قراءة في رواية شوق مزمن لأنور الخطيب بقلم د. سهام أبو العمرين

قراءة في رواية شوق مزمن لأنور الخطيب بقلم د. سهام أبو العمرين

قراءة في رواية شوق مزمن لأنور الخطيب

بقلم: د. سهام أبو العمرين

   

نلتقي اليوم لنتحدث عن رواية “شوق مزمن” للروائي والشاعر “أنور الخطيب” الذي استطاع أن يؤسس خطابًا إبداعيًّا ذا خصوصية من خلال طرحه لقضايا تخص الذات الباحثة عن المعنى في عالم خرب. كاتب مهموم بقضايا الوطن والإنسان، مؤرق بأسئلة الهوية والوجود، مازال يعتنق الحلم ولم يتخل عن الأمل رغم تكالب الهزائم على جسد الوطن بفعل المتآمرين.
الوطن الذي يكتبه ويريده أنور الخطيب ليس مجرد “الوطن الفكرة” بل الكيان الواقع، هو “صباحات خبز في باحة الدار غير مغمسة بالمؤقت” كما يقول. والشعور بالمؤقت هو شعور يصاحب المنفي/ المبعد/ اللاجئ هذا الشعور الذي كثفه أنور الخطيب ليخرج لنا برواية “شوق مزمن” ذات البناء الهندسي المحكم والدلالة العميقة.
الرواية ُكجنس أدبي “عملية بحثٍ مستمر ” بحثٍ عن الهوية لتأصيلها، وعن المعرفة التي أضحت ضبابية غير يقينية، وعن الذات التي بدت منقسمة تائهة في عالم تتبدل قيمه وأعرافه، لتصبح الكتابة الروائية فعلا وجوديًّا يثير الأسئلة المعرفية وخطابًا منفتحًا تتعرى فيه الذاتُ الساردة وتتكشف، معبرة عن طموحاتها وأحلامها، ناثرةً هواجسها وفواجعها.
لم ينفصم الأدب ولا سيما الفلسطيني في أي وقت من الأوقات عن قضية الإنسان، فهما أمران متلازمان، فعلى مدار سنوات الصراع والمواجهة مع العدو الصهيوني كان الأدباء أكثر وعيًّا بمجريات الأمور منذ الفجيعة الأولى/ النكبة عام 1948التي طالت الذات الفلسطينية وشردت أبناءها ثم النكبة الثانية 1967 وبداية فصول تراجيديا الهزيمة العربية وإسدال الستار عن حلم الذات المنتصرة، إلا أن الأدباء غذوا الفكر العربي بوقود المقاومة، إذ أسهمت أعمالهم الأدبية شعرًا ونثرًا في النهوض بالدور البطولي المقاوم في الوطن وفي منافي اللجوء، فقدموا نقدًا لاذعا للواقع الذي أعادوا تشريحه رمزيًّا، إذا تمسك الأدباء بحلمهم بالعودة وتحرير الوطن برهانهم على المقاومة المسلحة إلى أن مجريات الأحداث كادت أن تقتلع أحلامهم إذ صدموا بخروج الثورة الفلسطينية من لبنان إلى أن ولد الحلم من جديد بالانتفاضة الأولى، ليتلاشى الحلم بعد عقد اتفاقية أوسلو لينقسم الأدباء بين مؤيد ومعارض لتجد الذات الفلسطينية نفسها تائهة وقد فقدت البوصلة بعدما ضلت الطريق نحو الوطن لاسيما بعد خيانة الأنظمة العربية والصراع الفلسطيني الفلسطيني.
تشابكت الخيوط وحادت الذات الفلسطينية عن الطريق ليعود السؤال طازجًا وملحًا بعد سلسلة من الهزائم كيف السبيل للوطن لهؤلاء اللاجئين الذين ضاقت بهم المنافي، يطرح “أنور الخطيب” روائيًّا هذا السؤال بتأكيده على حق العودة وحفظ الإرث والهوية الفلسطينية رغم تعاقب الهزائم، فإذا فرط السياسيون بالأوطان وتنازلوا عن حقوق المشتتين في بقاع العالم، فإن الروائي لازال يتلمس الحلم بالعودة لوطن حر خذله المتآمرون.
رواية “شوق مزمن” هي التجربة الروائية الرابعة عشر للروائي “أنور الخطيب”
يتكون النص الروائي من عشرين فصلا ، تقدم الفصول بشكل اللوحات المشهدية المستقلة بنائيًّا، ولا تعتمد على مبدأ الصيروة الزمنية بل تنثال الأحداث عبر وعي الشخصيات التي تجوب الزمان وتراوح المكان، وقد نسج السرد الروائي عبر تفعيل تقنية تعدد الأصوات وبالتالي المنظورات بتعدد الرواة، كانت السيادة لصوت “صابر عبد النبي” الشاعر الحكيم والذي يعد “أنا” لشخصية السارد الثاني “صلاح” الذي تدور حوله أحداث الرواية المركزية، ثم ينسج السرد بتتابع الأصوات/ الرواة الذين يدور حديثهم عن “صلاح”، ليكون صلاح مفعول الحكي وفاعله في الآن ذاته، هذه الأصوات هي: ” نجاة”، “الملازم أول عبد الله”، “سلمى”، و”فوزي”، و”أميرة”، و”العقيد زهرة”. وجميعهم تربطهم علاقة بصلاح في حاضر السرد وماضيه.
