَأَغانيها الْحَزينة
الَّتي تَقْرَعُ أَجْراسَ الْعَوْدَةِ بَعْدَ أَنْصافِ اللَّيالي
مُنْذُ أَرْبَعينَ خَريف
سَيّارَةِ أَبي الْبيجو بِطَيْفِها الْأَزْرَقِ الْعَتيق
الْكُؤوسِ الطّافِحاتِ بِدُموعِ الْعَوانِس
في لَيالي الْحُرْقَةِ وَالْأَنينِ الذَّبّاح.

عَنْ أُخْتي الَّتي تَرْقُدُ في بُرودَةِ الْقَبْرِ
وَتَكْبرني بِعام
الْفَقدِ في عُيونِ الْيَتامى
الْجوعِ في عُيونِ الصِّغار
الْغُيومِ الْعاقَّة في سَماءِ الْمَدينَة
الشُّعَراءِ الَّذينَ غَدوْا أَشْباحاً
مِنْ فَرْطِ نُحولِهِم
أَسْطُحِ البِناياتِ الْمُدَمَّرَة
الْمَآذِنِ الْمائِلة
الْخِيامِ الْبالِيَة
الْأَرْواحِ الآيِلَةِ لِلسُّقوط
مَأْوى الْمُشَرَّدينَ في لَيْلِ الْعَواصِمِ الدّافِئَة
وَالْوَطَنِ الَّذي أَكَلَ أَبْناءَهُ وَلَعقَ بَعْدَهُمْ أَصابِعَه.

الْمَنافي وَأَزاميلِ الْحَنين
وَحْدَةِ الْغُرَباءِ الْحَزانى
في الْحاناتِ الصّاخِبَة بِالذِّئابِ الْمارِقين
السُّمومِ الْجَزيلَةِ في كُؤوسِ الْمَحَبَّة
رَسائلِ الْوَداعِ الْمُرَّة
الرِّفاقِ بِكاملِ غَدْرِهِم
مَكائِدِ الزَّوْجاتِ في فَناجينِ الْحَليب
الْمَقاعدِ الشّاغِرَة منَ الْعُشّاقِ
في الْحَدائِقِ الْقاحِلَةِ
وَبَرْدِ السُّجونِ وَالْوَحْشَة.

النّازِحينَ في شِتاءاتِ الْبِلاد
النِّسْوَةِ اللَّواتي حَفِيَتْ قُلوبُهنَّ منْ أَثَرِ النُّزوح
السُّعالِ الْمَجْروحِ في أَوَّلِ الْفَجْرِ في خَيْمَة
خَشْخَشَةِ السَّجائِرِ الْمَقْطوعَةِ في صُدورِ الرِّجال
انْطِفاءِ الضَّوْء في عُيونِ الْمُتَسَوِّلين
فَساتينِ الْأَفْراحِ النّاقِصَة
الْأَفْكارِ السَّمينَةِ وَهِيَ تَنْحلُ في الْحَرْب
الْقَصائِدِ الْماكِراتِ
وَالرِّواياتِ الَّتي لَمْ يَخِطْها أَحْدٌ بَعْد.

خَرْبَشاتِ الْغُرَباءِ الْخائِفينَ
عَلى بَقايا جُدْرانِ الْأَحْياءِ الْمُتَصَدِّعَة
السَّكاكينِ الطّائِشَةِ في خَواصِرِ الْأَبْرِياء
الْأَوْشامِ الْمُذِلَّة عَلى جَبينِ الشُّيوخ
آثارِ الْعابِرينَ إِلى حَتْفِهِم سُعَداء
سَوافي الْمَدينَةِ الْمَرْشوشَة بِالْمُتْعَبين
ميليشيا الْبُنوك
مافيا عِباد اللهِ الْمُتَّقين
جِزْيَةِ الْفُقَراءِ الصّابِرين
وَضَريبَةِ الْمَوْت في غَزَّة
الْأَطْفالِ الْمُتَسَوِّلينَ
وَفي الْقُلوبِ الصَّغيرَةِ أَحْلامٌ وَمَدارِس.

دُروبِ التّيهِ الْعَظيم
النُّزوحِ الْأَخيرِ بَعْدَ كُلِّ ضَرْبَة
الْأَشْواقِ الْمُزْمِنَة وَالْجائِعَة
الْعُيونِ الْمُتَسَمِّرَة النّاظِرَة إِتْمام الصَّفْقَة
الْقُبورِ بِلا شَواهِد
نُواحِ الْحَمامِ الْبَلَدِيّ عَلى أَهْلِهِ الرّاحِلين
الْخُلْدِ الْيَتيمِ حارِسِ فِرْدَوْسِهِ السُّفْلِيّ
حينَ تُوْجِعُهُ أَقْدامُ الْجُنودِ وَهُمْ يَمُرّونَ فَوْقَه
عَرَبةِ الْكارو الْمُكَدَّسَة بِأَحْلامِ الْعاطِلين
الْكَسادِ في سوقِ الْجُمعَة
باعَةِ الْوَهْمِ السَّقيم
السّاسَةِ الْمُتْرَعينَ في لَيالي الْقاهِرَةِ وَشَرْمِ الشّيخ.

الْمَنْسيّين
الْمُشَرَّدين
الْمُجْهَضين
الْحُماة
الْمَفْقودين
وَالْخائِبين
الضِّباعِ الضّائِعَة
الْقِطَطِ الشَّريدَة وَالْكِلابِ الضّالَّة
الْعابِرينَ شِتاءَ بِلادِهِم بِثيابهِم الْبَيْضاء الْخَفيفَة
وَالشُّعَراءِ الْهائِمينَ بِرائِحَةِ التُّرابِ مِثْلي
عَنْهُم جَميعاً سَوْفَ أَكْتُب
حينَ تُوْقِظُني الْقَصيدَة.

…مُحَمَّد…

اللوحة للمبدع الكبير/ ناجي نصر-غزة-

اترك تعليقاً