نحو مشروع نهضوي جديد..أفكار وطروحات للحوار..بقلم: أسد زين غندور

نحو مشروع نهضوي جديد

أفكار وطروحات للحوار

أسد زين غندور

10/4/2023

* * * * *

في البداية، أنوِّه أن هذه الأفكار والطروحات هي حصيلة حوارات ونقاشات طويلة جرت على مدى عشرات السنين مع عدد من الرفاق والأصدقاء في عدّة مناسبات. اليوم، في الوقت الذي نعيش فيه حالة من التمزق والإنهيارات والهزائم والتبعيات والتأخر، وجدت من الضرورة إستخلاص أهم ما توصلنا إليه من رؤى فكرية وسياسية قد تساهم في بلورة مشروع نهضوي عربي ورسم آفاق المستقبل لهذه الأمة.

أولاً: المنطلقات:

ترتدي مسألة تحديد معالم هويتنا الفكرية أهمية بالغة في المنعطف التاريخي الذي يجتازه الشعب العربي بعامة، والحركات السياسية العربية بخاصة، إثر إخفاق محاولات النهضة العربية أو تعثرها، والتبدلات الدولية على المستويات كافة، إبتداءً بثورة العلم والتكنولوجيا (ثورة المواصلات والإتصالات والمعلوماتية) مرورًا بالتبدلات الإقتصادية المتمثلة في العولمة المتزايدة للنشاط الاقتصادي العالمي، وتعمق اللاتكافؤ الذي تثيره رأسمالية اليوم بين الأفراد والطبقات والأمم، وإنتهاء بأزمة الفكر الإشتراكي العالمي عقب إنهيار النظم الإشتراكية التي كانت قائمة، وعدم إنتاج أنظمة مرادفة بديلة أكثر قدرة على المواجهة والإستمرارية، والإجابة على معظم الأسئلة التي تطرح للتمكن من رسم جغرافية العالم وطرق إدارته وتمتين العلاقات بين مكوناته، وتغيير ميزان القوى الدولي والحد من هيمنة قطب أحادي لعقود من الزمن، بينما تتبلور إمكانيات قيام أقطاب جديدة نرى ملامح إنطلاقاتها وتعثراتها والثمن الذي ندفعه للسير في هذا الإتجاه.

إذا كان الفكر العربي قد واجه جملة من التحديات وامتلك من أدوات معرفية حكمت رؤيته للماضي وخبراته مستعيرًا مفردات الحضارة الغربية بمدارسها الفكرية المتعددة والمختلفة، فإن حصاد السنوات السابقة، وما صادف العرب خلالها من نجاحات وإخفاقات، بات جميعه بحاجة إلى مراجعة نقدية متأنية، طالما أن كل جديد نابت من القديم، وأنّ سُنّة التطور البشري تستدعي أن ينطلق الإنسان من حيث إنتهى من سبقوه، ويتابع تحقيق الإنجازات التي تعزز مكانته في العالم.

إن الغرض من المراجعة النقدية، ليس إجترار الماضي، أو استعادة صراعاته المنقضية، بل التوجه بثقة نحو المستقبل، بعيدًا عن السلفية، الشعورية الإنفعالية، والإنتقائية التي ميّزت معظم المدارس – الفكرية – السياسية العربية الحديثة، ولا شكّ أنّ هذه المراجعة تتطلب الإنحياز إلى المناهج العلمية الحديثة، وفهمها وطرق استخدامها، بما يضمن:

  • فهم الواقع العربي، بمكوناته التاريخية والحضارية.

  • فهم العالم المتقدم، وأسس الحداثة وإمكانات تمثلها وتطويرها.

  • الإعتماد على الرصد العلمي التخصصي بما يضمن التكامل بين الأبحاث العلمية وجهود السياسيين، إذ لا يمكن للسياسة العقلانية، الراديكالية أن تبنى على شعارات أو أوهام رومانسية، بل ينبغي لها أن ترتكز على أرضية العلوم المختلفة والمتطورة على الدوام، الأمر الذي يدل على مدى أهمية وضرورة إعتماد التخصص العلمي في عصر تتفجر فيه المعلومات وتصبح فيه المعرفة الموسوعية غير ممكنة وغير مكتملة، وبذلك يمكن تجسير الهوة بين الأمل والواقع، بين الخيال والمنطق.

  • تحديد معالم المشروع الحضاري النهضويي العربي المنشود، وذلك يشمل:

  • الحد الجغرافي، أي المنطقة العربية المتفاعلة مع المحيط العالمي.

  • الحد الإجتماعي، الذي يحكمه مبدأ العدل، كقيمة وغاية مجتمعية، ويجسده الطموح الإشتراكي (الذي يحتاج لإعادة نظر جذرية) وما يتفرع عن ذلك من صيغ تنموية، ومؤسستية، وسياسات إقتصادية – إجتماعية.

  • الحد السياسي، الذي يجسده المبدأ الديمقراطي بشموله وتعييناته المختلفة، وقيمته التي تميزه عن باقي المبادئ.

  • الحد الحضاري، المتصل بتعيين الهوية الحضارية لمشروع النهضة العربية، بعيدًا عن الإستلاب السلفي أو الحداثوي.

