الأرواح تسكن المدينة لأنور الخطيب رواية تكسر الخوف بالفكاهة الصفراء

الأرواح تسكن المدينة لأنور الخطيب رواية تكسر الخوف بالفكاهة الصفراء

الأرواح تسكن المدينة لأنور الخطيب

رواية تكسر الخوف بالفكاهة الصفراء

بقلم الناقد: عبده وازن

19

 في نصه القصصي الطويل ” الارواح تسكن المدينة” يلجأ الكاتب الفلسطيني أنو الخطيب الى الأدب ” الخارق ” محاولاً كسر الواقع وفضحه ن لا بحثاً عن واقع آخر اكثر احتمالاً وانما لإضفاء نوع من الوهم على الواقع نفسه ، ودفعه نحو المزيد من الالتباس المجازي.

لكن الأدب  الخارق هنا لن يتجاوز التفسير الرمزي للأحداث غير المحتملة التي تحل بالصدفة فقط، وبطريقة لا تخضع للتأويل المنطقي . واذا كان الأدب الخارق كما يقول الناقد تودوروف يعتمد نوعاً من الحدث الذي يثير ” حيرة القارىء” فإن هذه النزعة في نص الخطيب تنتمي الى ما يسمى بالواقع الراهن. فالحيرة تظل مثارة دوماً لكن دون أن تخضع للتفسير السحري أو غير الطبيعي وانما على العكس. لأن التفسير الطبيعي يمنحها بعدا آخر وحجما آخر.

واذا كان الأدب الخارق عادة يقترن بالخوف فهو هنا يقترن بالسخرية، بل يكسر حالات الخوف بالفكاهة الصفراء ( لا السوداء) ذات الطبابع العبثي الطريف.

الواقع والوهم يتوازيان في النص القصصي ” الأرواح تسكن المدينة” يتداخل الحدث الطبيعي واليومي في الحدث الخارق غير المنتظر عبر نسيج سردي وصفي يثير الالتباس والحيرة بقدر ما يدفع الى التفسير الواقعي كأن الوهم هو الصورة الأخرى للواقع يجمعهما فعل السخرية العابثة التي تخفي في داخلها الكثير من المرارة. وكأن الواقع حين ينكسر تحتة وطأة السخرية يصبح جزءا من الهوهم الكبير والعامض الذي يحاصر الواقع ويغرقه.

شخصية رئيسية واحدة او بطل واحد سلبي الملامح يطل في آخر مغامراته الغريبة: انه الراوي الذي يحدث عن نفسه كقاتل في حالات الوهم او الهلوسة بالاحرى وكي نصف هذا البطل المتناقض حقا في حالاته ومزاجاته لن نجد افضل من تعابير الطبيب الذي حاول أن يعالجه مرة: ” غريب مضطرب، حذر ، قلق، خائف، طموح، واقعي وخيالي…”

لكن الصفات التي دونها الطبيب لن تتوضح الا حين ندرك أن الراوي، ذلك الشاب الثلاثيني ، قد ارتكب أكثر من جريمة في الواقع، فيما هو يظن أن يرتكبها في الحلم فهو لم يتوان عن قتل مخبر كان يطارده طوال النهار ” يبدأ يومه معي” يقول، ” يسير خلفي بسيارته ويقتفي أثري” . كما قتل مديره في العمل ومزق تقاريره رغم انه كان مخلصا في عمله ” أكثر من أي حمار آخر” وكذلك قتل طبيباً وصف له دواء بالخطأز وشرطيا كان أطلق النار على والده ” وهو يصلي في المسجد”.

تلتبس الأحداث التي يرويها القاتل وكأنها أشبه بالكوابيس التي تعكر حياته، فاذا به لا يعرف طقما للنوم ” لا في الليل ولا في النهار” لكنه لن يكتشف انه ضحية أوهامه الحقيقية الا حين يزج في السجن في ” غرفة انتظار الموت والرحيل” ، حيث تهب رائحة غريبة من الأعشاب البرية وكان قد خضع لمحاكمة علنية ومثل أمام قاضٍ ذي ” أذنين طويلتين مجوفتين وعينين واسعتين وشفتين مزمومتين كبيرتين”. وحيث يقرر القاضي قطع رأسه بالسيف لا يتوانى عن اعلان رغته الأخيرة وهي أن يأخذ رأسه بعد قطعه.