تأتي خصوصية رواية “شوق مزمن” للروائي والشاعر أنور الخطيب من الزاوية التي جسد بها المؤلف مأساة الفلسطيني المفجوع بتغريبته، حيث الذات الفلسطينية التي وجدت نفسها في مواجهة العالم غريبة في المنفى، فقد ألقى الروائي رمزيًّا أضواء كاشفة على الواقع المرير للفلسطيني في مخيمات اللجوء، بتفكيكه وتشريحه لواقعه وإعادة بنائه نصيًّا بلغة تقطر شاعرية وبرمزية شفيفة، غاص في الذاكرة الجمعية وكتب وطنه المخذول عبر كتابة حكاية السارد/ صلاح منذ أن تفتق وعيه المبكر بالانضمام لصفوف المقاومة الفلسطينية بصور، وسرد حكاية تعلقه الرمزي بأمه “أم الفؤاد” التي اختزلت معنى الوطن و التي توفيت بمرض “الشوق المزمن”, وقد تجاوز الروائي أسلوب السرد التقليدي وقدم بنية روائية تعتمد على تعدد الأصوات والمونولوج والاسترجاع ببعديه: القريب والبعيد، وتفعيل تقنية ضمير المخاطب التي وظفها الكاتب دلاليًّا ليستحضر عبرها الغياب في رغبة أكيدة لا لاستبقاء الذكرى لكن لتأكيد استمرار الماضي في قلب الحاضر والتأكيد على الهوية الباقية..
ثم تحدثت د. سهام عن العتبات النصية في النص، وقالت:
العتبات النصية هي أول ما يواجهه المتلقي، وهي دوال لها أهمية كبيرة بما تنسجه من خيوط تناصية مع دلالة المتن النصي، تكشف عن جماليات النص ومفاتنه، وهي علامات تغذي المتلقي ببعض المعاني التي تصاحبه مبدئيًّا قبل الشروع بالقراءة من هذه االعتبات: الغلاف، وعنوان الرواية، والإهداء، والعناوين الفرعية، والحواشي الجانبية والسفلية. والوقوف سيميائيًّا على هذه الدوال يسهم بشكل كبير في فض مغاليق النص بما تؤسسه من معان لها علاقة ببنية النص العميقة.
أولا -لوحة الغلاف:
علامة أيقونية تحمل رسالة بصرية، فالألوان وما تتضمنه اللوحة من خطوط ترسم ملامح وهوية النص، وتثير الأسئلة في ذهن المتلقي التي تصاحبه وهو يقرأ النص، ولوحة غلاف الرواية للفنان البريطاني “جورج فريدرك واتس”
ونرى في اللوحة امرأة معصوبة العينين و حافية القدمين وهي تجلس في وضع انحناء فوق مجسم للكرة الأرضية بينما راحت تعزف على آخر وتر تبقى في قيثارة مكسورة, تعبر عن تمسك الإنسان بالأمل ورفضه الاستسلام لليأس، فالمرأة مستمرة في العزف رغم أنه لم يتبق سوى وتر وحيد في قيثارتها.
إذا المعنى الأوليّ الذي يتحصل على المتلقي هو “الأمل” وهو المعنى ذاته الذي يؤسسه السرد، فأحداث الرواية التي تستعرض حياة “صلاح” في المنافي تنتهي بتأكيد حق العودة للفلسطيني لوطنه، وهي التيمة الرئيسية التي دارت حولها أحداث الرواية، يقدمها الروائي بشكل فانتازي عندما يلجأ لمقبرة والدته التي توفيت في المنفى يستحضرها بضمير المخاطب، في طقس رمزي لاستبقاء الذكرى واستنهاضها وسكان المقبرة الأموات من اللاجئين يدعوهم للعودة الرمزية للديار، فأضحت المقبرة عتبة لحياة جديدة.
وفي الغلاف تم تحديد الجنس الأدبي وهو كلمة “رواية” أسفل الغلاف من اليسار، وهذا ميثاق سردي قد أبرمه الكاتب مع المتلقي يؤكد من خلاله على أن أحداث العمل والشخصيات من صنع خيال الكاتب، وهذا ما أشار إليه الراوي منذ نسج السطر الأول من الفصل الأول المصاغ بصوت صابر: ” وجدتُ هذه الرواية على قبر أم الفؤاد…”.
على الرغم أن الإهداء قد يوحي للمتلقي، بعد أن يكون قد انتهى من النص، أن هناك خيوطًا سير ذاتية بين حيوات شخصيات الرواية والشخوص الذين أهدى لهم الكاتب نص روايته:
ثانيًّا- الإهداء:
جاء على الشكل التالي:
الإهداء
إلى: أرواح شخوص الرواية
أمي حاجّة وأبي محمد وأخي عاطف…
ولي…
والإهداء يكتبه المؤلف لا السارد وبالتالي نص الإهداء يقود المتلقي للربط بين الأسماء الواردة بالإهداء وأسماء شخصيات الرواية الرئيسين:
أمي حاجة – أم الفؤاد
أبي محمد – أبو القاسم
أخي عاطف – الفؤاد
لي (المؤلف)- صلاح/ صابر (ولعل صفة كون صلاح كاتبًا وصحافيًّا، وكون صابر / أنا صلاح وضميره شاعرًا يغري المتلقي بعقد هذه الصلة).
