مهى سلامة بولس
أدبُ الحياة في علوِ إنسان!
بقلم: الدكتور عماد يونس فغالي
كأنّما في خلقها، نفخ الله في اليراعِ حياةً وقال: كوني، فكانت مهى! هذا لأنّكَ تقرأ في متروكاتها الحياة. أطلقت مهى سلامة بولس قلمَها يسيلُ مِدادًا ففاضَ نفسَها أدبًا، يحْلُ لكَ غوصٌ في عمقه، تجدْها…!!
لا يمكنكَ أن تتبيّنَ بين السطورِ، كيفما تجوّلت، أموضوعاتيًّا أم مشاعريًّا، وحتى دلاليًّا، إلاّ شخصَها الأنثويّ الجماليّ، يربطكَ بها تطلبُ بعد! عبر الكلمات، تبانُ مهى واقعيّةً في تعرّفها الدنيا، في تقبّلها ظروفَ الحياةِ وفي تحمّلها الصعوبات. تبدو واقعيّةً تجاه تلقّياتها، أمِنَ الناسِ أتت أم من صروف الزمن… أجميلةً كانت أم قاسية…
لهي في اختصار تكتبُ الأدبَ الإنسانيّ، تنزف الأدب إنسانيًّا. مهى سلامة بولس، أديبةٌ في رتبةِ إنسان.
عرفتُكِ مهى شخصًا من بعيد، تقاربنا على صهوةِ القلم، لأَعجبَ كم معجبةٌ بالكلمة كنتِ وأحبّ. ارتحالُكِ في ارتفاعات الصليب، يبقيكِ سيلاً أغدقَ القرطاسَ نبضًا لا يدركُ الرحيل!
كتبت مهى لسانها ناطقًا محكيّتَها… كأنّما يأخذُ يراعها صفةَ الآخر تجلسُ إليه، تحدّثه نديمَ الحالةِ اليناقشانها. لغتُها الأدبيّة تخلو من محسّنات إلاّ تلكَ القيميّة التدعو إليها، نفسَها قبل محدّثها. الصناعةُ الأدبيّة ليست عندها أسلوبيّةً، هي “مَهَويّة” في امتياز، ميزتُها الأعلى التشويق… لا لكَ إلاّ رغبةٌ بعودٍ إلى النصّ يشدّكَ إلى الْتِهام!
مهى، كتبتِ حياتَكِ موضوعاتٍ في مقارباتٍ شعريّة. في توجّهكِ أمًّا إلى ابنكِ، وإن ختمتِ موقِّعةً “بلْسان كلّ الإمّات”، كنتِ الأمَّ مهى، تقولين صدقَ فكركِ الأموميّ إلى ولدكِ اليُهاجر. مهى المختلفةُ الأمومة المرتفعة، اللها أن تنقص لينمو ابنُها…
“روح يا ابني
بس خلّي بقلبك شويّة وفا…
ما تخلّي البعد
يخاويه الجفا…
حمول حلمك معك
وخلّيه يحلّق
مع الصوت
مع الصدى..”
في القصائد المعالِجة العلاقات التواصليّة بين الشاعرة والناس في مَن هم لها، الحبيب منهم أو الصديق، تعاملتْ مع وفائهم أو هجرهم وخيانتهم، بكبَر خبراتها المتراكمة… لافتةٌ في هذا السياق قناعتُها باللا عودة:
“كيف راح معها
الحلا ومضى
وما بقي نوا
من الرجعة لورا”.
الألم، تنزفه مهى على الورقاتِ كما تشعره في جسدها، وتقاسيه في نفسها العاشقة الحياة، المناضلة للفرح. الألمُ نبعةُ وحيٍ كَلِميّ، أخرجَ مهى من عمق معاناتها إلى جريان روحِها الشفيف، يعانقها أدبًا جماليًّا يذرف بقاءً في رحم اللا بقاء!!
يقول بولس الرسول: صادقةٌ الكلمة. هذا حالُ مهى مع الألم. تقولُ صدقَ حقيقتَها مع الألم المتأتّي من خبيثٍ اعتدى على سلامتها، تصفه وما فعلَ في نفسِها معاناةً، وجسدِها من علاجٍ قاسٍ، بقدرِ المرض:
“تلات أسابيع وقف الأكل الحكي
خصوصًا لحظة شكّة الإبرة بالذات
ما ممكن إنساها للممات”.
تعودُ بي القصيدةُ هذه إلى الشاعر أديب صعيبي يصف في قصيدته “دائي” أعراضَ داء السكّري ومراحل تغلغله المؤذي في جسده، وتداعيات علاجاته المزمنة… تعاملتْ مهى مع المرض في مكتوباتها بواقعيّةٍ جعلته من أغراض الحياة.
الألم في مهى لم يقتصرْ على الجسد. جاءها أيضًا في المشاعر. الحياةُ العلائقيّة قدّمتْ لها صليبًا في صورةِ اللا وفاء، دُقَّتْ مساميرُه في قلبها السالَ حبرًا معبّرًا:
“غدرني العمر…
وأنا هون بعدني
وحيدة وناطرة…
رح يضلّ العتب
سهران حدّ العتمة
ليخبّر الورق كلّ ليلة…”
أمّا الموتُ فقاربته مهى بفكر. كأنّما ليسَ النهاية بل مسيرة انتهاء. الحياةُ مطعّمة بمحطّاتِ انكسار، هي في مفهوم شاعرتنا “موت عالهدى”، أو موتاتٌ صغيرة متواصلة… لكنّها لا توصلُ إلى موتٍ كامل إلاّ ال
“بخاف من المصير
وما بيتّكل كلّ لحظة
عا الله والصلا”.
في عَودٍ إلى انبثاقاتِ مهى الشاعريّة، تقودُنا بداياتُها إلى كتاباتٍ في اللغة الفرنسيّة. هي براعمُ تأمليّة أنجبتْ نضجًا فكريًّا أبقاها هي هي، مهى الباحثة في خفايا الحياة وماورائيّاتها المدهشة. انسيابُ لغتها الشعريّة الفرنسيّة يقودكَ إلى تلمّسِ شخصها الشاعرة العابر اللغة… تلكَ التتقنها فرنسيّةً أوّلاً وعربيّةً بعدئذٍ، محكيّةً وفصحى!
أرختْ مهى يدَها عن اليراعِ، وبعدُ المِدادُ يهدرُ مكنوناتٍ موضوعاتيّة، ويحلو بأسلوبٍ في طور التألّق، لتتلألأ في عليائها أديبةً ذهبيّةَ الكلمة، تنثرُ مدوّناتُها عطرًا زكيًّا في واحة الأدب، تفوح ارتقاءً إلى المدى الأرحب، أدبًا علوُه الإنسان!!
في ٣٠ كانون الأوّل ٢٠٢٤