للكتابة سطوةٌ فريدةٌ تحتلّ جسد الكاتب فتسرقه من زمانه ومكانه، وتدخله في دوّامة الحرف الشهيّ، والنزف المقدّس. للكتابة سلطةٌ تجعل من الأديب جنديًّا مهيّأً طوال الوقت لحرب داخليّة ضروس، ولجنون مرتقب، ولهجمةٍ شرسةٍ تغتال وجوده. ولطالما كان الشعر المدماك الأساس في حياة العرب قديمًا، بل هو الرئة التي كانوا يتنفّسون عبرها طعم الحياة ونكهتها ونزق الخيال وجموحه ووجه المجاز وتحليقه.
وكان العربيّ يتوكّأ على عصوين اثنين: اللغة والشعر. وقد رأى كثير من النقاد القدماء أنّ اللغة والشعر هما روحٌ واحدة لا يتجزآن ولا ينفصلان، بل يتماهيان إلى حدّ أنهما يصنعان هويّة المتحدّث، واللغة حتى يومنا هذا تعدّ مبحثًا خاصًّا عند العلماء بين من يراها علمًا بذاته وبين من يراها وسيلة تعبير وأداةً. وقد ذكر الأديب السعودي “محمد الرطيان” قائلًا: “أنت تشبه لغتك ولغتك لها نفس ملامحك” مشيرًا إلى أثر اللغة العميق في الوجود البشريّ.
وقد كانت اللغة محطّ شغل الأدباء والمفكّرين والفلاسفة، فمنهم من غاص في علم اللسان والنحو والصرف وفقه اللغة والألسنية وغيره، ومنهم من تعمّق في المجاز والانزياح اللغوي والتأويل والدلالة وعلم المعاني والبيان والبديع وغيره، وكل هذا بهدف فهم اللغة وأبعادها وأيضًا كان بهدف فهم الشعر والقصائد والمعلقات. وكما يقول ابن جنّي: “أكثر اللغة مجازٌ لا حقيقة” من هنا برز مفهوم “الشعرية” التي كانت ولا تزال موضوع جدلٍ واختلاف بين الأدباء حتى يومنا هذا.
والشعرية (poetic) هي كلمة يونانيّة الأصل تعني الإبداع أو الفنّ الشعري.
وقد تحدّث الشاعر والكاتب العراقيّ شاكر لعيبي في إحدى مقالاته عن كتاب “غوستاف باشلار” (وهو واحدٌ من أهمّ الفلاسفة الفرنسيين) بعدَ أن تُرجم كتابه إلى اللغة العربية تحت عنوان “شاعريّة أحلام اليقظة” فاستوقفه العنوان موضحًا أنّ الفرنسية تفرّق بشكل لا لبس فيه تقريبًا اليوم بين الشاعرية والشعرية، بحسب قوله ويعتبر أنّ المقصود بالشعرية في رؤية باشلار هي معالجة فنّ الشعر، والنوع الشعريّ، والنظريّة العامة للطبيعة ومصير الشعر، فالأمر إذن يتعلّقُ بعلم تقريبًا وبقواعد. لذلك فالشعرية هي مفهوم ومصطلح قائمٌ بذاته، بعكس الشاعرية وهي بالأحرى الصفة التي تميّز بالفرنسية، كما في العربية، الجميل والحسّاس والمُلْهِم والمُؤثِّر والتجريديّ وغير العقلانيّ..
وعليه، فموضوع الشعرية هو الاهتمام بما يميّز نصًّا أدبيًّا عن باقي النصوص الأخرى من خلال مفاهيم وقواعد أساس ينطلق منها الباحث، وهو يهدف إلى فهم آليّات بناء النص من إيقاعية ودلاليّة وبلاغيّة وصوتيّة، وهو بذلك ينفتح على البنيويّة كوسيلة من وسائل تحليل النص ومقاربته، وهو يرتكز على مفتاحين اثنين هما : التحليل والتركيب. وقد تفاوتت تعريفاته كذلك من ناقدٍ إلى آخر ومن جيلٍ إلى جيل، إلا أنّ جميع هذه التعريفات اتّفقت على أمرٍ مشتركٍ يتلخص في البحث عن قوانين الإبداع في النص الأدبي، وبتعبيرٍ آخر، إنها البحث عن الوظيفة الجمالية من داخل النص من مفردات وتراكيب وغيره.