وهذا ما يجعل النص الروائي/ الخيالي يتعالق بعالم الواقع بأكثر من زاوية، ولعل أوضحها هو اشتراك الروائي والراوي في صفة كونهما منفيين عانا اللجوء ويحلمان بالعودة، فضلا عن الاعتراف المبطن في نص الإهداء بقوله “إلى أرواح شخوص الرواية”، ليصبح النص الروائي “شوق مزمن” نص مفتوح على الواقع يستدعيه ويجتره من جديد بثوب روائي محكم، لتكون الرواية وكما قدمها الروائي هي رواية كل منفي ذاق الإبعاد وعومل على كونه غريبًا.
ثالثًا – العنوان
عتبة النص الأولية ومفتاح دلالي لا يمكن تجاوزه، قد يقود للدلالة التي يؤسسها النص وقد يكون مضللا .
وتلغيز العنوان وتفخيخه دلاليّا يغري المتلقي بالقراءة، وخاصة إذا ما اعتمد على تركيب غير مألوف أو متجانس كهذا العنوان المكون من دالين، وإسناد الشوق لصفة “مزمن” يثير تساؤل المتلقي مبدئيًّا، كيف يكون الشوق مزمنًا؟ لا سيما أن دال “مزمن” غالبًا ما يرد مع دال “المرض” فيتلازمان “مرض مزمن”، جاء في المعاجم العربية حول دال “مزمن:
مُزمِن: (اسم) فاعل مِنْ أَزْمَنَ
“أزمن الشيء: مضى عليه الزمان فهو مزمن””وأَزْمَنَ بالمكان: أَقام به زَماناً، وأَزْمَنَ الشيءُ: طال عليه الزَّمان. يقال مرض مزمن، وعلة مزمنة.
أما الشَّوقُ: هو نزوعُ النَّفْس إِلى الشيء، أو تَعَلُّقها به.
وقد تردد العنوان بتركيبه كما ورد على الغلاف أكثر من مرة في المتن النصي، وأطل منذ السطور الأولى للنص الروائي في سياق اعتباره مرضًا أدى لوفاة “أم الفؤاد”، يقول السارد “صابر”:
“وجدت هذه الرواية على قبر أم الفؤاد، واسمها الحقيقي المنقوش بالخط الكوفي على شاهد القبر مريم بنت عبد المالك، وتحته ذُكر تاريخ ميلادها ووفاتها؛ 1925-2008، توفيت بمرض الشوق المزمن”.
الشوق الذي لازم “أم الفؤاد” وشخصيات الرواية بالعودة للديار لكنها ماتت بالمنفى، وشوقها كان شاهدا على فجيعة الفلسطيني الذي قضى نحبه وهو في حالة من الانتظار، يقول السارد مستحضرًا إياها في الخطاب عبر تفعيل تقنية ضمير المخاطب:
“الغرابة في أسباب الرحيل يا أمي، هناك أمراض لم أسمع بها من قبل، أو لم أكن أعلم أنها أمراض مثل: داء اللجوء، سرطان الغربة، فيروس النكبة، التهاب الخيانة العربية، متلازمة مجلس الأمن الدولي، سفلس الأخبار، إيدز المؤتمرات، ذبحة التصريحات، السكتة الشجبية، الشوق المزمن”.
اختزلت رواية “شوق مزمن” زمنًا واسعًا للفجيعة الفلسطينية المتوالية من خلال قصة حياة ” صلاح” الذي تمظهر في السرد باعتباره راويًا ومرويًّا، فهو فاعل الحكي ومفعوله لتعدد الأصوات التي تستدعي حياته كمادة للسرد، بدأ زمن الخطاب منذ مجيء رجل في الستين من عمره وهو “صلاح” لمقبرة تضم مجموعة من الأموات الذين عاشوا حياة النفي واللجوء. ليضع روايته فوق قبر أمه “أم الفؤاد” ثم بعد ذلك يبدأ في استنهاض هؤلاء في طقس فانتازي رمزي يحثهم على عودة أرواحهم لبيوتهم وحواكيرهم، في تأكيد على استمرار وجودهم الذي بات مهددًا من قبل مجموعة تريد هدم المقبرة لما شاهدوه من طقوس غريبة يفعلها أهل الأموات حيث حواراتهم معهم، يقول صلاح:
“أيها الأحبة والأقارب والأصدقاء والجيران والمعارف الأوفياء، أيها المواطنون الكرام، أما وقد استجبتم لدعوتي المفاجأة وغير الرسمية، فإنني أنحني أمامكم جميعا محييا صبركم الطويل على منفاكم الاختياري، مقدّرا لكم انسجامكم وتفاهمكم ووحدتكم وتعاطفكم مع بعضكم بعضا، ومحبتكم التي تتبادلونها مع كل شروق شمس وغروب قمر، وتناسيكم للصراعات والانقسامات مقسمين على التشبث بهويتكم الواحدة، وأشكركم على رعايتكم لأم الفؤاد في حضورنا وغيابنا. أنتم تعلمون أن الأرض التي تقيمون فيها ليست أرضكم، وإن حمل بعضكم القليل جنسية هذه البلاد، وهذه البيوت ليست بيوتكم، والأشجار التي تظللكم ليست لكم، باختصار، لا شيء لكم في هذه الجغرافيا المضيافة، ولهذا سيتم نقلكم جميعا إلى بيوتكم التي عشتم فيها، وسيأتي وقت من الدهر يظن زائر هذا المكان أنه لا يزال يضمكم، سنتركه لظنه الذي يجلب له القليل من الاستراحة من شوقه المزمن لكم، لكنه سرعان ما سيكتشف أنكم لستم هنا، بل إنكم الآن لستم هنا وإن