(مأزق «بيبي» في لبنان: هل يُطيح البلد الصغير بأحلام بسمارك العصر؟)….بقلم: ندى حطيط

(مأزق «بيبي» في لبنان: هل يُطيح البلد الصغير بأحلام بسمارك العصر؟)….بقلم: ندى حطيط

(مأزق «بيبي» في لبنان: هل يُطيح البلد الصغير بأحلام بسمارك العصر؟)….

ظ
الذي شاهد بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء الدولة العبريّة، وهو يلقي خطابه الأخير على منصّة الأمم المتحدة – 27 سبتمبر / أيلول الماضي – مزهواً متعجرفاً، بينما يتابعه نصف العالم على الشاشات، ظنّ لوهلة أن هذا السياسيّ الأفاق، قد ملك العالم، ولم يعد يوقفه أحد – بسماركا جديداً كما أسمته مجلة بريطانية، أي نظير الزعيم الألماني الشهير الذي غير وجه ألمانيا وأوروبا إلى الأبد.
إذ كان بيبي (لقبه وعنوان الكتاب الذي يروي سيرته الذاتية) منتشياً بعدما أنهك عدوه في لبنان بهجمات دمويّة وحشية غير مألوفة من خلال أجهزة النداء ومعدات الاتصال اللاسلكي واستهداف عدد من كبار قادته بالاغتيال المباشر، وكان قد أرسل قواته بعدها في غزو جديد لذلك البلد الصغير كفاتحة لما وصفه بتغيير شامل لوجه منطقة الشرق الأوسط، بينما بدا وكأن حرب الإبادة التي قادها ضد قطاع غزّة لما يقرب العام حينها قد أنهت أي تهديد فعليّ للدولة العبريّة من ناحية الجنوب. وليزيد العالم من الصلف، استقصد أن يصدر الأمر لطائرات سلاح الجو الإسرائيلي باغتيال الأمين العام لحزب الله، وهو لا يزال في جوار المنظمة الأممية، قبل أن ينشر رسالة فيديو مسجلة يبشّر فيها الشعب الإيرانيّ بأن بلده «ستكون حرة في وقت أقرب مما يعتقد الناس»، ليكتمل عندئذ انتصاره الحاسم.

بعد كل صعود هناك هبوط

«بيبي» مكروه من كثيرين: زعماء غربيّين وعالميين يرونه متبجحاً وغير جدير بالثقة، ويصوره اليسار الإسرائيلي كلص فاسد ينبغي محاكمته وزجه في السجن، فيما يراه اليمين كشخصية ميكافيللية غير معنية سوى مجرد البقاء في السلطة. ومع ذلك فقد ظل رئيساً لوزراء الدولة العبريّة لمعظم الوقت خلال الخمس عشر سنة الماضية، وأصبح منذ ما يقارب عقدا من الزمن، موضع الجدل الرئيسي والقضية المركزيّة في السياسة المحليّة الإسرائيلية.
وقد جرّب خصومه السياسيين إزاحته من الواجهة في خمس منازلات انتخابيّة دون جدوى، فيما فشلت تظاهرات عريضة شارك فيها مئات الآلاف من مواطنيه في إسقاطه. وحتى هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول الصاعق، بكل ما تسبب به من لوم للأجهزة العسكريّة والاستخباراتية والأمنية للدولة بالفشل والتقصير لم يكن كافياً لدفعه إلى هاوية التقاعد من العمل السياسي، بل بقي جالساً في مكتبه في القدس المحتلة، كملك متوج، رئيساً للوزراء مدعوما بتقدم صريح في استطلاعات الرأي التي تمنحه الصدارة في حال أجريت الانتخابات غداً.

عربدة ورعونة بلا ضوابط

رغم تاريخ من الاستفزازات والاستهدافات المتكررة من قبل الدّولة العبريّة، فقد اكتفت الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران دائماً بالتهديد والتحذير والوعيد. وحتى عندما تحدتها حكومة تل أبيب وقصفت سفارتها في دمشق – التي تعد وفق القانون الدّولي أراضي إيرانيّة – اضطرت طهران إلى إطلاق هجوم ذي طابع رمزي بالمسيرات والصواريخ التقليديّة، واعتبرت أن في ذلك عبرة لمن يعتبر. لكن بيبي ليس حتماً من المعتبرين، وعاد لإهانة إيران مرتين: فاغتال الشهيد إسماعيل هنيّة، رئيس المجلس السياسيّ لحركة حماس في مقر إقامته الرسمي في قلب طهران، حينما كان ضيف حفل تنصيب رئيسها الجديد، وتجرأ على استهداف أهم شخصيّة تدعمها إيران على مستوى المنطقة: الأمين العام الشهيد لحزب الله، في قلب معقله في الضاحية الجنوبية لبيروت.
ولمّا لم يعد ممكناً للسلطات الإيرانية الاستمرار في الصمت تحت تهديد خطر فقدان التأييد الشعبيّ للنخبة الحاكمة، أطلق الجيش الإيرانيّ أكثر من 200 صاروخ باليستي بعضها متطور فشلت قبب (إسرائيل) الحديدية المتراكبة في اعتراضه، فسقط على عدد من القواعد العسكريّة – باعتراف الجيش الإسرائيلي – وتسببت لها بأضرار لم تعترف بتفاصيلها الدّولة العبرية.
مظلة الحماية الأمريكيّة الدائمة للدولة العبريّة والمزاج الذي تركنا فيه «بيبي» بعد خطابه من منصة الأمم المتحدة جعل أغلب المتابعين يميلون إلى احتمال أن يستغل رئيس الوزراء الإسرائيلي الهجوم الصاروخي الإيراني كذريعة لتحقيق أهدافه الاستراتيجيّة كلها معاً: قطع أيادي (الأخطبوط) الإيراني الممتدة – وفق نتنياهو دائماً – عبر الشرق، واجتثاث التهديد النووي الإيراني بشكل حاسم، ومن ثم إسقاط النظام الإيراني واستبداله بأتباع الشاه المخلوع، وربما تفتيت الدولة الإيرانية إلى دويلات عرقية متنازعة.