وقد وضعَ مجموعة من الأدباء والشعراء أرضيةً صلبةً لمفهوم الشعرية ومن هؤلاء “ابن المعتزّ” في كتابه “البديع” و”ابن سلام الجمحي” في كتابه “طبقات الشعراء” و”الجاحظ” في كتابه “البيان والتبيين” و”ابن قتيبة الدينوري” في كتابه “الشعر والشعراء”. وقد تجاوز التجديد في الشعر العربي حدود الزمان والمكان وظلّ في حالة تمرّدٍ دائمة على ما اعتبره الأوّلون قوانين ثابتة تكاد تكون مقدّسة عندهم.
إنّ مجموعةً من الدراسات دلّت على أنّ لمفهوم الشعرية العربية جذورًا عند القدامى من العرب.
فهذا ابن الشاعر “حساب بن ثابت” يقول بعد أن لسعه دبّور: “لسعني طائر”، فقال له حسان: “صِفْه يا بُنيّ”، فقال: “كأنه مُلتَفٌّ في بُردَي حِبَرَة” والحِبَرَة: ثوب من قطن أو كتّان مخطّط كان يُصنع باليمن فقال عندها حسان: “قال ابني الشعرَ وربِّ الكعبة”، فجعل الصورة المجازية (وهي هنا: التشبيه) مقياسًا لقوة الطبع ومعيارًا في الفرق بين الذهن المستعدّ للشعر وغير المستعد له (كما ورد في شرح مجمع اللغة لكلام حسّان بن ثابت)، وقد اعتبر الكثيرون أنّ ابن حسّان قد قال شعرًا غير موزون، ولكن النقاد أشاروا لاحقًا إلى أنّ الجمالية فيه لم تكن مقصودةً لمصطلح الشعرية بقدر قصد الجمالية الفنيّة في استخدام الصورة التعبيرية.
كما أورد الجرجاني أيضًا في كتابه “دلائل الإعجاز” واقعة الأعرابي الذي سُئلَ “لمَ تُحبّ حبيبتك؟” فأجاب: “لأنني أرى القمر على جدران بيتها أحلى منه على جدران الناس”، وبذلك يكون الجرجاني قد استخلص أنّ الشعرية الحقّة لا تتوقّف عند حدود الوزن والتفاعيل بل هي تتعدّاهما الى التخيّل المعبّر عن الأحاسيس المتوهّجة والرؤيا العميقة النافذة.
وإذا كان الجاهليون والمخضرمون وآخرون غيرهم من العصور اللاحقة قد اعتبروا أن الأخلاقيّة والصدق هما مقياسا الشعر حيث يقول حسّان بن ثابت:
“وإنّ أشعر بيتٍ أنت قائلهُ
بيتُ يُقال إذا أنشدتَهُ صدقا”
فإنّ “ابن أبي عتيق” يمتدح شعر “عمر بن أبي ربيعة” لقوّة تأثيره في النفوس ولقدرته على التعبير عن دخيلة النفس البشرية بغضّ النظر عن الاتجاه الإباحي في شعره فنسمعه يقول: “ما عُصيَ الله جلّ وعزّ بشعر أكثر مما عصي بشعر ابن أبي ربيعة فخذ عنّي ما أصف لك: أشعر قريش من رقّ معناه، ولَطفَ مدخله، وسهلَ مخرجه.. وأعرب عن حاجته (الأغاني: أبو الفرح الأصفهاني).
وإذا كانت الشعرية تقف مطوّلًا عند الشكل، فيجدر بنا هنا أن نلتفت إلى ما أورده “أبو عثمان الجاحظ” في كتابه المعروف “البيان والتبيين” عن قضية اللفظ والمعنى حيث يقول: “وأحسن الكلام ما كان قليله يُغنيك عن كثيره ومعناه في ظاهر لفظه… فإذا كان المعنى شريفًا واللفظ بليغًا…صنع في القلوب صنيع الغيث في التربة الكريمة”.
