غزة تهيئ للصبح قوافيه في ديوان حنوناً كياسمين الظهيرة بقلم: هفاف ميهوب

غزة تهيئ للصبح قوافيه في ديوان حنوناً كياسمين الظهيرة بقلم: هفاف ميهوب

«غزة تهيّئُ للصبح قوافيه».. فيكتبها قصيدة متوقدة

بقلم: هفاف ميهوب

   

ثقافة

صحيفة الثورة في 13 مايو , 2024 بتوقيت دمشـــق

الثورة _ هفاف ميهوب:
عندما تغفو المدنُ على وسائدِ اشتعالاتها، يستحقّ الحلم المتأجّج وجعاً، أن يصحو بلا تشوّهاتٍ تعتريه، وعندما تكون المدينة التي تغفو وتصحو على هذه الاشتعالات هي «غزّة»، جديرٌ بها أن تحلم بمن يخمد حرائقها، ويضمّد جراحها بإهداءٍ يقول: «إلى غزّة.. وهي تهيّئ للصّبحِ قوافيه»..

إنه ما فعله الأديب والشاعر الفلسطيني «أنور الخطيب» في ديوانه الصادر حديثاً «حنوناً كياسمين الظهيرة».. إنه ما فعله بعيداً عن غزّة، وقريباً منها يرى نزيف دمائها الغزيرة..
عانقها، عناقَ شاعرٍ «واقف في شرفة المعنى» ويرنو إلى القلقِ اليقظ فوق «وسادة الوحي».. يشعره «إعصارٌ يقذفنا نحونا لنلهو بالدمار»، ويشعر «الوحي تلميذٌ شقي».
فعل ذلك، وهو يطلّ عليها من غربته، ويُلقى على صباحاتها التحيّة.. يكفكفُ دمعها بقصائدٍ، من شدّة هولِ ما رأته، باتت «وصفة شعريّة»:
«لا تكتبُ الشّعرَ على الحدودِ، اكتبهُ على جناحِ فراشةٍ أمّية/ واقرأ عليها ما تيسّرَ من دمِكْ/ طيّرها إلى وردةٍ في قريتكْ/ ستشبُّ نخلةً تسّاقط منها شهيّتُك/ اعبرْ الحدودَ عندها، وازرع الأحلامَ حولَ قبر جدّتك..».
هذا ما بات عليه حال قصيدته، بعد أن تراكمت فيها الفجائع والمجازر والآلام والهموم.. يحاول أن يهرب إلى قصائد أخرى، فتلاحقه نصيحته: «لا تكتب الشّعر كلّ يوم»..
يعمل بنصيحته، ساعياً إلى طردِ الكآبة، فيعود ليلوذ في عزلته، حيث «أجمل وقت للكتابة»:
«حين تكتبُ اسمكَ في آخر السّطر ثمّ ترميهِ للذئاب/ وتسألُ الأحبابَ: هل يحمي الشّعرُ صورتهُ من الأنياب؟
حين تنتهي من الكتابة/ تنهضُ صفر اليدين، تمتشقُ الربابة/ تجرُّ على أوتارها ليلاكَ، حين يقطّرُ الحنين من يُمناك..»..
بيدَ أنه بات يسخرُ من الوقت، لطالما أحال الأوغاد أوقاته، إلى حنينٍ يتّقد على مدى الضجيجِ والصّمت.. ضجيج روحه التي أنهكها الغياب، وما يجري في بلاده من موتٍ تقتاتُ منه الكلاب.. صمته أمام عجزه إلا عن إشهارِ قصيدة، كلّما دوّى صوتها، خفتَ صوته أمام دويّ أخرى جديدة.
فكّر في «اغتيال الشّعرِ» العاجز عن تأليف قلوبِ الشّعراء، ثمّ جمع أشهرهم واحتفى بموتهم، آملاً أن يجتمعوا ما بعد الموت، ليتقبّل بهم العزاء..
يكتبُ «النصّ ما قبل الأخير» لأنه لا يحبّ الخوض في النهايات.. يصعدُ عالياً لينشد، فتسمو لديه الكلمات:
«سأصعدُ نحو دمي/ أجمعُ الجهاتَ كلّها بنصٍّ واحدٍ يكون ما قبلَ الأخير/ كلُّ ما لديَّ روحُ فراشةٍ/ ستنقشُ وشمَ البلادِ على جسدي/ لأكونَ غدي وأطير..»