ثم جاءت الصفعات متتالية

لكن ما حصل تالياً، كان أقرب إلى كابوس أقض مضجعه.
فبناء على تقييم الهجوم الإيراني الأخير فإن كيان دولته الهزيل في المقاييس الاستراتيجيّة قد يتعرض لهجوم صاروخي مؤذ، إن هو تجرأ على مهاجمة إيران، ولا يبدو الغرب متشجعاً، رغم عدائه لنظام طهران، على فتح حرب قد تتسع وتؤثر على إمدادات النفط الحيوية من المنطقة، كما فشل الجيش الإسرائيلي بعد عشرة أيّام من محاولات الاختراق في تحقيق أي تقدم بريّ على جبهة الشمال مع لبنان، ناهيك عن تعرض شمال فلسطين المحتلة إلى مزيد من الهجمات المتلاحقة على مدار الساعة، قبل أن يتلقى مزيداً من الصفعات على الجبهة الداخليّة مع إطلاق المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة صواريخ على تل أبيب عشية ذكرى مرور عام كامل على هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، واستعادة الفلسطينيين لفن هجماتهم الفرديّة الجريئة في قلب المدن الإسرائيلية، والتي شن بعضها فلسطينيون من الأراضي المحتلة عام 1948 ممن يحملون جوازات سفر إسرائيلية.
كل ذلك، وضع بيبي في مأزق صعب لا يحسد عليه، فهو كبسمارك معاصر ملزم أمام جبهته الداخلية بتوجيه رد ثقيل للإيرانيين، حتى وإن تنازل عن طموحاته الأكبر بإسقاط نظام الملالي في طهران، وعليه أيضاً المغامرة بحرب برية مريرة في لبنان، تدل الخبرة التاريخيّة أنها لم تكن يوماً نزهة سهلة، وإن وصلت قوات جيش الدفاع إلى قلب بيروت، فيما دخل على الأسرى الإسرائيليين المحتجزين في قطاع غزة عامهم الثاني دون أفق يتعلق بفرص إطلاق سراح من تبقى منهم أحياء، في وقت تتزايد فيه الإدانات الشعبيّة عبر العالم ضد حرب الإبادة المستمرة ضد الفلسطينيين.

الخطوة التالية: الأحداث تجاوزت «بيبي»

كل تلك الصفعات، دفعت بالأحداث لتسبق بيبي، ولا شكّ أن الأيام القليلة المقبلة ستكون الأقسى عليه أكثر من أي فترة أخرى في حياته المهنية، وستحدد خطوته التالية مكانته في التاريخ، فيذهب فيه كطبل أجوف يطلق التهديدات بسيف الأمريكي، دون أن يكون قادراً على الوفاء بها، أو كنرجسي مأفون قاد شعبه والمنطقة إلى حرب طاحنة قد يصبح بقاء الدولة العبرية نفسها موضع شك، لكن المؤكد في كل الأحوال أن بقاء نتنياهو في موقع القرار أصبح خطراً على العالم برمته.
استمر بسمارك الألماني في منصبه 19 عاماً، وتركه بعدها لإحساسه بالملل «بعد أن أُنجزت كل الأشياء العظيمة». أما بسمارك الإسرائيلي، فيبدو أنّه لن يكسر ذلك الرقم، ولن يحقق شيئاً من تلك الأشياء العظيمة التي حلم بإنجازها، وقد ينتهي ذليلاً منبوذاً من ناسه.

٭ إعلامية وكاتبة لبنانية – لندن

https://www.alquds.co.uk/%d9%85%d8%a3%d8%b2%d9%82-%d8%a8%d9%8a%d8%a8%d9%8a-%d9%81%d9%8a-%d9%84%d8%a8%d9%86%d8%a7%d9%86-%d9%87%d9%84-%d9%8a%d9%8f%d8%b7%d9%8a%d8%ad-%d8%a7%d9%84%d8%a8%d9%84%d8%af-%d8%a7%d9%84%d8%b5/?fbclid=IwY2xjawF48NZleHRuA2FlbQIxMQABHc-vSGSqYamrSPGoNMxU9U0xQ2mt6tBtyRfGTf1G-KNj6hc2IvhFho7zAA_aem_u9dv1G6RJEXJNYSnf1kUrg

 

اترك تعليقاً