  • الحد المؤسسي: الذي يمكِّن هذا المشروع من التجسد والنمو والتقدم والفعالية.

إنّ الإتفاق على خطوط برنامجية كبرى، لا ينفي تعدّد المداخل المنهجية العلمية وتعدّد الرؤى والسبل الفرعية لمقاربتها وفهمها، ولا يتعارض أخيرًا مع تباين أشكال وأساليب العمل لتحقيقها، على قاعدة العمل الديمقراطي والنقدي والسلمي.

إننا بحاجة لفتح حوارٍ جدّي ومتصل لإنضاج هذه الخطوط البرنامجية الكبرى، بحيث تتواصل عمليات النقاش والبحث في مختلف الساحات الإقليمية والمنتديات القومية، والمؤسسات الفكرية والثقافية والبحثية.

وإذا كان لا بدّ أن نعي مدى القدرة العالية للفلسفة والعلوم الحديثة على الكشف المعرفي المتواصل، فإن هذا الكشف لا يمكن أن يرقى إلى مستوى الإحاطة الشاملة والنهائية بالكلية الإجتماعية، لأن حركة الواقع وتعدد ميوله، وممكناته، تقطع الطريق على مثل هذه المعرفة، ومن هنا تبرز أهمية الحس النقدي والوعي النقدي، الذي يجب إمتلاكه وترسيخه في الممارسات الفكرية والسياسية والاجتماعية.

ثانيًا: التأخر التاريخي العربي:

لا يستقيم مفهوم التأخر إلاّ مقارنة مع مفهوم التقدم، الذي يختلف بدون شك مع مفهوم التطور، فيما يعني التطور تغييرًا وتحولاً دون إتجاه قياس، إلاّ أن التقدم (Progress) يعني تغييرًا نحو الأرقى، وتطورًا نحو الأفضل.

إن التقدّم في العمق يحدث في عالم الإنسان الصانع والعارف، إنسان العمل والحضارة والإنتاج. وهو تقدم مفتوح على المستقبل من خلال سلسلة من الخطوات متصلة في سلم الرقي الإنساني اللامحدود.

يتناقض مفهوم التأخر عن مفهوم التقدم، وهو لا يقتصر على أمة أو عرق، أو دين، أو مذهب لأنه تشكل في سياق تاريخي، وتبلور في بنية (Structure) لها منطقها ونظامها وعلاقاتها، وفي قوى داخلية وخارجية تعمل على إدامتها وإعادة انتاجها.

لا نبغي، من خلال إبراز مفهوم التأخر، إلى إحباط الشعب، أو قطع جذوره الحضارية، ولا إلى تبرئة القوى والسلطات والطبقات الحاكمة والمسيطرة من مسؤولياتها عن استمرارية التأخر وعن إعادة إنتاجه على الدوام. بل نهدف أساسًا إلى فهم الواقع القائم كما هو، بدون أوهام أو تدليس، وتشريح واقع التأخر، واستنهاض همة الشعب وشحذ عزيمته لمواجهة عوامل وآليات قهره، بما يساعد على اكتشاف آليات تحرّر الإنسان العربي وتقدمه. ويتجلى التأخر التاريخي العربي في مستويات مختلفة، أهمها:

  • التأخر الأدلوجي: ويتمثل في هيمنة أدلوجة سلفية على مختلف طبقات المجتمع، تقابلها وتعززها أدلوجة إغترابية مستلبة. كما أن البنية الأدلوجية العربية تعاني تأخرًا مضاعفًا، حيث أنها لا تواكب التشكيلة الإجتماعية الإقتصادية القائمة من ناحية، وتشوش الوعي بالقسم المتقدم من العالم من جهة ثانية.

لقد أكّد إخفاق المحاولات النهضوية العربية خلال القرن الماضي، خطأ وخطر الإزدواجية التي تمثلت في الراديكالية السياسية والتحرر من الإستعمار والمحافظة الأدلوجية في آن معًا. ما يجعلنا نميل إلى إطلاق حركة نقد سياسي – إجتماعي – أدلوجي شامل يخترق عمارة المجتمع العربي ولا يقف عند سطحه السياسي فقط، وذلك من أجل تجاوز هذه الإزدواجية، في الفكر والممارسة السياسية والثقاقية والإجتماعية.

  • التأخر السياسي: الذي يتجلّى في لا عقلانية السياسات العربية وبعفويتها وعدم ارتكازها على منجزات العلم الحديث والتطورات التي شهدها العالم، خاصة في المراحل الأخيرة، وغياب مؤسسات البحث العلمي إلى حدٍ كبير، وإنحصار هذه المؤسسات في إطار نخب حاكمة أو معارضة، بعيدًا عن دور فاعل للشعب ولرقابته، فضلاً عن طغيان العنف فكرًا وممارسة لدى معظم قوى الحكم والمعارضة، ورفض التعددية الفكرية والسياسية، أو إنتشارها، ومحاولة فرض اللون الواحد والرأي الواحد في فهم شؤون الدين والدنيا، ورفض الرأي الآخر مهما كان متقدمًا، ورفض التسامح الفكري والسياسي.

