(في كتاباتها الشعريّة، تقتربُ ربى الشاعرة من الذات الإله عبر جناحيها المفتوحتين حريَةً كاملة… حريّة شعريّة مطلقةَ الحداثة… بليغةَ الصورة والإيقاع. في هذه لا أغفلنّ عن تنويهٍ بحضورها الإلقائيّ المزدوج الدهشة..)
إنْ يُذكر اسمُ ربى سابا حبيب بيراعة عماد يونس فغالي، يرُحِ الفكرُ طبيعيًّا إلى كلامٍ مجرّحٍ بالمحبّةِ والإعجاب. ومع هذا آثرتُ أن أكتبَ في اسمٍ لا يمرّ إلاّ لامعًا في فضاءاتِ الكلمةِ طرًّا.
أن تولدَ في طرابلسَ وتدرس في معاهدها العريقة، زمن المعلّمين الممتلئين، أمثال أديب صعيبي، زمنَ العلمُ غرفٌ من ملء، والمعلّمون أشاوسُ في مواقفهم وعطاءاتهم. أن تولدَ في عائلةٍ من كورةٍ زيتونةً خصبةً، الكلمةُ الجمالُ توقّع فؤاد سليمان، قمرُه الدربُ الذي سرَتْ عليه خطواتها الأولى وكلَّ المسار، لتكون القمرَ الذي يستضيء به الأدب…
من المدرسة الأرثوذكسيّة في طرابلس، إلى فسيح التعلّم الجامعيّ أدبًا عربيًّا وفلسفةً عامّة في كلّيّة الآداب وكليّة التربية، إجازتان من الجامعة اللبنانيّة في أمّ العلوم والكلمة الجمال… أيّةُ شخصيّةٍ تتشكّل من مزيجِ فكرٍ ونسيجِ تحليقٍ في الفضاءات المعرفيّة العليا… ولم ينقصها ارتباطٌ زوجيّ بدكتور الفلسفة بطرس حبيب، الذي أتتْ وإيّاه على أمّات التخصّص اعتلاءَ القمم.
إلى عاصمة الأدب، في جامعتها الأرحب، حطّ رحال ربى في السوربونّ إعفاءً من ماستر، ومنحةً من الحكومة الفرنسيّة، على شهادة الدكتوراه بعنوانٍ: “موت الحضارة العربيّة وانبعاثها في الشعر العربيّ الحديث، دراسة نصيّة لنتاج الشعراء بدر شاكر السيّاب، خليل حاوي وأدونيس”. موضوعٌ تأسّس أطروحةً، أسّسَ لحداثةٍ، عصرَ شعرٍ ومدرسةً أدبيّةً بكرًا. كما هيّأ لنهضةٍ فكريّة فتحت على الأدب المقارن، لا مادّةً تُدرّس، بل حركةً أدبيّة وسّعت الآفاق الجغرافيّة والتاريخيّة بين الشرق والغرب، إبداعًا أدبيًّا وشعريًّا. وربّما فتحت على العلوم والفنون عامّةً. لا أدّعيَنّ أنّ الدكتورة ربى أنتجتْ ما أعلاه، لكن من يتعرّفْ بها، يتبيّنْ كم ما أعلاه شاملٌ في شخصها وفكرها على السواء.
شبكت الدكتورة ربى علاقاتٍ فكريّة من خلال تواجدها في فرنسا ولبنان، وممارساتها التعليميّة الجامعيّة في البلدين، بين السوربون والجامعة اللبنانيّة، ونشاطها الأدبيّ والشعريّ في العاصمتين. فكانت على تواصلٍ مستمرّ مع جورج شحادة وصلاح ستيتيّة، الشاعرين اللبنانيّين بالفرنسيّة، والمطران جورج خضر وخليل حاوي في لبنان، وغيرهم
الكثيري
دعم المرأة وحقوقها
أسّستْ مع أصحابها أعلاه، وبفعل صداقتها معهم ومع نخبةٍ أمثالهم، حركةً أدبيّة ناشطة في فرنسا. لكنّها كانت رائدةً أيضًا وخصوصًا في مجال دعم المرأة وحقوقها. المرأة في شكلٍ عامّ، لكن تلك الشرقيّة واللبنانيّة بخاصّة. وكم محاضرة وندوة نظّمتها، او دُعيت لإحيائها، حرّكتْ سُباتًا أنثويًّا في المجالات الحقوقيّة والاجتماعيّة وغيرها.