حضرتم سريعا، بل إن حضوركم السريع يؤكد غيابكم عن هذا المكان وسكناكم في أوردة الروح، في تجليات قلبي وقلوب أحبائكم، أنتم موزعون في القلوب، ولهذا، ستحتفظون بنضارتكم أبد الدهر، وحين تحين ساعة الرحيل إلى موطنكم الأصلي ستقومون قيامة رجل واحد، تمتشقون لجوءكم، تحملون بقجكم وتمشون مع الهواء الجنوبي المتجه شمالا، هناك ستنامون بهدوء، وستتداخلون بالتراب والجذور وتسيرون في جذوع الزيتون، وتحلقون مع العصافير التي ستضحك كأطفال في شهورهم الأولى. والآن اقتربوا من هامتي واسكنوا عيني وذراعي وكفيّ لنثبت هذه المخطوطة على بيت أمكم أم الفؤاد، قد يلعب بأوراقها الريح، قد يبللها المطر، لكنها ستبقى تقلب أوراقها من البداية حتى النهاية ثم تعود من الصفحة الأخيرة حتى الأولى، سأتركها في رعايتكم وأمضي، وقد أعود فأقيم معكم إلى أن يُقرعَ جرسُ الله، فمدوا أياديكم لنهدي أم الفؤاد كتابها، فهو هدية الغائب إلى الغائبة، والحديث المؤجل حتى اللحظة”.
بضمير المخاطب الجمع يستحضر “صلاح” أرواح الغائبين الذي يشترك معهم في صفة الغياب “هدية الغائب (ويقصد نفسه للغائبة ويقصد أمه)، فالنفي عن الوطن هو الغياب، أما العودة فهي الحضور الذي يجاوز حدود الزمان والمكان، إنها عودة رمزية تؤكد على التشبث بالهوية وعدم النسيان، لتصبح المخطوطة/ الرواية/ الهدية هي أيقونة الاستمرار والبقاء والصمود بتأكيد حق العودة.
وينتهي زمن الخطاب في المكان ذاته وحديث “صلاح” مع أناه “صابر عبد النبي”؛ صلاح الذي اختبر حياة اللجوء وكان شاهدًا على الواقع المهترئ بفعل الهزائم المتلاحقة، وصابر “أناه” الشاعرة وصوته الداخلي الذي يستحثه على مواصلة المسير، وكما لو أن الروائي يؤكد على فكرة أن الشعر والإبداع هو الذي يخفف من مرارة الواقع لذلك ارتبط اسم صابر بدلالة صبره على الحياة و”عبد النبي” لكون الشاعر نبي الكلمات التي تجعله موجودًا وتؤكد على حضوره الفاعل: “أنا أكتب إذن أنا موجود”، ولهذا كانت شخصية صابر هو المحفز لصلاح والذي يراجعه ويعطيه أملا في الحياة.
أما زمن الحكاية فهو ممتد يغطي حياة صلاح منذ أن تفتق وعيه المبكر بالثورة لينضم هو وصديقه “مصطفى” في سن الخامسة عشر من عمرهما لصفوف المقاومة.
ثم تحدثت د. سهام أبو العمرين عن الموت والفقد بالرواية ودلالته ومستوياته، ودلالة “المقبرة” كمكان افتتحت به الرواية، وتحدثت عن دلالة المنفى وبعض التقنيات التي وظفها الكاتب مثل تقنية تراوح الضمائر “أنا- نحن”، ودلالة ضمير المخاطب، وتوقفت عند صورة اللاجئ في رواية شوق مزمن وأنها تجاوزت الصورة التقليدية للاجئ المهزوم لكن الروائي قدم لنا صوة اللاجئ المثقف الواعي المتمرد الثائر، والذي لم يقبل بأن يعامل معاملة دونية أو أن يكون مستغلا لجهة ما.
وأكدت أن تجربة المنفى للفلسطيني قد خلفت جرحًا غائرًا في الوعي والكينونة، وأحدثت تشظيًّا في الهويّة، فقد كانت النكبة هي الصدمة التي أحدثت شروخًا عميقة للذات الفلسطينية التي أضحت مشظاه ببن الانتماء إلى الـ (هنا/ المنفى) والـ (هناك/ الوطن الضائع) لقد وجد الفلسطيني ذاته في مأزق وجودي وتحول المنفى بتوالي الزمن ومروره وتوالي الهزائم إلى ظاهرة مرضية؛ تحول من حالة الوجود “المؤقت” إلى أن يترسخ ليكون في حالة الوجود “الدائم”، لتتشظى الهوية إلى هويات بعد تسرب الأمل في العودة.
لتصبح تجربة المنفى تجربةً إشكالية تقذف الذات إلى أتون الأسئلة حول المصير والهوية التي أضحت مشرذمة، لتسفر الغربة عن اغترابٍ مركب بالتحول من فضاء المعلوم للمجهول، من الحضور للغياب، لتعلق الذات في شرك الانتظار. ولا شيء يبقى سوى الذاكرة!
وأوضحت أن الكاتب وفق في تقديم صورة اللاجئ الذي عاش الغربة والاغتراب من خلال شخصية “صلاح” الذي جسد حالة تداخل الهويات وتشظيها من خلال حواره مع “أناه” صابر عبد النبي، والذي عكس الكاتب من خلاله قضية تعدد الهويات.
هي رواية ثرية تستحق الوقوف عندها نقديا لما تعرضه من مضمون صيغ في قالب محكم البناء والأسلوب.