كما يتجلى التأخر السياسي في الطابع التوتاليتاري القمعي والتعسفي الذي يسم كافة الأنظمة العربية، وغياب دولة الحق والقانون بمفهومها العصري وبروز الدولة المتسلطة، السلطانية، المملوكية، المتخلفة، من تحت براقع ويافطات الدول القطرية العربية أو ذات الوجه العربي، من جمهوريات ملكية مطلقة وملكيات عائلية شاملة، وإمارات ومشيخات وسلطنات عشائرية.

لقد عزّز هذا التأخر السياسي عزوف الشعب بسواده الأعظم عن السياسة والاهتمام بالشأن العام، وبهيمنة أدلوجة تقليدية متمثلة في النزعات الطائفية والمذهبية والعشائرية والقبلية والعائلية، ناهيك عن القمع السلطوي والتهميش الاقتصادي الذي يطحن الفئات الشعبية العريضة، ويجعلها تلهث خلف لقمة العيش.

إنّ كسر حالة العزوف تلك يحتاج إلى إعادة بناء عمارة المحتمع العربي بشكل حديث وسليم ومتين من جهة، وإعادة إطلاق عملية تسييس الشعب في إطارٍ من التعددية الفكرية والسياسية التي تضمنها الديمقراطية.

  • التأخر الإقتصادي: يتجلى هذا التأخر في إندراج الإقتصادات العربية في دائرة التبعية للنظام الرأسمالي العالمي، وفي إختلال الهيكل الإقتصادي وتفكك البنية الاقتصادية واندلاقها نحو الخارج، وتجزء السوق القومية الرأسمالية (لا يتجاوز حجم التجارة البينية عادة ألـ 8%)، في الوقت الذي تسود العقلية الريعية المتعايشة مع انتشار البطالة، ونقص الإستخدام والبطالة المقنعة بمعدلات مرتفعة ومخيفة، وإنخفاض إنتاجية العمل، وهدر الثروات والموارد والإمكانات، وتزايد الإستقطاب الطبقي وتهميش الغالبية الشعبية اقتصاديًا، وسياسيًا، وتزايد معدلات النمو السكاني بمعدل أعلى من إمكانية الإستيعاب التنموي، وصولاً إلى الفساد الذي يجد تربته الغنية على أرضية الإستبداد السلطوي من جهة والعزوف الشعبي من جهة أخرى.

  • التأخر المجتمعي العربي: يشهد المجتمع العربي الحديث سيرورتين متناقضتين:

  • سيرورة نمو وتقدم بطيئة جدًا، على المستوى التكنولوجي وليس الأدلوجي، وبعض الجهود التي تبذل لبناء الدولة العصرية ولكن بدون ركائز متينة وثابتة.

  • سيرورة تفَكك المجتمع والدولة على أرضية نمو الصراعات الطائفية والمذهبية والعشائرية والإثنية، والعودة إلى عقلية وصراعات القرون الوسطى.

قد تتغلب إحدى هاتين السيرورتين على الأخرى، وقد تتعايشا في مشهد معقّد وحرج، يُطلق عليه بخجل: “السلم الأهلي البارد”.

لقد ساهم في إعادة إنتاج البنى الطائفية والعشائرية عاملان أساسيان: الأول، يتمثل بطبيعة السلطة الاستبدادية القائمة التي تمثلها جماعة طائفية بالأساس أو عشائرية، حيث تتم عملية صياغة وممارسة سياسات التمييز بين الفئات الشعبية المنقسمة عاموديًا طوائف ومذاهب وعشائر، وذلك من خلال: إما إعتبار الدولة ومؤسساتها ملكًا خاصًا للسلطة، أو تحقيق توازنٍ هشٍ بين تلك الفئات داخل مؤسسات الدولة. والعامل الثاني، عبر السياسات التربوية التي تعتمد برامج تقليدية تنقل التراث بوسيلة التلقين، وتعتمد على معلومات ثابتة غير متطورة أو متحركة وغير قابلة للنقد والشك مما يسد المنافذ نحو التقدم والتطور خارج الأطر الضيقة في عالم الطائفيات والعشائر.

وبديهي أن سيرورة التقدم المجتمعي لا يمكن أن تتحقق إلاّ على أرضية نمو “المجتمع المدني” المنصهر وطنيًا، والدولة الوطنية العصرية المتحررة من كل التشوهات التي لحقت بها أو تفرضها التبعية بأشكالها المختلفة. إما لماضٍ بليد ومفوّت، أو لخارج يفرض هيبته وسلطانه ويتحكم بكل ما يمكن أن يساهم في بناء الدولة والمواطن.

إنّ هذه الأرضية المتطورة طبعًا، يجب أن تكون حصيلة النضال على المستوى الثقافي والفكري، وبالتالي السياسي، لإشاعة ميول للحوار وتمثل القيم الديمقراطية، والعمل على انتزاع الحريات الديمقراطية وتثبيتها وإنمائها في تربة اجتماعية متماسكة.