دخلت الدكتورة ربى باب التعليم الجامعيّ في الجامعتين التخرّجتْ منهما، اللبنانيّة والسوربونّ، وفي جامعة ليون-2، لأنّها توزّعتْ إقامةً بين لبنان وفرنسا. المرأةُ الفقدت زوجها بعد استشفاءٍ في فرنسا، أخذت إليها العائلة مواكبةَ علاج الأب، استقرّت تربية البنين وتعليمهم في العاصمة الفرنسيّة. فكانت توفّق بين التعليم في كلا البلدين، ممطيةً صهوةَ الفضاء طورًا مدّةَ ثلاثين عامًا… لم تؤخّرْها عن متابعة تحصيل أولادها علومَهم حتى حيازة الدكتوراه بدورهم في الاختصاصات التي تميّزوا فيها.
الإقامة المتنقّلة في البلدين، والتنقّل المقيم بينهما، لضرورات العيش والعمل، طبع شخصيّة ربى سابا الوطنيّة والمغترِبة في آن. وأثّر في مشاعرها الانتمائيّة عبر السنين، ما انعكسَ في شخصيّتها الشاعريّة والعلائقيّة على السواء. يبان الحال جليًّا في كتابات الأدباء والمفكّرين التناولوا شخصها وشعرَها نقدًا وتحليلاً. قلّما تجدُ مقاربةً لا تأتي على ذكر هذا بفيضٍ وأولويّة!
الغربةُ والعودةُ في حياة ربى سابا، كما في كتاباتها، طرحتا إشكاليّةً كبرى عنها وعليها… أيّهما الوطنُ عندها؟ في قراءتي هي الوطن. الوطنُ شخصُها قلبًا وقناعات. الغوص في مدوّناتها، وتتبّع انتقالاتها، وتلقّياتُ مواقفها تَهدي إلى تعرّفٍ بشخصيّةٍ وطن في ملء! هذا السياق، يقوله المطران جورج خضر في مقدّمته لكتابها “عبق الأمكنة أو تلك الكنوز”: “هل هذا شعرُ الغربة أم شعر العودة؟ أحسب أنّه شعر الحضور”.
متى تتجلَّ شخصيّةُ ربى سابا عبقًا مكانيًّا في حدّ ذاته، وتبحثْ في مصادر تشكّلها، يَحْلُ إرساءٌ في ما أسمتْه “تلك الكنوز”. حالةٌ كنوزيّة تطفو على فضاءات الفكر كلّها: الحريّة… “أجيء من الانتظار” تقول… من حيث يروق لها الانطلاق، لتعبّرَ في شخصها تفاعلاتٍ غير محدودة… مطلقُ حريّتها أهدى كتاباتِها المدى. قالت لمن أرادتها تعملُ في فلكها: “أحببتِني لأنّ جناحَيّ طليقان… متى عملتُ معكِ تكسّر جناحاي”!
انكشافٌ واستكشافٌ واكتشافٌ للذات
في شعر ربى سابا حبيب “ما يلزم من ذهب…” لروحنا. كأنّما أنتَ في هيكلٍ بيزنطيّ، قصيدتها إيقونوستازه المكتوبةُ أيقونتُه بذهب الربى المطليّ بعبادة الكونيّ. الأيقونةُ اليخشع أمامها الحبيبُ الضائع في بخورٍ تعبقُ فيه عُشقَ وطنٍ وإله…
تؤمن ربى أنّ الشعرَ يتجسّد الحياة… في وطن شعرها الحداثيّ، مناجاةٌ مع مكوّناتٍ تشكّلتْ شاعرًا في ملء. قصيدةُ الليل أنموذجًا: “الليل شاعر يخرج الى الناس”.
هي لغة ربى الشاعريّة، ما يأخذ إلى اعتبار شعرِ ربى لغتُها، معجمُها اليعرّفُ بها… يصف الدكتور ربيعة أبي فاضل لغةَ ربى سابا حبيب الشعريّة: “القصيدة أو الكتابة الشعريّة عندَها، أبعد من الحياة والكلمات والتناقضات. إنّها انكشافٌ واستكشافٌ واكتشافٌ للذات في صفاء حقيقتها، وفي صداقتها التلقائيّة مع الخلق والخالق، في أهميّة عذابها وعذوبتها…” (ربى سابا حبيب وفروسيّة العودة، ص. ١٢٠). بتعبيرٍ، هي مصالحتها مع الذات الكونيّة. أي مع العالم الخارج، مع الآخر، في تفاعله مع احتكاكاتها الوجوديّة على أنواعها.