ومما يدخل في نطاق الشعرية نوع من الكتابة ازدهر في العصر العباسي وينتمي إلى فنّ الرسائل القصيرة أطلقوا عليها اسم التوقيعات، وهو من الفنون التي كان لها أثر بليغ في ذلك الوقت تظهر قدرة الكاتب على الاختزال والإيجاز والبلاغة في إيصال الفكرة بأقل كلمات ممكنة وبتركيب رنّانٍ ولافت، وإن كان يغلب فيها السجع والتلاعب بالكلمات والألفاظ إلا أن وقعها كان شديدًا وبعضها توارثته وحفظته الأجيال، وقد تطوّرت فيما بعد في العصر الحديث لتنشر تحت عنوان “قصيدة التوقيعة” ومما لفت فيها ما ذكره الكاتب مازن عبدالله في مقالته “شعرية التوقيعة من طه حسين إلى عزالدين المناصرة” حين استشهد بهذه المقولة: “قد كثر شاكوك وقلّ شاكروك فإما اعتدلت وإما اعتزلت”.
والملاحظ أن قوله “فإما اعتدلت وإما اعتزلت” هو تكرار لتفعيلة “فعولن” أربع مرّات، ومن التوقيعات المشهورة توقيع المأمون أيضًا على رسائل وردته من أحد القضاة “أيها القاضي بِقُم، قد عزلناك فقم” ومن الواضح أنها تكرار لتفعيلتين “فاعلاتن فاعلن”.
وقد تطوّرت شعرية التوقيعة لتصل إلى ذروتها في العصر الحديث مع عزّ الدين مناصرة ومحمود درويش ونزار قبّاني وآخرين. وقد عرّف المناصرة “قصيدة التوقيعة” بأنها “قصيدة قصيرة جدًّا… تتضمّن مفارقة مدهشة ولها ختام مفتوح”.
ولعلّ هذا النوع هو الذي يعرف حاليًّا بشعر الومضة أو قصيدة الومضة، أو شعر الهايكو، أو قصيدة “القصة القصيرة” التي بات الشعراء المحدثون يروّجون لها مؤخرًا في فرنسا وأميركا.
للشاعر نزار قبّاني نظرة مختلفة حول الشعرية والحداثة، وحول أصل الكتابة ككلّ، فهو يعتبرها انقلابًا بل يشترط على الأديب الذي يؤمن بالتجديد أن يؤمن كذلك بالعمل الانقلابي:
“الكتابة الجديدة هي التي تتخذ من البحر نموذجًا لها! فالبحر هو النموذج الانقلابي الأمثل، حيث الماء يثور على وضعه في كل لحظة.. ويناقض نفسه
في كل لحظة.. ويفقد ذاكرته في كل لحظة…”.
وقد تضاربت سمات الشعرية مع بعض سمات الحداثة في كثيرٍ من النقاط، فكان الشعراء يتمايزون من خلال نصوصهم التي خرجت عن المألوف في ذلك الوقت كما كان يفعل كلٌّ من بشار بن برد “إمام المحدثين” وأبو نواس الذي استقلّ بباب الخمريات وأبو تمام عندما سئل : “لماذا تقول ما لا يُفهم” فأجاب: “لماذا لا تفهمون ما يُقال” وغيرهم ممن قام بحركة تجديد وممن اعتبروا “الشعبويّين” فغيّروا في شكل القصيدة العربية ونظروا إلى مفهوم الشعرية نظرة مختلفة تقترب أكثر من ذاتيّة الشاعر وأناه وتوجّسه، ومدى قدرته على التعبير عن ذاته وتخبّطاته وأفكاره. ومن هنا بدأت المفاهيم والأيديولوجيّات تتغيّر وتغزو القصيدة العربيّة لتصنع لمحة تجديديّة عند الشاعر العربيّ ولتضيف رؤية مغايرة عن النمط السائد من قبل.
ولطالما كان هناك صراع حول الشعر والشعرية والشاعرية والحداثة والجديد والقديم، وهو الذي أبقى نار الشعر متّقدة ومتوهّجة يحاول الجميع الاقتراب منها بُغية الاستنارة والاستمتاع بوهجها.. للشعر بريقٌ لا تخطئه عين، وسطوةٌ لا تشبه إلا نفسها.. للشعر مملكةٌ تلامس الروح وحدها، وأثرها يدوم إلى ما بعد المجاز.
https://www.facebook.com/groups/441831720084560/user/100000021172027/