لقد دأب الفكر القومي التقليدي، واليساري العربي المتصالح، على تحميل الأوضاع الخارجية (الرأسمالية العالمية، الإمبريالية، الصهيونية) جميع بلايانا، في الوقت الذي تجاهلوا فيه عوامل الضعف الداخلية التي تهيئ للهيمنة الخارجية مقوماتها، مما أفقد هذا الفكر القدرة على التحديث والتقاط فواصل النمو والتطور والنهضة، والقدرة على مواجهة مواقع التأخر المعشعشة في كل مفاصل المجتمع والدولة والمؤسسات، وساعد على الفشل في إرساء القواعد الحقيقية والمتراكمة لمشروع النهوض العربي بوصفه مشروعًا لقهر التأخر وتجاوزه.

  • مشكلة الأقليات: لم يولي الفكر السياسي العربي، بمدارسه واتجاهاته التقليدية المختلفة، وحتى التقليدية الجديدة، وتلك اليسراوية أيضًا، مشكلة الأقليات في العالم العربي، الأهمية التي تستحق من الدراسة والتنفيذ، وإدراج الإقتراحات الواقعية لدمجهم في المجتمع والأمة.

فالمجتمع العربي، يتألف من جماعة طائفية تشكل الأكثرية وطوائف أقلية متعددة، إضافة إلى الأقليات القومية والعرقية، وفي ظل الهزائم المتلاحقة التي لحقت بها الأمة عبر التاريخ، والإنتكاسات في محاولات النهضة والتحرر والوحدة، وبروز التطرف الديني والسياسي، مما ساهم في إنتعاش قوة الأدلوجات والمشاعر الضمنية للأقليات القومية والإثنية التي تتوجس من المشروع القومي العربي، وتخاف من طمس هوياتها القومية والثقافية الضيقة الأفق، في حين تتوجس الأقليات الدينية غير الإسلامية من الملمح الإسلاموي للقومية العربية التقليدية، الأمر الذي يهدد بعودة تلك الأقليات إلى وضع تميزي ودوني أو إضطهادي.

أما الجماعات الدينية المذهبية الإسلامية (غير السنة)، فإنها تتردد من الملمح السنوي للمشروع القومي الذي تعتقد أنه يهددها بالإضطهاد، ولعلّ هذه المخاوف الأقلوية تستند إلى ذكريات الإضطهاد التي تشهدها بعض المراحل التاريخية للعالم الإسلامي، ما يقف حائلاً دون الإندماج القومي الذي ينشده المشروع القومي العربي، الديمقراطي العلماني، الكبير.

إن مشكلة الأقليات ليست مشكلة عارضة في الواقع العربي، بل هي ظاهرة مكشوفة أو مختبئة كامنة، أو متفجرة تستثمرها القوى الخارجية، الاستعمارية على وجه الخصوص، لخدمة سياساتها ومصالحها وأهدافها من جهة، ولتفتيت الأمة إلى شيع ومذاهب وقبائل متصارعة ومتنازعة على الدوام، بما يضمن عدم وحدتها، وبالتالي، عدم تحررها وتقدمها، وعدم امتلاك القوة التي تستطيع من خلالها، ردع الأطماع والتدخلات الخارجية العدوانية، ومما يسمح لضمان سياسات هذه الدول بالنجاح والاستمرارية.

كما أن السلطات الإستبدادية العربية، التي سادت على مدى قرون، ولا تزال، تتعامل مع المواطن على أساس محدداته الإجتماعية التقليدية وليس على أساس مواطنيته، وتجعل من البنى والتشكيلات ما قبل القومية بُنى موازيه للمؤسسات القمعية. كما أن انتعاش الفكر السلفي المتزمت يهدد بانفجار المشكلة في أي وقت، ويمهد الطريق لمساعدة السياسات الاستعمارية على التدخل والهيمنة، بحجة الدفاع عن “حقوق الإنسان، وما شابه من شعارات براقة خالية من أي مضمون ديمقراطي أو إنساني، أو بحجة مقاومة الإضطهاد الديني”.

إنّ مشكلة الجماعات الأقلية ليست سوى الوجه الآخر لمشكلة التأخر والإنكماش عند الجماعة الأكثرية. وسيظل الخطاب السائد، خطاب الوحدة بثوبها القديم الملتبس، أو الخطاب الوطني بدون تحديد مفهوم عصري للوطنية، وأسسها وقيمها وكيفية الحفاظ عليها، أو شعار التعايش، هذا الشعار الرومنسي الكاذب والخادع في آن، سيبقى هذا الخطاب، إن لم يعِ شروط ومشكلات الواقع كما هو، والسعي لمواجهته بإشاعة وإطلاق فكر قومي عربي عصري وحديث وديمقراطي وعلماني، يشكل مدخلاً حقيقيًا لحل المشكلة بدلاً من تأزيمها وتجاهلها أو الحفاظ عليها وتغذيتها.

  • مشكلة المرأة: إن إستلاب المرأة العربية، بمختلف أشكال الإستلاب (الطبقي – الجنسي – الفكري). بشكل صارخ ومكشوف، يعتبر من أكثر أشكال الاستلاب الإنساني شيوعًا في العالم العربي. ويتأسس على رفض الإعتراف بها ككيان قائم بذاته، ومستقل، وتحويلها بالتالي، إلى أداة لخدمة أوضاع القهر والتسلط والتأخر.