على أن الأحداث تزداد طرافة وغرابة اثر تنفيذ الاعدام: ” بحثت عن قرات دمي فلم أجدها، أخذت رأسي ومشيت” ، يقول الراوي وقد تحول طيفا قادراً أن يدخل ” كل الأماكن” أن يخترق ” كل الجدران” . وذات يوم يترك ” جثته على السرير” ورأسه على الطالة وينظر في المرآة.

ينفصل الراوي عن العالم الذي كان يثير فيه ” الاشمئزاز والقلق والخوف”، عالم  ” الذين تحولوا الى كلاب بوليسية” دون أن يعيب تماما. فهو كالطيف ( الشكسبيري ربما) الذي سيرجع وينتقم لنفسه ، منتقلاً بالسر من مكان الى مكان.

يسخر أنور الخطيب من الواقع بمرارة شديدة، بالطرافة التي يعتمدها أحياناً تحاول فضح العالم الذي يعاني الكاتب من مآسيه. فالواقع المفعم بالهزائم اليومية والاحزان والانكسارات يدفع حقاً الى حالات الوهم والجنون والهلوسة. فهو يتحول نوعا من الكابوس الذي يحل بثقله ويغلق كل المنافذ .

لا يلجأ الكاتب الى الأدب الخارق او الغرائبي كي يبني عالما مجردا قائما بذاته أو كي يجسد بعض الرؤى الميتافيزيقية على غرار الكاتب الاميركي هنري جيمس في روايته ” البرج الحلزوني” ، بل يحاول أن يفضح الواقع الراهن عبر لا واقعيته الممكنة وعبر السخرية منه لكن سخريته لا تأخذ الطابع السوداوي على طريقة السورياليين وانما تظل اليفة على غرابتها احياناً.

فالحدث الغريب او الخارق لا يتخلى عن علاقته بالواقع لأنه ثمرة الواقع غير المرغوب فيه وان حل احياناً بعض المواقف الهذيانية فهو لا يخرج عن الاطار الطبيعي والممكن وقد نجح الكاتب في رسم صورة البطل. الرواي حين اضفى على شخصيته ملامح البطل السلبي المحنون والرافض، وحين اوقعه في اوهام المرض النفسي دون أن يفتعل الحالات النفسية المعقدة التفاصيل الصغيرة التي يضج بها التحليل النفسي.

الواقع هو الحافز الى الجنون والى الايهام الذي يدمر الوعي المنطقي للواقع نفسه والعالم المليء بالاحباطات لا يستطيع الكاتب كسره وتبديله الا حين يسخر منه ويوقعه في الالتباس القائم بين الحقيقة والوهم.

يعلن أنور الخطيب تمرده على الواقع بالطريقة الاجمل لا يلجأ الى لغة الواقع كي يرفض الواقع عبرها وانما يعتمد اللغة المتوجهة نحو لا واقعيتها باستمرار فالشيء لا نفيه الا نقيضه . وهكذا الواقع لا ينكسر الا عبر ما ينفيه. وهل اجمل من السخرية الطريفة والحدث الغريب” الخارق” الذي لا يتخلى أبداً عن إلفته؟

 

غير أن تمرد الكاتب على واقعه ليس سوى فعل احتجاج لا يتجسد الا عبر الكتابة. فاكاتب لم يطمح الى تغيير الواقع جذريا لنه يدرك مدى استحالة هذا الفعل ولأنه لمس منذ البداية عبثية الواقع ولا جدواه. هكذا يقترب من الأدب العبثي دون أن يقع في اضاليله الكثيرة. فالموقف العبثي هو موقف انتقامي، لكنه موقف من ينتقم من العالم بالكتابة.

 

عبده وازن

نشرت في جريدة الحياة- لندن

اترك تعليقاً