نحنُ والعدوُّ واختلال ميزانِ القوى
د. وسام الفقعاوي
السبت 27 نوفمبر 2021 | 08:48 ص
عنت هزيمةُ عامَ 1948، (باعتبارِها هزيمةً عسكريّة؛ ترتّبَ عليها ضربُ الوجودِ الماديّ للشعبِ الفلسطينيّ على أرضِ وطنِه، وإقامةُ “إسرائيلَ” في قلبِ الوطنِ العربي)؛ بأنّ مشروعَ تفتيتِ المنطقةِ وتجزئتِها قد ضَرَبَ عميقًا، وأنّ نداءَ الوَحدةِ لم يكن يوجّهُ لواقعٍ بِكْرٍ يستجيبُ بسهولة، حيثُ تشكّل بالقوّة واقعًا انفصاليًّا، امتد لثلاثين عامًا أو يزيد، أي منذ اتفاقيّةِ سايكس بيكو، بحيث كانت كافيةً لتؤسّسَ لنفسِها قاعدةً تستندُ إليها وتتّسعُ باستمرارٍ حتّى يومِنا هذا. ومن هنا، تكمنُ البدايةُ الصحيحةُ لأيّ حديث؛ فالصراعُ الدائرُ، لم يكن بين حقٍّ وباطل، لينتصرَ الحقُّ بمجرّد إشهاره في وجه الباطل، بل مع مشروعٍ متكاملِ الحلقات يُنفّذُ على مراحل؛ فما حدث عامَ 1948، لم يكن سوى مرحلةٍ تعني فيما تعني أنّ ميزانَ القوى الشاملَ كان مختلًّا بما يكفي ليتمكّنَ العدوُّ من تحقيقِ هدفٍ نوعيٍّ جديد، ولكن هذا الهدف، لم يكن نهائيًّا. ولأنّه لم يكن كذلك؛ كان العدوُّ يسعى لإحداثِ مزيدٍ من الاختلال، وهو ما كان، حيث أتت الأيّامُ بعد ذلك لتثبتَ أنّ ميزانَ القوى في الحرب التالية سنةَ 1967، كان أكثرَ اختلالًا ممّا كان عليه سنةَ 1948.
نعم، لقد كان ميزانُ القوى مختلًّا في كلا الحربين التي صبّت نتائجَهما في صالح المشروع الصهيونيّ، لكن ما هو أهمُّ من ذلك هي الديناميكيّةُ التاريخيّةُ التي قادت إلى هذا الاختلال، التي تعودُ في جوهرها إلى تفاوتِ نقطةِ بَدْءِ الفريقين المتصارعين (العربي/الفلسطيني – الصهيوني) وعناصر قوّتهما؛ إذ كان الصراعُ بين ديناميكيّتين وواقعين ماديّين مختلفين جذريًّا؛ فالعدوُّ كان يقفُ عند نقطةٍ متقدّمةٍ جدًّا، وامتلك عناصرَ قوّةٍ كان يراكمُها ويبني عليها باستمرار، فكانت الحصيلةُ الإجماليّةُ لذلك هي ضياعُ فلسطين، ليس بالحربين العسكريّتين فقط، بل استمر واقع الاختلال حتّى خسرنا معركةَ السلام، الذي توهّم بعضُنا أنّه يمكنُ أنّ يتحقّقَ دونَ تحقيقِ حريّةِ فلسطينَ وشعبِها؛ فالاحتلالُ ووجودُهُ هو نقيضُ السلامِ وتحقيقُه.
إنّ النقطةَ محلَّ الاهتمامِ هنا، هي محاولةُ تحديدِ الديناميكيّات والآليّات الداخليّة التي امتلكها المشروعُ الصهيونيّ، بشكلٍ مكّنَ له تجميعَ كلِّ ذلك القدرِ من الإمكانات، وأحسنَ إدارةَ التناقضات التي جابهته، وحلَّها لصالحه؛ توحيدًا واستثمارًا وتوظيفًا؛ محقّقًا – من خلالها في نهاية المطاف – مشروعَهُ بإقامةِ دولتِهِ على أنقاضِ الشعبِ الفلسطينيّ وأرضِه، وليس هذا وحسب، بل ونِيلَ الاعترافَ بأحقيّةِ وجودِ هذهِ الدولةِ من قيادةِ الضحيّة (الشعب الفلسطيني…!).