إنّ معيار تقدم مجتمع ما، هو بمعنى ما، مدى تقدم وضع المرأة في هذا المجتمع، ومدى مشاركتها الفاعلة في النشاطات الإجتماعية والثقافية والسياسية. كما أن تقد واقع تأخر المرأة واستلابها هو بحد ذاته نقد لواقع المجتمع الذي تنتمي إليه. لذا يبدو من التعسف فصل قضية تحرر المرأة عن قضية تحرر المجتمع. ومن الأكثر عسفًا إختزال الصراع الإجتماعي بكليته إلى مجرد الصراع بين الرجل والمرأة، واختزال خصوصية قضية المرأة وحلها بشكل آلي في سياق المشكلة الاجتماعية دون الاعتراف براهنيتها وخصوصيتها.

والواقع أن الفكر السياسي العربي، حتى بشقه التقدمي، لم يول خصوصية هذه المسألة الحجم الذي تستحقه من الاهتمام فكرًا وممارسة. ما يؤكد حالة الإزدواجية التي وسمت هذا الفكر، ما بين التقدمية السياسية والمحافظة الفكرية، لقد طرح النهضويون العرب مطلع هذا القرن، بجرأة، شعار تحرير المرأة كشرط لتحرر المجتع، ونقدوا وضعية (الحريم) التقليدية الموروثة، ودعوا إلى دحضها وتجاوزها. إلاّ أن خطاب التحرير تحول إلى خطاب التحرر أثر التبدلات الاجتماعية – الاقتصادية والسياسية اللاحقة التي تمثلت بدخول النساء دائرة العمل والإنتاج، ودائرة العلم والثقافة، وخفت صدى خطاب تحرر المرأة مع خفوت صوت الخطاب التنويري ومع سكوت، أو تواطؤ، الخطاب التقدمي، وبروز الخطاب السلفي المتزمت الذي يهدد بإهدار جميع المكتسبات التي حققتها حركة تحرر المرأة على تواضعها. وهذا ما يؤكد على أهمية إعادة النظر في هذه القضية، وإبلاغها الأهمية اللازمة، والانتقال من شعار التحرر إلى مشروع لتحرر المرأة مع طرح الآليات التنفيذية فكرًا وممارسة.

إنّ حل مشكلة المرأة، يجب أن يمر عبر سيرورة تاريخية طويلة متعددة المهام والحلقات والمراحل، وتشكل جزءًا أساسيًا من عملية تقدم المجتمع، والخطوة الأولى على هذه الطريق تتمثل في مواجهة ونقد الأدلوجة الذكورية التقليدية، وفي الوقت نفسه نقد ومواجهة أدلوجة الاستلاب السلعي التي تروجها المراكز الإعلامية المسيطرة عالميًا، والعمل في صفوف قوى الأمة الحية، رجالاً ونساءًا، لإكتساب الوعي الحديث والعصري، والإنخراط في معركة التقدم.

كما يحتم على قوى التقدم العربي العمل لتأكيد القيم الإنسانية الديمقراطية العلمانية في الثقافة، وفي المشروع الثقافي الذي يجب أن تحمله، وعلى المساواة التامة بين الجنسين، ودعم الإتحادات والمنظمات النسوية الأهلية وعقد الحوارات معها واحترام استقلاليتها.

ثالثًا: مهام المشروع النهضوي العربي:

إنّ نقد التصور التنموي – الإقتصادي للتقدم الذي سوقته أدلوجات التنمية، ناهيك عن الأدلوجة الماركسية، في أوساط اليسار العربي التقليدي، من ناحية، ونبذ التصور القومي الكلاسيكي العربي لجهة رومانسية وتقليديته وعدم إمساكه بالمسألة القومية الديمقراطية، والفكر التقليدوي المتأخر والسلفي بمختلف تلاوينة، من ناحية أخرى، إن ذلك يفرض على كل قومي عربي ديمقراطي متقدم تبني تصورًا مختلفًا لمشروع النهوض العربي تجسده مقولة الثورة القومية الديمقراطية.

إن هذا المشروع الكبير، ينبني على عوامل موضوعية جاذبة له، تتمثل أساسًا في التاريخ والثقافة المشتركين للشعوب العربية، والذي ولّد لديها تطلعات تضامنية ووحدوية كشفتها التجربة الناصرية، والأحداث التي شهدتها المنطقة العربية منذ نزع الإستعمار وبروز خطر الصهيونية وأطماعها في الأرض العربية. أضف أن النزوع الوحدوي العالمي، سواء على صعيد ما بين القوميات (وحدة أوروبا) أو على الصعيد القومي المحدد (تفكك الكتلة الإشتراكية وإعادة تأسيس الكيانات السياسية ” الثورية “…) إن هذا النزوع، يلعب لمصلحة مشروع قومي عربي يؤسس لكيان عربي مستقل قابل لإحتلال موقع قوة اقتصادية وسياسية على المستوى العالمي.

