قال لي مصطفى بشارات: أنا قادم إلى لبنان فماذا تريد من فلسطين؟ أجبته بفرح: سأشمّك كأني أشم زهور فلسطين، وسأعانقك كأني أعانق مدن وقرى وجبال فلسطين. حين قابلته أمام فندق الكومودور في بيروت، ارتبكنا للحظات، تعانقنا، حضر غسان كنفاني على الفور، إذ طلب مصطفى قبل انطلاق رحلتنا زيارة ضريح الشهيد غسان كنفاني في مقبرة الشهداء، فشلت في تلبية طلبه لجهلي بجغرافية بيروت، أنا ابن الجنوب الذي لم أزر بيروت حين كنت مقيماً في لبنان سوى مرتين، وكانتا للحصول على تذكرة سفر لأتوجه إلى الجزائر للدراسة الجامعية، وكان قد مرّ من عمري آنذاك تسعة عشر عاما، وصرفت سنوات طويلة خارج لبنان ولم أعد إلا من أربع سنوات..
مصطفى بشارات، أديب وإعلامي وسياسي وفلاّح ومناضل فلسطيني. تعرّفت إليه حين استضافني في برنامجه الشهير (من هناك)، الذي يُبثّ من صوت فلسطين في رام الله، وتعمّقت معرفتي به عبر الهاتف، لكن حين تقابلنا قال لي: (أنت طويل يا رجّال..هيك صار عندي مشكلة!)، علما أن مصطفى ليس بالقصير، لكن لديه حسّ الدعابة غير المصحوبة بالضحك، يرمي (نكتته) ويحتفظ بملامحه الجادة، فهمت ذلك سريعا. قضينا يوماً جميلاً حافلاً بالأحاديث الأدبية والسياسية، حاول مصطفى أن ينقل لي صورة مُفصّلة عمّا يحدث في فلسطين، من الصراع اليومي مع العدو الصهيوني، إلى إشكاليات التعامل مع السلطة، إلى تفاصيل الحياة اليومية للفلسطينيين ومعاناتهم.
انتهى اليوم، أهديته روايتي (رقصة الفيلسوف) وحمّلته نسخة لصديقنا المشترك الإعلامي والشاعر أحمد زكارنه، الذي يعمل أيضا في صوت فلسطين. وأهداني كتابه (الشتاء يأتي متأخرا: يوميات من حصارٍ قد ينتهي)، وجنّسه بـ “سيرة ذاتية”، لكنني وجدته سيرة شعب، خاصة أن الكاتب ينهيه بجملة أوجزت المشهد برمّته تقول: (آه أيتها الطفولة المفقودة.. أيتها الثورة المسروقة..أيها الوطن اليتيم..والسليب..).
مصطفى يحمل غصّة كبيرة جداً، أخوه جمال كان مطارداً من الجيش الإسرائيلي (كما جاء في حديثه وفي الكتاب) لكنه اعتُقل من قِبل أمن السلطة لمدة 33 يوما، وأصيب بالسرطان وهو رهن الاعتقال، وحين أُفرج عنه، لم يمهله القدر، فلاقى وجه ربه في عمر 51 عاما.. مات جمال أبو الريحان (أبوضياء). وغصة مصطفى بشارات لا تنحصر في رحيل أخيه فحسب، ولكن من المشهد السياسي بأكمله، المشهد الفلسطيني الفلسطيني، المشهد الفلسطيني الصهيوني، المشهد الفلسطيني الإنساني. وقد لمست هذه الغصة في كل صفحة من صفحات كتابه (الشتاء يأتي متأخّرا)، وكانت غصّات، وطنية وسياسية وعاطفية وإنسانية، وهو الأديب القادر على جعل القارئ يشاركه التجربة الغنية المؤلمة.
طويت آخر صفحة في الكتاب ولدي صورة أوضح عن الوضع الفلسطيني المعقّد تحت الاحتلال، من دون التخلّي عن تحميل المسؤولية للعدو الصهيوني، إضافة إلى القيادة الفلسطينية، التي تورّطت في اتفاقية أوسلو، الاتفاقية التي وصفها المفكر الفلسطيني العالمي إدوار سعيد بأنها امتداد للاحتلال.
رافقت فلسطين لنهار واحد، هذا كان شعوري الذي بحت به لمصطفى فيما بعد. وحين همّ للعودة إلى بيروت بصحبة أصدقائه، ليسافر في اليوم التالي إلى فلسطين، تعانقنا كما لو أننا نعرف بعضنا بعضاً منذ ما قبل النكبة، ستر الليل دموعنا وغصّاتنا.. وصعدت إلى المنزل لأغرق في عتمة الغربة من جديد.. شكرا مصطفى بشارات مرتين، لحضورك الأنيق، ولكتاب الشتاء يأتي متأخرا..