لعلَّ الجوابَ المعزّزَ والمستندَ إلى وقائعَ كافية؛ هو امتلاكُ المشروعِ الصهيونيّ لديناميكيّةٍ عاليةِ الفعاليّة؛ تعودُ أساسًا إلى ارتفاعِ مستوى المؤسّسةِ التي رعت وأدارت المشروع، سواءً أكانت نخبةً قياديّةً، أو نظامَ عملٍ وآليّاتٍ، أو رؤيةً، وقوّةَ دفعٍ أيديولوجيّ، وإلى خبرةٍ تاريخيّةٍ تأسَّسَ لها مع انعقادِ المؤتمرِ الصهيونيّ الأوّل قبل خمسينَ عامًا من إقامةِ الدولة التي تقرّرت فيه. فإذا كانت هذهِ هي الصورةُ للمشروع المعادي، حيث جمع بين ميزانِ قوًى مختلٍّ لصالحِهِ، وبين الخبرةِ التاريخيّة التي وضعته في مكانٍ متقدّمٍ في إدارة الصراع، ومؤسّسةٍ عاليةِ المستوى؛ فإنّ الصورةَ على الجانب الآخر؛ العربي – الفلسطيني، كانت مختلفةً كليًّا، سواءً من حيثُ المؤسسةُ أو الخبرةُ التاريخيّةُ، وما يرتبط بهما من عواملِ تحشيدِ القوّة الماديّة، إلّا ما امتلكه من المشروعيّةِ التاريخيّةِ والأخلاقيّة، بما لها من أهميّةٍ حاسمةٍ في تأسيسِ الصراعِ وإدامتِه، ولكنّها تبقى بحاجةٍ إلى العوامل التي تجعلُها تحقّقُ ذاتَها، وهذا ما افتقدته – وما تزالُ تفتقدُهُ حتّى يومِنا هذا – حيث استعضنا عن الرؤيةِ بالخطاب، وعن المؤسّسةِ بالرمز/القائد، وعن الآليّاتِ والبرنامجِ بالشعارات العامة.
لقد وفّر تفاوتُ البُنَى التأسيسيّةِ لكلٍّ من فريقي الصّراع شروطَ استمرارِ الفجوة، وهو ما أبقى البابَ مفتوحًا لأنْ يبقى المشروعُ المعادي يراكمُ في عواملِ قوّتِه، وفي المقابلِ استمرارِ تناقضِ القولِ والفعل؛ الشعارُ والممارسة؛ الشكلُ والمضمون… ولن نخطئَ لو قلنا: إنّ تجرِبةَ القيادةِ الفلسطينيّةِ للمشروع الوطنيّ، حفلت بكلِّ الثنائيّاتِ المتناقضةِ التي عددناها وأكثر. ففي الصراع التاريخيّ – كما كلّ صراعٍ – ثمّةَ محدّداتٌ قسريّةٌ، وقواعدُ لعبةٍ يصنعُها الطرفان، وحين لا تُحترَمُ هذهِ القواعدُ عند القراءةِ التاريخيّة، وسيرورتِها العمليّةِ التي يقومُ بها كلُّ فريقٍ من فرقاء الصّراع، فإنّ النتيجةَ تكون وبالًا؛ لأنّ من لا يحترمْ قواعدَ الصراع، لا يأخذْ بعينِ الاعتبارِ الطرفَ الثاني الذي يصارعُه، في حين أنّ الاختبارَ الحقيقيَّ لما يملكُ أيُّ طرفٍ من إمكاناتٍ ماديّةٍ ومعنويّةٍ وكفاءةٍ في إدارة الصراع؛ تُختَبَرُ في ميدانِ المقابلةِ بينهما، وليس للرغباتِ والنوايا والحق ِّأيُّ فعلٍ مقرّرٍ في تعديلِ ميزانِ القوى القائم.
