الحرية والانعتاق في رواية “ناي على جسد” للأديب أنور الخطيب
“ناي على جسد: خروج دموي عن النص” هي رواية تعبر عن حياة موازية، تحاول أن تقول كل شيء دفعة واحدة من خلال رؤية جديدة للعالم، مجسدةً تناقضاته.
الرواية تحتوي على فلسفات معقدة وتسعى إلى هدم المسلمات.
تترك الرواية خيارات البناء مفتوحة للقراء، ما يجعل الشخصيات متمردة وثائرة، تقرر مصيرها بنفسها.
جواد العقَّاد
>إن الإبداع الأدبي في كل مرحلة من مراحل التاريخ يجسد روح العصر وصراعات الذات مع محيطها، وهذا ما نقرأه بوضوح في رواية “ناي على جسد” لأنور الخطيب، التي تتجاوز حدود الرواية التقليدية لتقدم رؤية جديدة ومغايرة للعالم. الرواية تتفجر بالأسئلة وتتشابك في متنها فلسفات متعددة، وتخوض معركة معرفية مع المفاهيم المسلّم بها. وفيها، لا يتمثل البُعد الوطني في سيرة أو ذاكرة شعبية، بل يتمازج مع رؤية تجريبية مدهشة، حيث تسعى الرواية إلى الخوض في تعقيدات الذات والوجود والحرية، ما يجعلها عملاً مغامراً قد يراه البعض فوضويّاً، ولكن في النهاية هو مخاض إبداعي يسعى للانعتاق من جمود الواقع الثقافي والسياسي.
ورغم أن الرواية تتضمن هماً وطنياً عميقاً، إلا أن هذا الهم ليس هو المحور الوحيد، بل يأتي من خلال الأسئلة الوجودية والفلسفية ومواقف الإنسان وتفاعله مع الواقع الذي يعيشه. كذلك، نجد أن الشخصيات تتجاوز الصورة التقليدية للبطل الوطني؛ فكل شخصية تتحرك بحرية داخل الحكاية، وكل واحدة منها تتخذ قرارها في بناء عالمها الخاص، وتتمرد على القوالب المعروفة والمحددة. تاركةً للأحداث أن تفرض نفسها بنفسها دون تدخل مباشر من السارد. حيث يتكئ الأبطال على جدار عند البحر يفصل بين الواقع والحلم، يتقاطع مصيرهم في لحظة من الصمت. والبحر هنا ليس مكاناً بل هو تجسيد لتقلبات الحياة والبحث المستمر عن معنى وسط المجهول.
أنور الخطيب، الذي تمتد أعماله إلى أكثر من نصف قرن، قد اعتاد أن يكون كاتباً فريداً يتجاوز النمط الأدبي السائد منذ بداياته. وقد أشار لذلك نقاد كثيرون. في روايته الجديدة “ناي على جسد” يضعنا الخطيب أمام تجربة إبداعية مختلفة تأخذنا إلى عوالم غير تقليدية. إذ تتمحور الرواية حول شخصية كاتب يسعى لكتابة روايته الأولى والأخيرة، ويمر في معركة مريرة مع شخصياته التي ترفض التقيد بالقوالب المعروفة وتطالب بتقرير مصيرها بشكل كامل. هذه الشخصيات، التي تمثل فكرة الثورة على السرد النمطي، تتخذ من تمردها على الكاتب نقطة انطلاق للبحث عن خلاصها، مما يضع القارئ في مواجهات مع أفكار قد تبدو للوهلة الأولى متناقضة، لكنها في النهاية تعكس رغبة عميقة وجذرية في التحرر من القيود الفكرية والوجودية. ولا يقتصر التمرد على الأفعال فقط، بل يمتد إلى الذهنية التي تتحكم في الكتابة نفسها، فكل شخصية تطرح رؤية جديدة لعالمها، وتستطيع أن تفرض تصورها للأحداث بناءً على رغباتها الخاصة. هذا التمرد على السرد التقليدي يجعل الرواية في النهاية أكثر من حكاية أو حكايات متداخلة، بل هي طرح فلسفي ووجودي عن الحرية والاختيارات الإنسانية.