بعد أن أتمت الدكتورة سهام عرض ورقتها فتح الباب لحوارات الجمهور فكانت أولى المداخلات للروائي محمد نصار، وقد استهل حديثه بتقديم الشكر الجزيل لصالون نون الأدبي لهذه الجلسة القيمة، وشكر آخر للدكتورة سهام على هذا الطرح
وقال: أنا قرأت الرواية، لكن حبذا لو أعطت الدكتورة إطلالة سريعة عن الرواية لمن لم يقرأها
ثم قال: كل الكتاب تناولوا اللجوء، لكن ما لفت نظري في رواية أنور هو اللاجئ المتمرد الرافض للظلم، فنجده في لقاء مع الضابط عبد الله يتحدث بغضب وانفعال
حتى الموت لم يكن موتا طبيعيا، إنما هو سلاح القتل، فالموت لديه مرفوض لأنه مون بسبب أفعال الآخرين
ونجده يسقط ما يريد قوله على لسان السائق الهندي، فيقول: عندما يركب معي أشخاص لفرح أكون سعيدا، وعندما يركب معي أشخاص لعزاء، أكتئب وأعود للبيت وأنام حتى اليوم التالي
وعن استخدام تقنية الحديث بضمير الأنا فيقول: هذه التقنية هي الأكثر قربا من القارئ