إنّنا بحاجةٍ – فعلًا – إلى قراءةٍ فكريّةٍ ومنهجيّةٍ تمكّننا من الخروج بما ينفعُ الحاضرَ والمستقبل؛ من خلال الاستفادةِ من الدروسِ الثمينةِ والكبيرةِ جدًّا، حتى للهزائم التي مُنِينا بها، فهي خيرُ كاشفٍ لمكامنِ النقصِ، والخللِ، والخطأ الذي كان سببًا فيها. لذلك نحن بحاجةٍ إلى قراءةٍ تفصيليّةٍ تفرزُ الصوابَ عن الخطأ، وتقرأُ أحداثَ تاريخِنا وتجرِبتِنا برويّةٍ ورفقٍ وصدقٍ؛ منطلِقةً من مشروعيّةِ نضالنا الوطنيّ وأخلاقيّاته، والهدفِ الذي نسعى إلى تحقيقِه. فلقد قالت التجرِبةُ كلمتَها؛ وهي أنّ الجميعَ قد فشل، وأنّ البديلَ الثوريَّ الذي كان مُعوّلًا عليه – أنْ يكونَ مشروعًا نقيضًا للهزيمةِ وأدواتِها-؛ لم يكن أحسنَ حالًا، إذْ كنّا أمامَ حصيلةٍ إجماليّةٍ واحدةٍ في حساباتِ السياسةِ؛ ربطًا بموازينِ القوى، دونَ أنْ يُفهمَ من ذلك، وبأيّ شكلٍ من الأشكال، أنّه تقليلٌ من القيمةِ الأخلاقيّةِ والرمزيّةِ للقوى، التي ما زالت – على الأقلّ – ترفعُ كلمة: (لا) في وجه حالة الانهيار السياسيّ؛ فلسطينيًّا وعربيًّا.
ما يهمُّنا من كلِّ ما تقدّم، هو التأكيدُ على المنهجيّةِ القائلةِ بموضوعيّةِ الهزائمِ والانتصارات؛ الخطأ والصواب، أي قاعدة السببيّة، التي هي أحدُ أبرزِ قواعدِ التفكيرِ العلميّ، الذي لا يتعاملُ مع الهزائمِ والأخطاءِ من موقعٍ أخلاقيٍّ أيديولوجيّ، بل انطلاقًا من موضوعيّةِ الخطأ، كما موضوعيّة الصوابِ في آن.
كلمةٌ أخيرة:
كوننا لم نستندْ بعدُ – وعلى ما يبدو لن نستندَ قريبًا – إلى قواعدِ المنهجيّةِ والتفكيرِ العلميّ، فثمّةَ عنصرٌ إضافيٌّ يجبُ توفّرُهُ إلى جانبِ أخلاقيّةِ المشروعِ والهدفِ الّلذينِ نتمثلُّهما، ونسعى إلى تحقيقِهما، وحتّى لا تتزايدَ حالةُ الشكِّ بأخلاقيّتِهما وصحّتِهما من حيثُ المبدأُ (وهو ما يسمى بالجبهةِ الثقافيّةِ ومضمونِها)؛ المستغرقُ في مسألة الوعي والمرجعيّة، لناحيةِ توفيرِ ما يلزمُ من أدواتٍ لحفظِ ما يختزنُهُ الوعيُ العامُّ من قناعاتٍ وقيمٍ ومشتركاتٍ ويقينيّات، ولنذكّرْ دومًا بأنّ الموقفَ من فلسطينَ ونضالِ شعبِها هو ما يحدّدُ معيارَ الصوابِ والخطأ، ومن فلسطينَ كانت تُمنح، وعن حقِّ شهاداتِ البراءةِ والإدانة، وتُعطى المشروعيّةَ الأخلاقيّةَ والسياسيّةَ لأيَّ حكمٍ أو فعلٍ، وما يزال، رغمَ تبدُّلِ الأحوال.