لا شكّ أنه وحيه، ويشعره «وحيٌ معتقل». عذّبوا أفكاره وصوره وإيحاءاته، عشقه وقلقه وآلامه.. لم يعترف، فأفرجوا عنه، شرط أن ينتحر..
كلها صورٌ شعريّة، تتّقد في أناملِ «الخطيب» بقصائدٍ فلسطينية.. قصائدُ «كائن خالٍ من الدهشة» ويؤرّقه «كابوس» جعل منه «الغارق في الظلمة»، مثلما في الضجيجِ الذي يـ «طرق» على بابه، بحوافرِ قتلةِ الأمومة والقضيّة.
يا لهمجيّة هذه الكائنات.. يقول هذا وينادي: «تعالي سيّدة النهايات».. فلسطين التي قتلوها وثملوا قصيدته كي لا تراها، لكن معجزتها ردّتها لتراه ويراها.. تأتي وتحتضنه بأياديها الممتدة إليه، مخاطبة غضبه، على الضمائر المتخاذلة والميتة والمتآمرة التي باتت تؤذيه: كن هادئاً». يسمعها ويبقى غاضباً، فتعاود همسها عتباً: ألم أقل لك لا تغضب.
يجيبُها بعد أن يستكين: أنا «إنسان بسيطٌ جداً».. أنا شاعرٌ، رسّام، صيّاد، وعابرٌ وعاشقٌ بسيط. أنا «رجل السّرد» لوطنِ القصدِ والقصيد.
يجيبها بهذا، ثم يقفل «نافذة القصيدة» على سكانها الخالدين.. يتركهم بانتظار «فتوحات» شعرٍ، هو «سماد الأرض» لفلسطين.. للموتى فيها والأحياء، يتغنّون بالشهداء:
«سطوحُ منازلهم مرايا رئاتهم/ كلّما كثر العشب تحرّرت هاماتهم وفاضوا بالنّور/ وكلّما دار العطرُ في مدارِ الغياب، تكثّف الحضور..».
كلّ هذا، وتتوالى العناوين التي لا يسامح الشاعر نفسه، إن تغافلَ عن عمقِ دلالاتها، وربما لعمقِ شوقه والحنين الذي أدمى قلبه الشقي.. الحنين الذي فاقمته غربة، دفعته لإيلام نفسه التي فقدت وطناً وأهلاً، شيّع فراقهم بقصيدته: «لاتسامح خطوتي يا أبي»..
«تعمّدتُ ألا أمرَّ بالمقبرة/ رحيلكَ كان أكثر من سفرٍ إلى الآخرة/ من قصيدةٍ يتيمةٍ على قارعةِ الذاكرة/ غيابكَ كان أكبرَ من مجزرة، ومن جريمةٍ مدبّرة..»
كلّ ذلك، جعله يرفض»أوهام اللوز والشرفة والبحر»، والعجز عن إطالة عمر الشّعر.. يرفض أيضاً «توحّش الوردة»، فالـ «نرجس على لغةِ الليل» يداعبُ كلّ قصائده، و «عند الفجرِ فقط» يداعب كلّ مفردة.
«للماء شكلُ النهايات ورائحة الغبطة» ولاغبطة في البدايات أو النهايات، إلا إن ارتوت «شجرة الأسئلة» التي لا يرويها إلا «شتاء الليل»، وبالنادرِ من الأبجديّات.
هكذا يختصر الشاعر ديوانه، فيشعر بالـ «قلق».. قلقه على كلّ ما لديهِ ويجده اختنق.. «لا أحد» له أو يستقبله، كأمٍ هي الوطن الذي يدثّره..
لا أحد إلا الغربة تُلقيه، بلا بيتٍ أو بابٍ أو معنى إلا وقال فيه:
«لا أحد أبرقُ له: وصلتُ بأقلِ الأضرار/ ولا أحد أستجيرُ به: اعتقلوني في المطار/..
لا أحد يدعوني للمبيتِ، لا بيتَ لي هنا، لا بيتَ لي هناك/ في كلّ مرّة أدقّ باباً مختلفاً، ولا يفتح لي أحد..»

«غزة تهيّئُ للصبح قوافيه».. فيكتبها قصيدة متوقدة – صحيفة الثورة (thawra.sy)

اترك تعليقاً