نصّ ضدّ مجرى النّهر
شعر: أنور الخطيب
أكتب حين ينام الناس
لآنسَ ناري
لم يرسلْني أحدٌ لكن أرسلتُني لي
لأقيمَ طقسَ النجاةِ من الجُناة
وأنقذَني من الوحيِ الذي انشقّ عن وحيِه
وكي يكونَ بعثي حديثاً أبطلتُ كلّ العنعنات
أفتيتُ بأخذِ الوحيِ المُنشقِّ رهينةً؛
ثمةَ خطأٌ مطبعيّ في آيةِ الصّحراء
سأقوّمُه،
وأكتبُ نصاً ضدّ مجرى النّهر
نصاً آخرَ ضدَّ البحر
ونصاً ضدَّ السّحر
ونصاً أخيراً ضدَّ المتاهةِ
ساسرّح الوحيَ بعدها
ليثرثرَ أو يتأتأَ أو يقتلَ
أو يتزوّجَ من عاقرٍ،
النبوّةُ لا تتناسلُ أو تُوَرّثُ
لا توزّعُ أرضَ الله على العاصين والتائهين
لا بدَّ للجغرافيا أن تبقى بيضاءَ كقلب الطير
ليبقى النهرُ لأصحابِ النّهر
أغنيةً من نبيذِ السماءِ وأعني: لأمِّ داليتي
ويبقى البحرُ لأصحابِ البحر
منتَجعاً لأبناءِ مائي،
للذين يولدون طبيعيين
وليس في عملية قيصرية من جسد الخرافة..
قال لي قارئ يجيدُ اغتصابَ النّصوصِ
ويقرأُ ما بين السطور: ما شأنك والمتاهة؟
قلت: طرّزتْ منفايَ على خصرها
وجذّرت كراهيتي للمن والسلوى
لهذا، لديّ حقّ مقدّس بنقض الحكاية من أولها
والعداءِ مع الصحراء
ولي حقُّ قطعِ الطريقِ على ما يحملُ النّهرُ من نوايا القتل
ما يحملُ البحرُ من خللٍ في أداء الموج
ما يحمل السّحرُ من أفاعي المرايا
وما تخلعُ الثعابين من أثوابها
لتضرِبَ سوراً من السّمِّ حول بستان جدّي
قال القارئُ بين سطورِ نصوصي: أنت ملحدٌ إذن
قلت: في هذا، سأكتبُ نصاً رابعاً للمؤمنين
كي يكِفّوا عن مصاهرةِ الغيب
ويُكثروا من صلاةِ الحنين
لي حنينٌ لكل ما صادرته المتاهة من دمي
للعصافير التي ذُبحت عند عودتها من الغناء
لصبايا الينابيعِ وهنّ يردّدْنَ نشيدَ الخصوبة
للرهبانِ والشيوخِ والصعاليكِ وهم يسبّحون اللازورد
لي حنينٌ لذكرياتٍ لم أعشْها مع القناديل والفَراش
لشبابِ أبي وصِبا أمّي
ولقريةِ الأحلامِ على سفحِ القصيدة،
قال القارئُ بين سطورِ نصوصي: أنت مؤمنٌ إذن
قلتُ: لستُ كافراً ولستُ مؤمناً
أنا شيءٌ من الكافِ وشيءٌ من الميم
شيءٌ من الشمس شيءٌ من السّهو
شيءٌ من السّرد شيء من النّرد
كلّ شيءٍ تعمّدَ أو تردّد
كلّ هذا التمرّدِ هذا التّشدّد
فكُفّ عن صلبي على حافة الأشياء
لا أحبُّ الحوافَّ ولا الضفاف
لا تقرأ نواياي بين السطور
واقرأ السطرَ ذاتَه
أرسلتُني إليّ لأوجزَ الأبجديةَ القديمة
لا دخل لي إن عصا التائهون أو تابوا
لست جائزةً تُمنحُ للفائزين بقتلي
أرأيت الآن كم أنا مؤمنٌ وكافرٌ
فكم سيستغرقُ الوحيُ في قراءة ما بين السطور؟
كم ستستغرقُ أنت لتفْهَمَني؟
قال: أنا أفهمك، لكن النّهر جرى
والبحرُ انشقّ عن منشقٍ وورّث موجَه لليابسة
وأنتَ تراوحُ بين الكافِ والميمِ وتتبعُ حاستَك السادسة
قلت: أنا الكافُ في الميمِ والميمُ في الكاف
ولستُ وحدي من أرسل ذاتَه لذاته
لستُ وحدي من يحنّ إلى وطنٍ على مقاسِ الحلم
من يكتبُ نصاً ضدّ مجرى النهرِ
ضدّ مجرى البحرِ ضدّ السّحرِ وضدّ التّيه
قال القارئُ بين سطورِ نصوصي:
واصل حنينكَ للحنين
واكتب نصّكَ فوق نصوصِ النّهر
ستأنس ناركَ في دارك
واكتب حين ينامُ الناس
ستأنسُ نارَك
….