الروائية يسرا الخطيب قالت: قرأت الرواية مرتين، في القراءة الأولى وجدت تقاطعات كثيرة مما اضطرني لقراءتها مرة ثانية
تعامل الكاتب مع الموت الملحمي بشكل كبير جدا
لكن استوقفني أنه يمثل الفلسطيني بشخصية صلاح؛ ففقده للأم جعله في حالة بحث دائم، النساء عنده كثر، كما في رواية (البحث عن وليد مسعود) لجبرا إبراهيم جبرا، فهل هو إنسان غير ملتزم، أم أن فقد الأم يجعله يبحث عنها في تعدد النساء

الأستاذ محمود الغفري: قال لم أقرأ الرواية، لذا كنت لأتمنى على الدكتورة أن تحدثنا عن مضمون الرواية أكثر من الحديث عن التقنيات التي وظفها الكاتب في الرواية

السيد أبو حسام كلاب قال: علماء النفس وعلماء الاجتماع الإسرائيليين ينبهروا بشكل كبير من موقف الفلسطيني، فمهما اغتنى، وللمال والذهب اقتنى فإنه يعود للموت في الوطن
الفلسطيني يحافظ على إنسانيته، لأن من يفقد إنسانيته، فإنه يفقد كل شيء
وقال إن الرسول الكريم قال: (طوبى للغرباء) ونحن في الوطن غرباء
اختتم أبو حسام حديثه بقوله لابد من استحداث مصطلحات تتناسب مع الحال القائم

الأستاذ رضوان عاشور قال: تحدث الكثيرون عن الموت، ويحضرني في هذا المقام موقف عشته أنا في العام 1969، كنت في معسكر تدريب، جاء للمعسكر شخصين؛ أحدهما يلبس أفخم الثياب، كانت أزرار قميصه من الذهب، وشخص آخر بسيط وثيابه متواضعة، طلب منهم القائد أن يلقوا بأنفسهم في الماء المختلط بالتراب، الفقير رفض أن يلقي نفسه، بينما الغني ألقى بنفسه، وبعد أشهر رأيت صورته شهيدا، وهو من أثرياء الفلسطينيين في العراق

