قصّةٌ موسومةُ التربية، الإنسان!
(كلمة الدكتور عماد يونس فغالي في حفل توقيع “أمنيتي في شعاع القمر” للدكتور جورج ابراهيم حدّاد، في حديقة الدكتور عبدالله سعادة أميون الكورة)
أتنضمّ يا حبيبُ رغبتُكَ احتفاءُ “لقاء” بكتابكَ القصّة إلى أمنيتكَ في شعاع القمر؟ إن يكنْ هذا، يَقُم “لقاء” في مرتبةِ المختارين.
بيني وبين المؤلّف الحبيب، رباطُ كلمةٍ وأدب، يمتدّ إلى عقدٍ ونيّف عَودًا في الزمن. يُكبرُ واحدُنا في الآخر ما يشدّ أواصرَنا متينًا. “لقاء”، النحنُ، اليدعو إلى حفلنا هذا، تحتفي به دكتور جورج، إطارًا يرتفع إلى مستحقٍّ يحتضنُ الكتابَ وصاحبَه في أرضه الكورة الطهور… شكرًا لهذا الشعاع اليضيئنا!
وبعد،
أهديتَ القارئَ يا كاتبُ قصّةً تقول. أهديتَه قصّتَكَ أنت. القارئ المستهدَف، ابنُ عهدِ الصبا واليفاع، قدّمتَ له “أنتَ” الصبيَّ اليافع. وإن يعترضْ راشدٌ، أُجبْه: إنْ يمتعْكَ النصّ، تعُدْ حكمًا إلى تلكَ السنّ، وإلاّ تكنْ في ضلال!
“أمنيتي في شعاع القمر”. في العنوان شخصيّتا القصّة البطل. ياءُ المتكلّم والقمر… الأمنية والشعاع مرسلتا البطلين تبادلاً.
ياء المتكلّم، “أنا” الراوي من داخل، تبانُ ظاهرًا السياقَ كلّه. ربّما، لكن لا ملءه. هو جورج الفتى العاشَ السياق، سكبَه في القصّةِ ليبقى. الزخارف التبان فولكلوريّة لِما ابتعدت في الزمن، وأقولُ ابتعدت في المعيوش الإنسانيّ الغاصَ في القريةِ الكونيّة الأرستها العولمة، تبقيها القصّةُ شخصيّةَ كاتبها، بل مَحاورَ طبعتْ جيلاً كاملاً انتمى إليه، يحياها كلُّنا في تتابع السرد، فتكون ياءَ كلّ قارئ عبر إحيائه المرورات السياقيّة في يوميّاته الماضية.
ياء المتكلّم هي جورج ابراهيم حدّاد أنموذجًا، الطارحُ أمنياتِه المستدامة في شعاعاتِ قمره… القمرُ الشخصيّةُ البطل، نديمُ الحالمِ في يقظةِ تطلّعاته، تلكَ الفاتحة له الآفاقَ في الرحب. نديمٌ واقعيٌّ في مسيرةِ الحلمِ المحقِّق الأبعاد نحو العلى.
الشخصيّتان، “الأنا” والقمر، لا يفترقان في المتن. ما يطبعُ العلاقةَ اليفاعيّة بينهما بوسمِ الحقيقة: من منّا لا يرجع إلى نديمه في الليالي المقمِرة، يضع على بساطه انطلاقاته وما آلَ إليه؟
ركيزتان ثابتتان، يتّكئ عليهما النصّ موضوعاتيًّا: العائلة والتنشئة البيتيّة فيها، والحياةُ الضيعويّة مجتمعيًّا ومرتعها الخارجيّ، أقصد النشاطَ في الطبيعة وتفاعل الناس فيها. كأنّما يتبعُ الكاتبُ نهجَ أدبائنا العالين مارون عبّود وتوفيق يوسف عوّاد وأخاه إميل وغيرَهم، لكن في تميّزٍ مبين. القراءةُ أعلاه فرادةُ القصّة.
لا يتردّد الكاتب في عرض مشاغباته وزلّاته الصبيانيّة الشكّلته مثالاً للركيزتين البنى حبكتَه عليهما. ما عرّضَ نفسَه له أحاطه بتلقيناتٍ مربّية على امتداد الصفحات، إنْ من خلال التحذيرات الوالديّة من جهة، أو عبر تداعيات السقطات الميدانيّة التي رفدتْ به إلى مسلكيّات قرّرها لنفسه من جهةٍ أخرى.
بديهٌ، الكاتبُ لم يسدِ نصيحةً ولا ادّعى عبرةً. هو السردُ في الامتداد فعلَ فعلَه دائمًا، ليصلَ إلى حادثةٍ عاديّتُها مألوفةُ اليوميّات المدرسيّة، جرت احتفاليّةٌ بها لأمثولتها القِمّة. الكاتبُ الشخصيّةُ البطل، يُكافأ برتبةِ إنسان.
د. جورج، أمنيتكَ في شعاع القمر، لا أعتقدني أفهمها أكثر من أنسانيّةٍ تغلبُ عالمَنا التربويّ، الأنتَ فيه رائد. أخالكَ تقفُ في الصفّ، تنظرُ أحبّتَكَ الطلاّب، تبوح سرّكَ على مشارفهم لصديقكَ القمر: “حسبي أراهم جميعًا يعتنقون الإنسانَ مسلكًا وحياةً”!
في هذه يا حبيبُ، يحسبونكَ في عالمنا غريبًا. نبتعدُ في منظومتنا التربويّة إلى تفريغ المتعلّم من حسّه الإنسانيّ بعامّة، ليدخلَ شيئًا فشيئًا نظامَ العولمة، وبعدُ أبشع… ولن أضيف!
الكتاب موضوعُنا الليلة، يعيدني إلى ما حدث يومًا مع الدكتورة ربى سابا حبيب في فرنسا، يوم طلب إليها عميدُ كليّة الهندسة، مادّةَ الأدب معقَبًا لتعجّبها: من دون العلوم الإنسانيّة والآداب، نخرّجُ آلةَ معرفة لا إنسانًا، وهذا نرفضُ أن يحصل!
نعم، ترفضُ دكتور جورج، من موقعكَ، هنا كاتبًا، إلاّ أن يبقى متعلّمونا، في خضمّ ما يواجهونه من تيّاراتٍ فكريّة، حاضنة من داخل أحيانًا كثيرة، موسومين بختمِ “إنسان”، وميضُه شعاعُ القمر في حالكِ الظلمات… سعيُكَ الترجمتَه في الاستثمار التربويّ على الصفحات الأخيرة، لا بدّ يحرّكُ، وإن غصْبًا، توجّهًا من عمق نحو ميناءاتٍ ترسو فيها إنسانيّتُنا، محارًا لا يُصرف إلاّ بعملةِ فوق!!