“حنونًا كياسمين الظهيرة” لأنور الخطيب…كلمة السرّ في محاكاة اللغة والأفكار
بقلم: أنطوان يزبك
في مسرحية “المدينة” لبول كلوديل ، تعرٓف إحدى الشخصيات الشعر بالقول :
يا بني ! عندما كنت شاعرا بين البشر
ابتكرت بيتا لا وزن له ولا قافية ،
واستوعبت في طيٓات قلبي وظيفة مزدوجة متبادلة،
استنشق بها الحياة لأردٓها
في كلمة مسموعة
في زفير أسمى .
لعلٓ هذا التعريف يقترب بحذر ولكن بخطى ثابتة ، من عالم أنور الخطيب الشعري المتعدد الأوجه السابر لمعاني الحياة و المتقلٓب كما الفصول في دوران الكرة الأرضية حول الشمس …
وهكذا طريقة كتابة في الشعر صعبة التحديد وشائكة فهي تتأرجح بين الواقعية الشعرية حينا ، والسوريالية حينا آخر ،كما يبدو لنا في بعض القصائد مظاهر بارزة وبيٓنة من شعر الألم الشمولي الذي، يدفع بالشاعر ليكتب بمداد القلب خلاصة الرؤى التي تؤرٓقه ليلا نهارا وذلك من خلال انطباعية فوق صوتية وفوق روحية كما قالها ذات مرة ايميل سيوران في وصف الشعر الصوفي الذي،يريد قي شطحاته أن يتخطٓى الله حتى وصورة الوجود الكلٓي ويمدد لمسارات الروح إلى ما بعد حدود المجرٓات والاجرام السماويٓة..
لماذا اقول هذا الكلام ؟
لأن أنور الخطيب اتعبني فعلا حتى قرأت كامل ديوانه “حنونًا كياسمين الظهيرة”!
اتعبني مدة شهر وأكثر ربما ،حتى أدخل إلى عالمه الشعري وصوره الشائكة المتشابكة واجد مكانا اضع رأسي فيه كما يقول السيد المسيح ، وهذا الديوان يشبه في تكوينه وتتابع القصائد فيه ؛ الرواية أكثر مما هو مجموعة شعرية فكل قصيدة تشكل فصلا بحد ذاته ، فصل فيه حركة سريعة تتعبك لكي تلم بكل ما فيها .
حركة لغوية بالصورة واللون والشكل والبلاغة، تنقلك إلى جوٓ معيٓن وحادتة ما ، وتبلبل الحواس فالبيان يصبح شخصا والقصيدة انثى والوحي كائنا مجسدا نافرا كما جداريات ومعارض رسوم ولوحات ! حتى الوحي المفترض به ان يكون من الروح ؛ أضحى شخصا يعيش معنا له حياته وله هويٓته الشخصية و له نساء يعاشرهنٓ وبارات وملاهي ومرابع ، يسهر فيها محتسيا خمرة الشعر الشافية والمثيرة في آن معا !!
بالعودة إلى أسلوب أنور الخطيب فهو يشكل بصراحة حاضنة حيٓة و مخٓاضة هيوليٓة تنطبع فيها ايحاءات كقيرة ،تجذب إليها حشد من أساليب ونزهات وجدانيٓة مكثٓفة لامتناهية ، تخال في بعض الأماكن (وقصيدته مكان بحد ذاته لا ريب في ذلك ) أنك ترى ملامح الشاعر والمفكر ادونيس، و رؤى السيٓاب في قصائده المتجليٓة بين الوهم و وهم الوطن ،ثم ترى خيبة تي .اس .اليوت في الارض اليباب و سوريالية رينيه شار في الاقتراب من عالم الشعر و محاولة سبر اغوار معانيه ، وكلٓ ذلك في التماع اللحظة التي هي محاكاة حيٓة بين الكلمة واللغة والفكرة ،كيف ذلك ؟
لكلٓ اقنوم من هذه الاقانيم صرحه :
الكلمة صرح بحدٓ ذاته بدليل أن الكلمة مستقلٓة لدى الشاعر ، تبني معانيها و مصطلحاتها كقوله :عسل الغموض …
للغموض اذن حلاوة تشبه العسل في مذاقها ، وهذا يكفي لنذهب بعيدا حتى مع عدم ربط المعنى بالسياق، مصطلح واحد يكفي ،لمن يعرف شروط الرمزيات الشعرية وما تترك من آثار في النفس !
واللغة صرح ايضا كقوله : نستحمٓ في شهوات الصحراء ..