في كتاباتها الشعريّة، تقتربُ ربى الشاعرة من الذات الإله عبر جناحيها المفتوحتين حريَةً كاملة… حريّة شعريّة مطلقةَ الحداثة… بليغةَ الصورة والإيقاع. في هذه لا أغفلنّ عن تنويهٍ بحضورها الإلقائيّ المزدوج الدهشة. لا تلقي شاعرتنا قصائدَها على المنبر. هي تحيا قصيدتَها متفاعلةً مع الحالة الشعريّة الولدتْها. لم أقلْ تقرأ، لأنّها ساحرةُ القول الشعريّ غيبًا. تحفظُ قصائدَها، تراقصها عروسًا في حليتها يوم الزفاف.
شعرُها المكتوبُ في اللغتين، العربيّة والفرنسيّة، دلالةٌ كم حيٌّ منذ تكوّنه، فكرًا تعبّره اللغةُ الجاء فيها… ربى سابا حبيب هي الشاعرة الكتبتْ شعرَها منذ كلٍّ من اللغتين. لها دواوين في العربيّة وأخرى في الفرنسيّة، وهي في أمسياتها الشعريّة تقول في اللغتين بانسيابيّةٍ جماليّة عالية.
الحسّ الوطنيّ
لا يمكنني البحث في ربى دون التطرّق إلى الحسّ الوطنيّ في شخصيّتها وشعرها على السواء. سئلتْ يومًا أين تحبّ أن تموت، أفي فرنسا أم في لبنان. أجابت: “أريدُ أن أموت حيث يرقد والداي”.
نشاطُها الفكريّ والثقافيّ في فرنسا، كان موجّهًا دائمًا بالحسّ الوطنيّ اللبنانيّ، وكتاباتُها زاخرة بالزخارف اللبنانيّة، طبيعةً وكورةً وإنسانًا… قصيدةٌ في وطنها التحياه، تعانيه، لحّنتها الفنّانة هناء شرانق لاحتفال تكريمها في “لقاء” نهايةَ العام ٢٠٢١، تقول:
“يُصيبني لبنان
ينتابني لبنان
انتفض ورقة مبتلّة
يدور الجميع حولي
لم تشفَ
لن تشفى
تناديني
أحمل لون شعبي
تناديني أنبعث من الخراب
لا فرق بين الضياع واللقيا
تناديني أنهدّ
في حنوة كفّكَ
وفي اتجاه الدموع…”
في هذه أيضًا، حركةٌ حياتيّة دلاليّةٌ في سياق تعلّقها بلبنان، لا بدّ تتسجّل. ربى سابا حبيب، الركّزت عائلتها وحياتها في فرنسا، تعليمَ أولادها وتدريسًا في السوربونّ وليون- 2، أبقتْ على تعليمها في الجامعة اللبنانيّة، عاملاً تعلّقًا بالوطن، اضطرّها إلى تحقيق ما يقارب الثلاثمئة رحلة جويّة بين فرنسا ولبنان مدّةَ ثلاثين عامًا متواصلة.
قامةٌ لمعتْ في سماءات الكلمة
وبعد، وبعد أكثر، مَعين ربى سابا حبيب دفقٌ دائمٌ بفيض. من يخُضْ غمارَها الأدبيّة والإنسانيّة، يُصِبْ ناحيةً من كلّ جانب، لا النواحيَ كلّها. هكذا، لا أملكُ إلمامًا وافيًا بالدكتورة ربى، لا في عجالتي هذه، ولا في أبحاثٍ وكتب لو أردت.
حسبي أضأتُ بشمعةٍ على قامةٍ لمعتْ في سماءات الكلمة، فصارت اسمًا ملأ الشعرَ وشغلتْ نقّادًا وأكاديميّين… كما أحبّها الناسُ في اختلافهم، وأفاد منها الكثيرون… خاصّةٌ تتميّزُ بها، تضعُها في الصفوف الأماميّة بين زملائها وأترابها على السواء. تتمسّك ربى سابا حبيب بما تسمّيه ديمومتها… صدى شعارٍ أطلقتُه يومًا: أستثمرُ حيث لا أموت… هذا يختصره المطران خضر في توجّهٍ إليها: “نتعبُ أحيانًا ربى. هذا ثمنُ الأعالي”!!
ربى سابا حبيب… شاعرةُ الجناحَين، من نضالٍ وعلو! – Aleph Lam (aleph-lam.com)