غزة هيّأت عناق الجنوب للشمال
أنور الخطيب
غزّة البطلة أنقذتني من أمرين، الأول من الكتابة عن النكبة بلغة رثائية بكائية، والثاني من الرضوخ لفكرة افتعال العدو الصهيوني معارك في مناسباتنا الوطنية، ينتصر فيها ليؤكد على هزيمتنا. ومن لم يلحظ ذلك فليراجع تواريخ المذابح والمجازر، وليتوقف عند الخامس من حزيران والخامس عشر من أيار وغيرها من مناسبات، سيكتشف أن العدو منتبه للزمن، ويسعى إلى ترسيخ الهزيمة في نفوسنا ليشعرنا دائما أنه المتفوّق.
غزّة، بعزيمتها وتضحياتها وصمودها، سحبت من شرايين النكبة بعض أسى وبعض بكاء، واستبدلتها بكثير من الأمل والعزيمة، بل أدخلت مفاهيم أخرى للمواجهة ومنحتها إمكانية الانتصار على الآلة البهيمية المتوحشة التي يديرها إرهابيون يمكن وصفهم بأنهم عصارة الإجرام العالمي، فلولا تغطية دول طاعنة في تاريخ الاستعمار لكيان يجسد الاستعمار والعنصرية والإرهاب، لما استطاع البقاء سنوات قليلة في فلسطين، ورغم ذلك، زوّدتنا غزّة بأمل النصر، وبهذا المعنى، يكون الخامس عشر من أيار ذكرى بدء التحوّل من المراوحة في المصطلح الحزين إلى تجاوزه نحو مصطلح آخذ في التشكّل بخطوط حمراء.
العدو الصهيوني، بسلوكه العسكري الإرهابي المتجسّد في تدمير البيوت والعمارات والشوارع والمدارس والمؤسسات الإعلامية والتجارية والتعليمية والصحية، يسعى إلى ترك أثر مادي يزيل به الانتصار المعنوي، معتقداً أن رؤية الدمار والخراب والظلام سيخلق دوائر كآبة تلتصق بأرواح الناس وتحاصرها، واعتقاده خاطئ لأسباب كثيرة أهمها أن غزّة لديها تجارب كثيرة في الموت والفقر والجوع والتشرّد، تحوّلها في لحظة الخطر إلى حياة وثراء وتشبّع وبيوت ووطن، وقال أحد الكتاب بلغة ساخرة فيها الكثير من التحدي إن الغزيين عنيدون ويعرفون كيف يتعاملون مع الفلفل من دون دموع.
غزة لبّت نداء الأقصى، فصبّ العدو جام غضبه على الجنوب، قطاع القلب، فلبّى الشمال نداء الجنوب، والتقت جهتا الروح لاحتضان فلسطين. هل أرسل بحر غزة رسائل لبحر عكا ويافا وحيفا، فتعانق الموج وفاض وامتد في شوارع اللد وعكا ويافا وحيفا وسط صدمة تاريخية للعدو الذي استأنس لهدوء الفلسطيني، وغاب عن فكره الاستعماري الإرهابي أن الفلسطيني كالجمل، يثأر لنفسه ولو بعد أربعين عاما. وعلى الصعيد الشخصي، حين رأيت النار تندلع أمام مدخل (شَعَبْ)، قريتي التابعة لقضاء عكا، تذكرت أحاديث أبي كلها عن بطولات “الشَعَبيين” في العام 1948، وكيف أن نساء شَعَبْ بِعن حليَهن وذهبهن لشراء السلاح والذخيرة، ويومها قال القائد فوزي القاوقجي، (يحق لنساء شعب أن يرتدين أحذية من ذهب)، وكتب غسان كنفاني قصته القصيرة (العروس) عن قريتي (شَعَبْ). حين رأيت النيران على مداخلها، ورأيت قريتي تنتفض، أرسلت سلاما لروح كنفاني وقبلة لروح أبي، وقلت في نفسي: شكرا يا عروس الجنوب إيقاظك لعروس الشمال. هو الوطن يمارس التخاطر بالدم، ليخلق معجزة الرؤية وأسطورة الأمل.
قد لا يكون نصر غزة كبيرا، وقد لا تكون (شَعَبْ) قد استيقظت بكامل عزمها، وقد لا تتمكن أم الفحم من طرد جنود العدو من شوارعها،وقد يفشل أهالي الشيخ جرّاح في المحافظة على بيوتهم، لكن ما حدث يشبه لمعة الفكرة في عيني شاعر، لينهمر شعراً نقيّا تتناقله الأجيال. هي بداية البدايات، حيث ينبت الأمل قوياً من قبة الأقصى وأبواب القدس وصخور الكرمل وحدائق عكا ويافا ورام الله، إنه فكر الورد الذي يؤسس لحديقة، والحديقة التي تمتد بساتين ضوء على جغرافيا الوطن.
أريد أن أنتهي هنا، ولا أرغب في إفساد الأمل بمناقشة تفاسير الجهلة والشامتين والعملاء والراكعين، هؤلاء الذين يرون الأمور بطبعهم الرديء ونفوسهم المشوشة، الذين يتجرؤون على القول إن ما يحدث في غزة يصب في المفاوضات المتعلقة بالاتفاق النووي الإيراني، لنتخيّل فقط أن تضحي غزة بخيرة شبابها من أجل عيون الاتفاق النووي، ولدينا مثل شعبي يقول (شو دَخَل طُز بـ مرحبا..).
سأتوقف هنا، لأترحم على الشهداء من عسكريين ومدنيين، وأشكر غزة لهذا الأمل، وأشكر شَعَبْ وأم الفحم واللد، وأشكر بحر غزة وعكا وحيفا ويافا، وأرجو أن يكون الخامس عشر من أيار نهاية النكبة، وأول الدبكة
مجلة الهدف