ولكن، ما هي القيم التي يُفترض أن يحملها المشروع القومي العربي الديمقراطي؟

  • المسألة القومية: القومية الحديثة هي جدل الديمقراطية والعلمانية، وهي “منظومة علاقات متطورة ومميزة نسجها تطور تاريخي” معين بين أعضاء جماعة واحدة أو عدة جماعات، في سيرورة إدماج تاريخية وتاليًا، وخلافًا لكل التسميات الدارجة، ليست قومية، بل قوماوية، أي تلك المرتكزة على شعارات الماضي البعيد دون أفق تقدمي وعصري، أي أن القومية ليست مجرد موقف تمايزي أو انثنائي أو عدائي تتخذه جماعة ما ضد أخرى، بل هي “الحركة التاريخية التي ترفع سديمًا بشريًا إلى كتلة متجانسة، متلاحمة، مندمحة، تستحق إسم أمة”.

إن المشروع القومي بهذا المعنى ليس إستعادة لتاريخ مضى، بل هو إنجاز عصري جديد، يستند على المورث التاريخي الحضاري ويطوره ويضعه في سياق العصر، ويشمل أساسًا تجاوز التجزئة المجتمعية داخل الأقطار، أي تجاوز كافة الانقسامات العمودية التي تنخر بًنى المجتمع وتفككه، وتساهم في تأخره وعجزه عن اللحاق بالعصر. وتجاوز التجزئة القومية بعد أن تحوّلت الأمة إلى دول قطرية مفككة عما يحيط بها من أقطار أخرى، تعاني جملة مشاكل وتحديات تعجز عن مواجهتها.

إن تجاوز التجزئة القومية يتطلب العمل من أجل استعادة سيادة الأمة جمعاء على مقدراتها وثرواتها، وهذا يستلزم مقدمًا، سيادة أدلوجة قومية عصرية، ديمقراطية، حيث تلعب الفعاليات الفكرية والسياسية العربية دورًا رئيسًا في التبشير لهذه الأدلوجة تمهيدًا لغرسها في تربة المجتمع وإنمائها فيه.

إنّ الدولة القطرية العربية الراهنة، عاجزة عن مواجهة تحديات العصر المختلفة، والتجزئة السياسية العربية واستمرارها، هي القانون والمرتكز الرئيسي للإمبريالية العالمية، وهي حجر الأساس في استراتيجتها (حيث أن الدور الرئيسي للدولة الصهونية القائمة هو حراسة واقع التأخر والتجزئة العربية في إطار الإستراتيجية الإمبريالية للهيمنة على المنطقة واستنزافها).

إنّ التجزئة هي محصلة واقع التأخر العربي، مع الفعل الإمبريالي، ولا يمكن إطلاق المشروع القومي العربي النهضوي إلاّ بإطلاق عمل سياسي شعبي ديمقراطي من شأنه أن يحوّل الدولة القطرية الراهنة إلى دولة وطنية تشكل حجر البناء الضروري في هيكل الدولة القومية.

وبهذا المعنى فإن العمل السياسي الذي يمارسه المجتمع في مؤسساته المستقلة، لتكون السلطة نتاجه وتعبيرًا عنه، هو ذاته النضال القومي الديمقراطي المنشود. ومن المهم التمييز بين الدولة القطرية، “كدولة”، وبين السلطة القطرية المهيمنة على هذه الدولة.

إنّ المشروع القومي العربي ليس ضد “الدولة”، بل هو ضد سياسات سلطوية قطرية تابعة من جهة، واستبدادية تمنع تطور الدولة القطرية وعدم تحولها إلى دولة وطنية تشكل مقدمة على طريق بناء الدولة القومية المنشودة.

  • المسألة الديمقراطية: الديمقراطية نقيض الإستبداد والإلغائية، وهي لا تعني شيئًا خارج إطار علاقاتها الجدلية بمشروع النهوض القومي بمختلف جوانبه وأبعاده. وهي، بوصفها شكل من أشكال ممارسة الحرية في الدولة والمجتمع، فإنها مفهوم سياسي مدني حديث يقترن بالعقلانية الإنسانية والعلمانية، ويتجلى ذلك في ثلاث مستويات رئيسية:

  • المستوى السياسي: الذي يرتكز على الحقوق المدنية والسياسية والثقافية للإنسان وللمواطن، بما فيها حق اختيار الحكام ومراقبتهم وتغييرهم، وحق الإعتقاد والتعبير، والتنظيم والإنتخاب والترشيح، أو حق الشعوب في تقرير مصيرها.

  • المستوى المعرفي (المنهجي): الذي يؤكد على نسبية الحقيقة، وأن الحقيقة غير مكتملة على الدوام، ويرفض الرؤى الشمولية المطلقة كمدخل أساسي لقبول التعددية الفكرية والسياسية.

  • المستوى الاجتماعي: الذي يتأسس على فكرة المساواة. فالمساواة ذات وجهين: سياسي – حقوقي وإجتماعي يكفل مستوى من الدخل والرفاه، وحدًا مناسبًا من العدالة الإجتماعية يتيح للحريات السياسية والفكرية أن تتحقق.