إضاءة نقدية في قصيدة “نص ضد مجرى النهر” للشاعر أنور الخطيب
كلمة ألقيتها ضمن فعاليات الاحتفالية الثالثة تأسيس المعهد العالمي للتجديد العربي يوليو 2022م
بقلم: جواد العقاد
إن ينابيع مشروع أنور الخطيب الشعري ورافده متعددة ودافقة، شرايين كثيرة تجرى إلى قلب واحد؛ فالمتأمل في شعر الخطيب يحدد له ثلاثة روافد شعورية وفكرية: الحنين للوطن ومرارة الغربة، وهو الرافد الأبرز في تجربته، ولا شك أنه أعاد قراءة مفهوم الوطن شعرياً مراراً. كما
شكلت الأنوثة وجدليتها مع الفحولة منعطفاً مهماً في تجربة الشاعر، ولم ينتبه لذلك أحد نقدياً؛ لأن ثنائية الوطن والمنفى طغت على غيرها، مع أهميتها إلا أنه يجب ألا نحصر فيها الخطيب – وغيره من شعراء المنفى- فهناك ثيمات أخرى من أهمها “جدلية الأنوثة والفحولة” التي قد يُشكل البحث فيها رؤيةً جديدة في النقد الأدبي. أما الرافد الثالث – محل الحديث- فهو تفكيك التراث ونزع القداسة عن الخرافات بالشعر، بهذا يرمي أنور الخطيب كرة النار إلى مرمى النقد، لنعود ونسأل: هل مطلوب من الشعر خلق الوعي الإنساني؟ إعادة قراءة التاريخ؟ الوعي بزيف العاطفة؟!
أعتقد أن قصيدة “ضد مجرى النهر” نص استثنائي من حيث البنية الفكرية، الشاعر لم يقدم جديداً على مستوى الأسلوب- إلى حد ما- غير أنه قدم رؤية جديدة، نحاول الغوص إلى أعماق القصيدة ونقض بنيتها السطحية وصولاً إلى الهامشي والمسكوت عنه، وهذا ليس سهلاً في قصيدة تهدم اليقيني والمقدس وتطرح رؤية جديدة لمفاهيم راسخة في الوعي الجمعي، لهذا فأعتقد أن الجدل حول هذه القصيدة وتعدد القراءات أهم بكثير من تقديم قراءة واحدة..
وإن انفتاح التجارب والنصوص على بعضها من أهم الروافد التي تغني النص، والتعالق بين النصوص أو “التناص” أكثر
أشكال الانفتاح وضوحاً، ويُعرف التناص أنه: نص يستحضر نصوصاً أخرى مختزنة في الذاكرة…
يبدأ الشاعر قصيدته بالتناص الديني من القرآن الكريم، إذ يقول:
“أكتبُ حين ينامُ الناسُ لآنسَ ناري،
لم يرسلْني أحدٌ لكن، أرسَلْتُني لي
لأقيمَ طقسَ النجاةِ من الجناةِ”.
نستحضر الآية الكريمة: “إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا”. (النمل:7)
الكتابة فعل فيه نوع من الخلق والابتكار، وهي بمعناها العميق ليست تشكيلاً لغوياً فحسب إنما تتضمن تشكيلاً للوعي أيضاً، فأعمق القصائد وأهمها.. تلك التي تُعيد كتابة العالم، والكتابة شك مستمر ضد اليقين أو على الأقل تحاول الوصول إلى معنى يقيني نهائي للعالم، وتفشل في كل مرة. من هذا يبدأ الخطيب بناء قصيدته، فالنار هي الحقيقة المطلقة التي يبحث عنها في عالم الشرور والمادة.
ويقول الشاعر مستحضراً “معجزة شق البحر”: قال: أنا أفهمك، لكنّ النهرَ جَرى
والبحرَ انشقّ عن منشقٍ، وورّث موجه لليابسة…
فما الانشقاق عن المنشق؟!، وما الموج المورث؟! هذا المقطع خطير جداً وهو يتسلل الوعي باللغة الشعرية!
ومقاربة التعالق النصي الديني لا يتجاوز كونه مدخلاً ومفتاحاً للغوص في أعماق القصيدة التي اتخذت من قصة موسى معادلاً شعورياً لمأساة أنور الخطيب على الصعيد الفكري والوطني، فالمعنى غير مستقر ومتداخل ما بين الهم الشخصي والفكري، وهدم اليقيني الثابت، على الأقل شعرياً. والقصيدة قائمة على ثنائية ضدية شكلت بنيتها الفكرية، وهي ثنائية الشك واليقين، وكل قطب من قطبي هذه الثنائية شكلَ حقلاً دلالياً رئيساً ضم مفردات عدة
تتحد لتؤدي المعنى.
وللحديث بقية…