الكاتب شفيق التلولي: قال: أنا لم أقرأ الرواية، لكن من خلال ما سمعته أرى أن هذه الرواية تحاكي الواقع الفلسطيني، ونحن لا نحاكم الروائي على ما يمتلك من إحساس
ثم قال: هل يعيب النص أن يكون مفتوحا حتى لو لم يسمه رواية؟
الرواية تمتلك لغة شاعرية هامة استطاعت أن تجملها، وهي إحدى مواصفات الرواية الجميلة
في الرواية قيمة فنية مهمة وهي فكرة الإبعاد، كما أنها جاءت بتقنيات جديدة تدل على أن الكاتب متمكن
يبقى القول إن كل عمل له ما له وعليه ما عليه، والعمل الجيد هو الذي يحتمل أكثر من قراءة، قد تكون مفاتيح اللغة ومخرجاتها واحدة، لكنها ليست تكرارا
أخيرا أقول: إن الرواية تزخ بالدوال الهامة التي تحتاج لقراءة أخرى نقدية للنبش في المفردات
اختتم بتقديم الشكر لصالون نون على هذه الجلسة القيمة، وللدكتورة سهام لما قدمته من قراءة ناضجة

الأديب عبد الرحمن شحادة قال: تربطني بأنور صداقة قديمة، وأنا أعرفه وهو في زمن الطفولة، وأعرف أخاه الشهيد
أنور رغم أن دارس للغة الإنجليزية إلا أنه متمكن من اللغة وقد التحق كمدقق لصحيفة في دولة الامارات
بدأ كتاباته في العام 85م بالومضات ثم الشعر ثم النقد
وقال: كان يتمنى أن يزور فلسطين وحاولت التنسيق له أكثر من مرة إلا أنني لم أوفق في ذلك
اختتم حديثه بتوصية للجامعات التي تهتم بالكتاب والأدباء من الخارج ويهملون كتابنا الفلسطينيين، لابد أن يقرروا عمله في الجامعات

الأستاذ عبد الكريم عليان قال في مداخلته: جميل أن يكون لدينا جلسات من هذا النوع، وجميل أن بدأت الدكتورة حديثها عن الأصوات المتعددة بالرواية، لكن حبذا لو ركزت لنا على موضوع الرواية خاصة أنني لم أقرأها.

الأديب والروائي غريب عسقلاني كانت له مداخلة بدأها بالرد على بعض التعقيبات السابقة وقال فيها: علينا أن نفرق بين الدراسة الأكاديمية المحكمة التي تتبع منهجا محددا، فهذه لا تصلح للجلسات الأدبية
وإن كنت أوصي بأن يكون تعريف بالكاتب والكتاب والمنهج المتبع في القراءة
التعريف بالمدرسة الفكرية المتبعة لأن النص حمالا لأوجه: فهل هو قراءة نقدية أم سيميائية، أو هي قراءة وجدانية أو واقعية، فيُعالج بحسب المنهج النقدي
من وجهة نظري هناك اختلاف وآراء في متى يلجأ الكاتب لتعدد الأصوات، أرى أنه في حالتين:
– أن يتقاطع حدثين فينحاز لأحدهما، والشخصية الثانية يسرد الآخر، فيصبح تأويلين أو مقترحين
– تعدد الروايات على حدث واحد
ولو تساءلنا: لماذا الموت في الحالة الفلسطينية؟ ولماذا أصبح دلالة؟
قد يكون الموت استنساخ للتفاؤل الآتي، وقد يكون هو إبداعات لميلاد جديد وتوديع الماضي إلى الحاضر، فعلينا ألا نتوقف عند رؤية واحدة للموت
الخطيب يتحدث عن تيمة الموت بدءا من الأم (الوطن) والأم لا تموت لأنها أنجبته

الباحث محمد قال: قدمت لنا الدكتورة سهام قراءة نقدية زاوجت ما بين الأكاديمية والانطباعية، وعلينا أن نعي ما قالته الدكتورة ما دمنا كتاب.
أما عن العنوان فقال: (شوق مزمن) تضادين أخذنا بها لعوالم أخرى
وأضاف: أنا أرى أن الكشف يفقد النص لذته.
ولو تساءلنا: هل يكون الموت حياة؟
نعم الموت حياة بدليل أننا نهتف (باب الأقصى من حديد، لا يفتح إلا بدم الشهيد)
لقد انتقى الخطيب الألفاظ كصياد ماهر استطاع أن يعبر عن الحالة بدقة

بعد أن أنهى الحضور مداخلاتهم أجملت الدكتورة سهام ردها على ما سمعته فقالت:
معظم ما استمعت له يدور حول تيمة الموت، وأنور قارن بين اللجوء والموت
الموت لا يعني اليأس، كل الأفكار المنبثقة من الرواية هي سلسلة من الفقد، فيعبر عن حالة من الموات السياسي، فهو يريد أن يتخلص من هذه الحالة الفلسطينية المشرذمة، حاول أن يعود لكنها عودة رمزية/ فخاطبه هؤلاء الأموات الذين لهم ذاكرة ضاربة في الجذور، يحاول أن يبعث هؤلاء الأموات كطائر الفينيق الذي يعود من رماده ليحلق من جديد