والفكرة النابعة من كون شعري يعرف أنور الخطيب مسالكه وأماكنه كقوله : الوحي القادم من سهرة حب …
وللوحي كينونة وشخصية وحيٓز وجودي كبير ، هو إنسان وملاك وروح حرة الوحي هذا ، هو الشاعر بذاته ربما ” المدثٓر بالبلاغة ” كمن يأتي من قلب العاصفة تحفٓ به الثلوج وتغلٓفه غلافا صفيقا كتلك البلاغة ،فتصبح في صور جميلة مثيرة من كادرات القصيدة :
سيٓدة تخرج عارية من الحمام تنتعل خفٓين والقوافي نهدين فيغدو الشعر شبقا و حسيٓا بامتياز !!
اجل الشعر لدى الشاعر والوحي يتٓحدان فيه فيصبح هذا الامير المدلٓل الذي هو الشاعر بذاته فكرا وقالبا وقلبا ، الوحي المقدس الذي خصص له أنور الخطيب عدة قصائد يتحول إلى متعة وتجسٓدا لحقيقة الوجود في مدرحيٓة الخلق وعملية جبل الإنسان من التراب كما في الخلق الاول .
والشاعر الخالق هنا يستعير صفات الديميورغوس نصف إله ونصف إنسان لكي ينفخ في خليقته، نفحة الحياة فيصبح كائنا حيا .
في الماضي كان هناك أسطورة البجعات السحرية ،حيث يتحوٓل اخوة أمراء إلى بجعات لإنقاذ شقيقتهم الأميرة المسجونة في برج شاهق سجنها فيه، ساحر شرير فيأتي الأخوة وقد تحولوا إلى بجع وينقذون شقيقتهم ،ويحلقون بها عاليا ، هكذا هو الوحي لدى أنور الخطيب ،إنٓه طائر اسطوري يحلق به الشاعر وينفذ من خلاله إلى عالم الرؤى الحالمة والعابثة في ليال من تجليات و ابتهالات قدسيٓة !
كل مظاهر الشعر لدى أنور الخطيب هي في الواقع تجليات من صلب الوجود ،هي كائنات تحيا و تتفاعل مع الوقت والزمن بفعل الارادة والصراحة من خلال طقوسيٓة معيٓنة حتى وقت الكتابة ،فهو وقت مقدس و تجاوزي بامتياز ، هو شبيه بالحمى التي كانت تعتري المتنبي حين كان يكتب قصيدة إذ يقول الشاعر :
أجمل وقت للكتابة حين تصاب بمتلازمة الفراغ تعفٓر وجهك بالقصيدة ..
هذا الموقف من القصيدة والشعر يذكرني بما قاله رينيه شار عن الشعر والقصيدة :
في منتصف الشعر ، خصمك ينتظرك ، إنه سيٓدك ، اشتبك معه بشرف !
هكذا يتخاصم أنور الخطيب مع الفراغ والعدم والعبثية وزرقة مياه البحر وبعد السماء اللامتناهية ،فلا يرى من بدٓ سوى أن يعفٓر وجهه بالقصيدة ، القصيدة الحقيقية التي يعرفها أنور يراها تتجول في الطرقات، يحسبها خصما او انثى متمردة يسعى إلى ترويضها مثل ( كات )قي مسرحية “ترويض النمرة” لويليام شكسبير او( بلانش دوبوا ) في مسرحية” عربة اسمها اللذة ” لتنيسي ويليامز، حيث الصراع يصل إلى ذروته مع المرأة الحرون النزقة، هكذا هي القصيدة لدى أنور الخطيب، إنها امرأة على خشبة مسرح الحياة في خضمٓ الصراع وذروة الاحاسيس التي تثار إلى درجة الوصول إلى حافة الانفجار او الانتحار !!
ولكن ثمة رهبة قويٓة ، رهبة الانتظار والخوف والعدم والصقيع، والفراغ و تلك الظلمة التي تمثل انعدام كل شيء والتي تخيف أكثر من الموت عينه حين يقول أنور الخطيب في قصيدة “الغارق في الظلمة” :
لا احد سيغلق البيت لئلا يهرب السواد وينكشف الفراغ
ماذا يفعل الفراغ الغارق في الظلمة
لا يُسأل الفراغ
هو الجواب لكلٓ شيء
كل شيء …
أنور الخطيب اصبتني مقتلا في هذه القصيدة ، اعدتني طفلا يخاف العتمة ،وكلٓما غادر البيت تاركا ايٓاه للفراغ ، أمضى نهاره يتوجٓس ويذوب خشية من عفاريت العتمة التي تسرح وتمرح في البيت الفارغ ، ناسيا أن وادي الجان الحقيقي هو “عبقر “حيث حرارة جوف الأرض تشعل براكين الوحي الشعري في سريرة شاعر الذي بدوره ، يحوٓل الجنون الى تماثلات اليقظة وانقشاع الواقعية المتمرٓسة بمشاعرها حتى الانزياح !!