تقدم الرواية تدريباً ذهنياً وعملياً يحمل أبعاداً فلسفية للمهتمين بفنون الكتابة الروائية وأسرارها. البطل، يوسف السعيد، الذي يسعى لكتابة رواية أولى وأخيرة، فيخلق شخصياته ويتحاور معها، ومنهم “سلامة” السياسي وزوجته “تغريد”، وابنته “سلمى” وعشيقها “سليم” عازف الناي. الناي، برمزيته للتحرر والانعتاق، يمثل إحدى الأفكار المركزية في الرواية. سليم، العازف، يمرر الناي على جسد عشيقته قبل كل أداء، مؤمناً بأن إبداعه لا يكتمل دون هذه الطقوس. هذه الحالة تعكس وعي الكاتب بالمخاطرة في طرح الأفكار الجريئة وغير التقليدية، فإنه في سبيل ضبط حبكة الرواية وأحداثها وأفكارها، ابتكر الكاتب شخصية “السيد صاد” ليكون بمثابة الرقيب الداخلي، “الضابط” الذي يُنظّم المسرح الدموي ويوازن بين الطيش والنظام في السرد.
تتجلى براعة الكاتب في تحريك أفكاره عبر السارد، يوسف السعيد، الذي يدخل في حوارات فلسفية مع شخصياته. في مشهد مؤثر، يخاطب سليم السارد (الشخصية تحاور السارد) قائلاً: “سمعتك تقول إنك ستقتل كل الشخصيات لتبدأ من جديد. هذا يعني أنك سترتكب مذبحة؛ فتكون أول كاتب دموي يتبع هذا الأسلوب، ولن يؤيدك نقاد كثيرون، لأنك تزلزل الأطر التي يستخدمونها.”
ليس من السهل قراءة رواية كهذه بالطريقة التقليدية. “ناي على جسد” ليست سرداً للحدث فحسب، بل هي محاولة جادة لإعادة تعريف السرد نفسه. تتحرك الرواية بين خطوط متشابكة من الفلسفة والوجود، حيث يسعى الخطيب من خلالها إلى هدم العديد من المسلمات التي قد تبدو من وجهة نظر المجتمع أو القارئ السائد منطقية ومقبولة. فالرواية تتضمن رؤية تفكيكية، حيث يتم تكسير الكثير من الأطر الأدبية التي كانت تُنظر إلى الرواية العربية من خلالها، وتفتح أبواباً جديدة للتفكير النقدي وإعادة النظر في بنية العمل الأدبي.
وما يميز الرواية أيضاً، نهايتها المفتوحة، حيث رفع الكاتب يده وترك الشخصيات في فوضى عارمة أمام مصيرها المجهول، فلا تقدم الحلول الجاهزة، بل تترك للقراء خيارات واسعة في بناء المعنى الخاص بكل منهم. فتسعى إلى أن يكون النص هو الفضاء المفتوح الذي يمكن للقارئ أن يملأه بما يشاء، دون أن يلتزم بتفسير محدد أو أحكام مسبقة. وهنا تكمن قوة الرواية، في قدرتها على خلق مساحة من الحرية الفكرية، حيث لا شيء ثابتاً، ولا شيء مفروضاً، وكل شيء في متناول اليد لاكتشافه وإعادة تشكيله. ولعل هذا يتماشى مع الأفكار التي يرير الكاتب تمريرها من خلال روايته، فيقول على لسان سلامة في قبل نهاية الرواية: (أرغب في إحياء أفكاري وتخليص الناس من الخرافات، وأريد مساعدة سليم وتريزا وتغريد وسلمى على التحرر).
في النهاية، “ناي على جسد” للروائي والشاعر الكبير أنور الخطيب هي رواية تنتمي إلى عوالم التجريب والمغامرة، وتتجاوز حدود السرد والواقع والمعنى. فكما يمكن لكل شخصية أن تصنع عالمها الخاص، يمكن للقارئ أن يعيد تشكيل هذا العالم بما يتناسب مع رؤيته الشخصية. هي دعوة حقيقية للخروج من دائرة المألوف، إلى فضاء واسع مليء بالأسئلة التي لا تنتهي. ولا شك في أن هذه المقالة لا تحيط إلا بشيء يسير جداً من رواية عميقة وملتبسة ومفتوحة على كل الفضاءات المعرفية.
ويذكر أن الرواية من إصدارات دار دلمون الجديدة في سوريا، وتشارك في معرض الشارقة الدولي للكتاب 2024م ضمن جناح دار كنعان.
<span;>جواد العقاد: شاعر وكاتب وباحث، فلسطيني يقيم في غزة.