أراد الخطيب أن يقول: إذا لم تعد للوطن، فلابد أن تعود رمزيا على الأقل
السؤال الأساسي هو سؤال الرواية، وليس سؤال الناس
ولم يكن الحديث كله سوداوية، فالغلاف يوحي بالأمل
وأضافت لا نستطيع أن نقول إن الرواية عمل خيالي تماما، فالإهداء يكتبه الكاتب وليس الراوي (أهدي الرواية لأرواح شخوص الرواية) وهذا يدل على أنها لأشخاص حقيقيون
هذا اعتراف ضمني من الكاتب يوحي للقارئ بأن هذه ليست رواية خيالية تماما، حتى وإن اعتمدت على البناء الخيالي، إلا أنها حياة كل لاجئ

أنا قمت في طواف على النص ولم أغوص فيه؛ حاولت أن أقرب النقد لذائقة العامة، ولو تحدثنا بمصطلحات نقدية نتهم بأننا نستخدم لغة مغرقة في الغموض، نحن نقربها ويبقى على المتلقي أن يقرأ النص

ثم قالت: اعتمد الخطيب على تسعة أصوات، كل راوي يحكي الحكاية من رؤيته الخاصة، لذا فهو لم يحتكر الرواية، واستخدم تقنية تعدد الأصوات ليحكي حكاية اللجوء
وقالت: هذه الرواية فيها أكثر من صوت نسوي، بدءا من جوسفين التي التقاها بالطائرة، لأميرة وياسمين وسلمى، هذه العناصر النسائية موجودة لأنه يبحث عن أمه في هذه المرأة
ثم إنه لاجئ أي أنه يعيش حياة مؤقتة، فهو غير مستقر لذا ينتقل من امرأة لأخرى
هو يعاني غربة واغتراب وجوديا في علاقته بالذات، فاغترابه عن الوطن عمّق اغترابه عن ذاته
بنية الرواية بدأت من المشهد الأخير (وصول رجل ستيني، يأتي للمقبرة ليحتفل بيوم ميلاده، ويدعو الأموات للاحتفال معه)
كان توظيفا جيدا لضمير المخاطب، خاطب أنه، وخاطب الأموات لأنه يريد الحفاظ على الذاكرة كي يخرج من حالة الموات

أما تقنية تعدد الأصوات فهو عندما يكرر (أنا) (نحن) وهذا ما أثار معلم اللغة العربية عندما تعرض لموقف في المدرسة؛ إذ طلب ألا يذكر اسمه لأنه لم يسدد الرسوم بسبب فقره، إلا أن المدير نسي وذكر اسمه، فأصابته حالة من الغضب، قال: نحن لسنا فقراء
فقال له: من أنتم؟
المنفيين كانوا كالأجسام الغريبة في الدول العربية
يقول رفضت أن أعيش حالة الاغتراب في أمريكا لأنني لن أستطيع أن أغضب بلغتهم، فاللغة هي الهوية، لكن سرعان ما اكتشف أنه في البلد العربي منبوذا كما لو كان في بلد غير عربي
لقد شظى نفسه إلى شخصيتين: صابر الذي يقوده بحكمة، وصلاح المندفع الذي لا يحب أن يعامل كلاجئ
أنور راهن على شخصية اللاجئ المتمرد، الثائر والمشاكس، يرفض أن يُقزم اللاجئ
كما أنه عالج قضية اللجوء لكن بنظرة غير عادية، كما فعل الكثيرون، لذا قلت أنه يستحق
اختتمت ردها بالقول: الناقد لا يروج لكاتب دون المستوى، فالناقد الجيد يروج لنص جيد، فلا أحابي أو أجامل لأغامر باسمي وأهز مكانتي النقدية، لقد تعرفت على المدارس النقدية، ولي رؤية، وعندما أجلس في هذا المكان فالجميع يعرف أن النص جيد.

  • الدراسة التي قدمتها الناقدة د. سهام أبو العمري في صالون نون الأدبي في قطاع غزة في 15 أغسطس 2018 .

اترك تعليقاً