إشكالية التعايش المشترك.. بقلم: أنور الخطيب

إشكالية التعايش المشترك.. بقلم: أنور الخطيب

إشكالية التعايش المشترك

بقلم: أنور الخطيب

التعايش المشترك ليس مصطلحاً سياسياً ليتغنى به أصحاب النفوذ والمثقفون المتسامحون ورجال الدين المتفهّمون المؤمنون بالآخر وحرية المعتقد، بل فلسفة متكاملة يتداخل فيها الثقافي بالاجتماعي بالسياسي بالاقتصادي بالوجودي، وبالتالي هي منظومة فكرية مبنية على التراكم، نتيجة مناهج تربوية وتعليمية تؤدي إلى سلوك يتحول إلى ممارسة بديهية تتقاطع بالفطرية. وللوصول إليها على المجتمعات أن تمر بمخاضات كثيرة تؤدي إلى إيمان جذري بوحدانية الحل المتمثل بالتعايش المشترك.

وقد تبدو العلمانية كأحد مخرجات التعايش المشترك، خطوة رئيسة للوصول إلى السلام المجتمعي، وتحقيقها يمر بإعادة كتابة الدساتير الوطنية والمواثيق ذات الصلة بالتفاصيل الحياتية، وتطبيق صارم لقوانين واضحة وصريحة، تعاقب كل من يخالف بنودها وموادها، مع وضع المبادئ الديمقراطية في نسيج تلك القوانين والمواثيق والدساتير، بما يضمن حرية التعبير الناضج المحمول على لغة حضارية علمية راقية، وتحصين الشفافية في وجه محاولات الفساد والفاسدين، لبلورة دولة القانون.

وتُعد عملية محاربة الأمية الأبجدية والتعليمية والثقافية التي تتضمن نشر القيم الإنسانية، بمعزل عن الخطاب الديني، أولوية في سلم الخطط الرامية إلى التعايش المشترك، وبالتالي فإن تحصين المجتمع بالتعليم ورفع قيمة الثقافة والفكر والتميّز والإعلاء من شأن المجتهدين، من دون تمييز عنصري لوني وعقائدي ونوعي وجنسي، سيشكل قاعدة مهمة لخلق حوار مستدام هادئ لا تعصّب فيه ولا مصادرة من أي نوع كان.

الأنظمة الشمولية ارتكبت خطأ فادحاً في حق الشعوب حين سعت إلى تحويل المواطنين إلى نُسخ متشابهة، تؤمن بفكر واحد ومنهج واحد، فقضت على الإبداع المختلف من خلال تجييش الفنون والآداب لخدمة دكتاتورية الأنظمة، التي مارست أعتى أنواع التعسّف لكل من يعارضها ويختلف مع سياساتها، وقد اختبرت الشعوب العربية الأنظمة الشمولية، التي مارست شمولية النظام السياسي، كالنظام الملكي الذي جعل من الحاكم وسلالته آلهة، كما مارست شمولية النظام الفكري، كالنظام الاشتراكي والشيوعي والقومي، من دون استفتاءات شعبية، وفي الحالات جميعها زجّت بالمختلفين في السجون بتُهم التآمر لقلب نظام الحكم، أو الخيانة العظمة، أو تقويض السلم الاجتماعي، وكل تهمة كانت تؤدي إلى نبذ المتهم سياسيا واجتماعيا، في وقت لم تكن وسائل التواصل الاجتماعي نشطة لإطلاق حملات اعتراض وتوعية. وقد مارست تلك النظم غباءً منقطع النظير في التعامل مع الأديان والأعراق والمذاهب والأقليات حتى ربّت جذور الحقد عليها، ومع انطلاق أول شرارة تحرّر من الأنظمة، انقلبت المكوّنات المختلفة على أنظمة الحكم وسادت الفوضى، بل وظهرت العنصرية في أبشع صورها.

باختصار شديد، وقفزا عن التاريخ القريب المعروف، فشلت المجتمعات العربية في التعايش المشترك لأنها نشأت على أفكار الإقصاء والمصادرة والخوف من الآخر، وتعرّضت بعض البلدان لحروب أهلية طاحنة كانت نتيجتها ترسيخ الانقسام، وحين اجتمعت رموزها حول طاولة المفاوضات للخروج من الحروب الأهلية، تفتّقت ذهنيتها عن اتفاقيات عمّقت الطائفية وجذّرتها.

الحلول البديلة لفشل التعايش المشترك قليلة جدا، وتدور في فلكين، إما تقسيم البلاد تقسيماً حادا، أي إنشاء دويلات صغيرة، وإما إعطاء المكوّنات الرئيسة للمجتمعات حق الإدارة المدنية الذاتية تتولى المسؤولية الاجتماعية والاقتصادية والإدارية في ظل حكومة مركزية، لكن لكل حل إشكاليات. فالأول سيقود إلى ترهّل المنطقة والجغرافية من خلال التحالفات الخارجية التي ستنشأ لا محالة، التي قد تكون متناقضة شكلا ومضموناً، فقد يتحالف مكوّن ما مع صديق المكون الآخر أو مع عدوه، لاسيّما أن أرض بعض المكوّنات ستكون حدودية، وسينتج عن هذا صراعات لا حصر لها ولا نهاية، ويتحول الحل إلى وبال على الوطن، أما الحل الثاني فسيواجه تحديات كثيرة أهمها السياسة الخارجية، وستنشأ صعوبات في الاتفاق على سياسة خارجية واحدة، فهل نرتطم الآن بطريق مسدود؟

لا توجد حلول سحرية، لكن مثلما أن التعايش الثقافي ليس مصطلحا سياسياً وإنما فلسفة، فإن البحث في الحلول لن يخرج عن النظر إليها كونها فلسفة، أي جهد فكري ثقافي قبل أن يكون توزيع حصص وظيفية على أبناء الطوائف، وأول المصطلحات التي يجب مناقشتها هي طبيعة الانتماء للوطن مقابل الانتماء للحزب أو الطائفة أو المذهب، فنوعية الانتماء هي التي تحدّد العلاقة بين الوطن والمواطن، إذ لا يصح أن تتحول الطائفة إلى وطن، لأن ذلك سيعيدنا إلى المربع الأول، أي تعدد الانتماءات.

إن حسم قضية الانتماء هي الكفيلة بالقضاء على الفساد، هذا الوحش العجيب الذي يتغذى على الازدواجية والأولويات، ويبيح السرقة والإهمال والفوضى، وأحيانا العمالة، فالانتماء للوطن سيقود إلى وطن نظيف مادياً ومعنوياً، وإلى الالتزام بالعمل والإخلاص في الأداء، والحرص على توفير الخدمات وحماية الممتلكات العامة.

أعلم أن الدول المتقدمة استطاعت تحقيق معادلة الانتماء والتوفيق بين الحزب والوطن، تلك الدول حققت التراكم المعرفي والإنساني والسلوكي الحضاري على مدى عقود طويلة، إلى أن وصلت إلى التعايش المشترك، وتوحيد الانتماء، وهذا ما ينقص الخبرة العربية في الحكم وتحقيق السلام المجتمعي.

صحيفة ألف لام

إشكالية التعايش المشترك

 

اترك تعليقاً