إن النضال من أجل الحقوق والحريات السياسية يجب أن يرتبط عضويًا بالنضال من أجل مصالح الطبقات الشعبية في إنتاج، وتوزيع الثروة الإجتماعية على نحو عادل (وهذا هو جوهر المشروع الاشتراكي).

إن طائر الديمقراطية لا يمكن له أن يحلق إلاّ بجناحيه، الجناح السياسي، والجناح الاجتماعي.

وقد أثبتت تجارب الاشتراكية المنهارة، وكذلك تجارب الليبرالية الغربية، أن لا طريق فعليًا أمام أمتنا وغيرها من الأمم المتأخرة والتابعة سوى الطريق القومي، الديمقراطي ذو الأفق الإشتراكي.

  • العلمانية (Secularism): العَلمانية من العالم، مفهوم حديث يعني تنظيم شؤون العالم الزمني، بعيدًا عن مفهوم الدين التقليدي الذي يعتقد أن الدنيا دار فناء ومجرد عبور لعالم آخر أبدي، ووضعت النفوس الدينية (على اختلافها) السبيل له مرة واحدة وإلى الأبد، ويرتكز هذا المفهوم على فكرة الإنسان الحر، وحقوقه الأصلية، بغض النظر عن انتمائه الفكري أو الديني أو السياسي أو العرقي. ومن خلال اعتمادها على الإنسان الحر والعالم الزمني، تسعى العلمانية إلى سعادة الإنسان في هذا العالم وتترك للدين (أو الإيمان) تصور الخلاص الأبدي أو الإيماني.

لا تتجاهل الدولة العلمانية وجود المؤسسات الدينية، ولا تستثني المفاوضات والعلاقات بينها، بل تؤكد على أن الإنتماء الديني شأنه شأن أي انتماء آخر، قضية إيمانية شخصية وجماعية، وعلى الدولة احترامها وتأمين حق ممارسة شعائرها، والتعبير عنها. وهذا الانتماء لا يتعارض مع العلاقات الإنسانية المدنية بوصفها علاقات تضامن بين مواطنين متساويين وأحرار.

من هنا، فإن العملنة تشكل سيرورة تحرر للإنسان العربي على مستويات مختلفة: فهي تلغي وحدانية الدولة وشموليتها المرتكزتين على أدلوجة الإستبداد، فتعترف بحرية الميول والإتجاهات وتعدديتها، وترفض الإمتيازات التي تتمتع بها المؤسسات الطائفية والمذهبية والتي تستفيد منها فئة اجتماعية تخفي مصالحها الضيقة تحت رداء الدين، وتسوقه في المجتمع على نحو ينمي الروح الإمثالية واللاعقلانية في الأوساط الشعبية، ويقمع استعداد الفرد للإختيار الحر، ويشوه الدين ومقاصده الإنسانية العليا، ويخضعه لقراءة نفعيه سياسية تخدم مصالح سياسية عابرة.

العلمانية، لا تعني أبدًا الإلحاد، أو التضييق على المؤمنين، كما يشيّع خصومها. بل هي تحرر الدين من تعبيراته الزمنية النفعية، وتعقلن النظر إليه، ومن خلال القوانين المدنية الاختيارية للأحوال الشخصية، والتربية المدنية، فإن العلمانية تشكل مدخلاً إلى الإندماج القومي الذي لا يلغي الأديان أو الطوائف والمذاهب أو الأثنيات، بل يعني تجاوز العلاقات ما قبل القومية وإرساء العلاقات المواطنية.

إنّ العلمانية هي المخرج لأزمة تسييس الدين، وتديين الدولة، وللصراعات الطائفية التي تمزق المجتمع بسلاح المذهبية الدينية.

وأخيرًا، فإن العلمنة (والديمقراطية) ليست بالضرورة محاولة لإستنساخ المجتمع العربي في صورة المجتمع الغربي، ذلك أننا نعي ما يشوب هذا المجتمع الأخير، على الرغم من تقدمه في مستويات عديدة، من علاقات لا مساومتية بين فئاته (التمييز العنصري مثلاً بين الأبيض والأسود، وبين المواطن الأهلي والمتجنس، وبين المواطن والمهاجر). فضلاً عن سياسات السيطرة والنهب التي تمارسها الدول الغربية على الدول النامية، أو المستعمرات السابقة، وإخضاع مواقفها من حقوق الإنسان في العالم لمصالحها المحدودة.

إن مشروعنا القومي مبني على مفاهيم الديمقراطية والعلمانية بصفتها مفاهيم مجردة لا تلزمنا تطبيقاتها المتنوعة في هذا المجتمع، أو ذاك من العالم. فالتطبيق الواقعي لأي مفهوم يتوقف على طبيعة المجتمع الذي سيطبق فيه هذا المفهوم، وطبيعة القوى التي تناضل في هذا المجتمع، ومدى وعيها، والمصالح التي تفرض هذا المفهوم، وسيكون للمجتمع العربي قواه السياسية والفكرية والثقافية طريقتهم في مواجهة تطبيق الديمقراطية والعلمانية على نحو أكثر إنسانية ومساوتية مما هو سائد.

