للأسف فإنّ الكثير ممّا نقرأه من شِعر، في أيّامنا، لا يمثّل الحداثة بمعناها العميق. والحداثة هي الحالة الابداعية العميقة في كلّ زمان. فأبو تمّام والمتنبّي وأبو نواس وأبو العلاء المعرّي على سبيل المثال أكثر حداثة من معظم “الشّعراء” المعاصرين. والحداثة في الشّعر هي تخلّي عن النّظرة السّطحية للأشياء والتّركيز على العمق الدّاخلي للعلاقة بين الإنسان والعالم. فهو يسعى إلى تجاوز الرّؤية الأفقية الّتي تركّز على الأشكال الخارجيّة والوظائف الظّاهرية، ليغوص في جوهر التّجربة البشريّة ويكشف عن العلاقة الجوهريّة بين الذّات والواقع. في هذه الرّؤية، لا يعود الشّعر مجرّد تصوير للعالم الخارجيّ كمناظر أو وظائف ثابتة، بل يصبح وسيلة للتّعبير عن الوجود الدّاخليّ والتّفاعل العميق مع الكون. هذا الانحراف عن الوصف التّقليديّ نحو التّفاعل الدّاخلي يعكس توجّه الشّعر الحداثيّ الّذي يهدف إلى تفكيك الثّوابت الشّكليّة وتجاوزها نحو البحث عن المعاني الغامضة والمستترة. الشّعر الحداثيّ، وفق هذه الرّؤية، يعيد تشكيل العالم من خلال إدراكه كعالم غير متجانس، مليء بالتّناقضات والمعاني غير المكتشفة، ممّا يفتح المجال أمام الاستكشاف الإبداعيّ والتجّديد المستمرّ.
وفي هذا السّياق يقول أدونيس: “يتخلّى الشّعر الجديد عن الرّؤية الأفقية. ففي معظم شعرنا المعاصر والقديم، تبدو الحياة مشهدًا، أو ريفًا أو نزهة. فهو ينظر إلى الأشياء باعتبارها أشكالاً أو وظائف. ولذلك تبدو فيه العلاقة بين الإنسان والعالم علاقة شكلية”.