  • المجتمع المدني: المجتمع المدني بوصفه التجسيد الواقعي والعياني للأمة، لا يتلخص في المؤسسات المستقلة أو غير المستقلة عن الدولة (كما يشيع البعض استخدامه، بل هو حاصل تمفصل العلاقة بين الديمقراطية والعلمانية).

ففي المجتمع المدني، تنتظم علاقات الأفراد والجماعات على أساس حرية الإنسان بصفته مواطنًا ذا حقوق وعليه واجبات، ويرتبط بعلاقات مؤسساتية مع الدولة من جهة، ومن جهة أخرى مع مختلف أشكال الولاء والتنظيم العصرية الوطنية (أحزاب – نقابات – جمعيات أهلية – نوادٍ…الخ). على حساب أشكال التنظيم والولاءات التقليدية (طوائف، عشائر، ملل… الخ). وتلك الولاءات المرتبطة بالخارج بشكل أو بآخر وتعمل وفق أجندته ومصالحه.

إن بروز فكرة (المجتمع المدني) في الخطاب السياسي العربي اليوم، يعكس ضرورة فتح النقاش حول هذا المفهوم وإعادة رسم البرامج السياسية في ضوئه، مثلما يعكس حالة تفسخ الدولة القطرية التي تقلصت إلى أداة سيطرة وقمع.

إن تأكيد مقولة “المجتمع المدني” تنبع من ضرورة مواجهة الدولة الشمولية التسلطية التي ابتلعت المجتمع المدني، وأعاقت نموه وتبلوره، وأفسحت في المجال لنكوص إجتماعي نحو التطرف الديني والسياسي والطائفي والمذهبي. كما نبع هذا التأكيد من ضرورة إعادة بناء الحركات السياسية على أرضية الإنغراس في المجتمع المدني بهدف تطويره وإنمائه. كما لا بدّ من التأكيد على ضرورة عدم تبعية الأطر التنظيمية الفاعلة لترسيخ المجتمع المدني للخارج، وأن لا تتحول إلى أدوات لهذا الخارج للسيطرة والتحكم والتلاعب في إتجاهات الداخل والمصالح الوطنية والقومية (الأنجي أوز – على سبيل المثال)..

  • التنمية: ونقصد بها تجدد المجتمع في كافة مناحي الحياة، بدءًا بتطور القطاعات الإنتاجية الزراعية والصناعية والتجارية والخدماتية وتأهيل اليد العاملة، وتأمين فرص العمل الآمنة، وبناء مؤسسات الإنتاج انطلاقًا من المصلحة القومية والمواطنية، وضرورة تحسين مستوى معيشة الفئات الأكثر فقرًا من الشعب.

والتنمية عمل إرادي يقوم به شعب يتمتع بحرياته الديمقراطية، وواعٍ لحجم التحديات التي تواجهه، من الداخل والخارج. لذلك لا يمكن فهم التنمية في إطار اقتصادي صرف، ولا حتى في إطار اقتصادي – إجتماعي، بل إنها عملية تجدد وتحديث شاملة للمجتمع بما يضمن تطوير الحضارة القومية وإكسابها القدرة على التفاعل مع الحضارات الأخرى على أساس التكافؤ النسبي على الأقل، وذلك من خلال الحصول على أكبر مساحة ممكنة من حرية القرار السياسي والاقتصادي القومي، إزاء الخارج، فضلاً عن تحسين موقع المجتمع العربي قياسًا بمواقع المجتمعات الأخرى المتقدمة في إطار النظام الدولي القائم. إذن، إن التنمية التي ننشد تتميز بسمتين رئيسيتين:

  • تنمية ذات طابع قومي تنطلق من إعتبارات التكامل الإقتصادي العربي. إذ أن خيار التنمية القطرية يزداد تأخرًا وانغلاقًا في عصر التكتلات الإقتصادية والسياسية، وخصوصًا في ظل تحديات العولمة الراهنة.

  • تنمية مندرجة في إطار مشروع نهضوي شامل، وهدفها تلبية الحاجات المادية والروحية للمجتمع، بمختلف فئاته وطبقاته، ولا سيما الفئات الشعبية في مواجهة الفئات والشرائح الكومبرادورية المرتبطة بآلية الهيمنة الإمبريالية بشكل أو بآخر.

والتنمية ليست الحداثة أو التحديث فحسب، لأن الحداثة قد تكون قشرية فاقعة غير مرتبطة بالواقع ولا تطال مختلف شؤون المجتمع ومكوناته الاقتصادية والبنيوية.

أخيرًا، هذه مجموعة أفكار وطروحات، أعددتها لفتح الحوار من جديد بين المثقفين والمفكرين العرب، علّنا نتوصل معًا إلى صياغة مشروع قومي عربي نهضوي متقدم، ونتجاوز أطر التأخر والتجزئة والهيمنة السائدة. وبالتالي سيتبع هذا النص، طروحات حول تحديد النظرية التنظيمية وآليات العمل.

                                                   أسد زين غندور

 في 10/4/2023

اترك تعليقاً