عن رقصة الفيلسوف للأديب أنور الخطيب، بقلم: شعبان الدحدوح

عن رقصة الفيلسوف للأديب أنور الخطيب، بقلم: شعبان الدحدوح

عن رواية “رقصة الفيلسوف ” للأديب الفلسطيني  أنور الخطيب

بقلم: شعبان الدحدوح

   

 أعترف، لأوّل مرّة ودونَ أيّ تفكير،ٍ أقرر التنازل عن لذّة الغرور الأدبي، وأطلب قراءة روايةٍ بشكلٍ مفاجئ، وأنا أميل على حساب الشّعر أكثر، لكن هذه المرة فالأمر مختلف، لديّ شهية كبيرة لقراءة شيء جميل أيّا ما يكن، فساررت صديقي أنور الخطيب؛ لعلمي المسبق بأنه يكتب كلّ ما هو جميل، فدسّ لي رواية “رقصة الفيلسوف”، تردّدت كثيرا، كنت أحبُّ أن أطغطس شعراً، لكنني قلت سأجرّب الرواية الآن، نعم سأغطسُ كالشمس في البحرِ، لعلّي أخرج أشدّ طهارة من يومٍ جديد، لعلّي ولعلّي أُعلّي!

 أُثيرت جدليات كبيرة حول:  هل الأدب للمتعة، أم الأدب هو عمل المنفعة، أم عمل كليهما، أم ما هي وجهة الأدب؟!  ورواية رقصة الفيلسوف تترجم لنا معنيّة الأدب بكلِّ ما أتاها أنور من أدب، بل تستدركُ الأدبَ في الطقوسِ النثرية، المفعمة بالأسئلة غير العبثية والشاعرة، وربما أسئلةُ الضالينِ في زحمةِ الحياةِ المعاصرة والحياة العريقة، قدّم أنور خلال روايته إجابةً شافيةً كافيةً تنجبُ أسئلةً من خلالِ تلاقحُ فكرتينِ، يُحرّكُ فكرينِ مختلفينِ بإصبعِ الفيلسوف المراوغ، فيعقدُ لهما كتابَ نكاحٍ لينجبانَ فكرةً جديدة بطقسٍ مختلفٍ، يجني من صدرها قطافَ التجلّ! وأنا هنا أسردُ رؤيةً جماليةً “بحتة “، لما تحتاجُ الرؤية النقدية الحقيقية لأيّااامٍ وربما تستوسع مجلداً في روايةٍ ك “رقصة الفيلسوف “، والحقيقة أنني أجنّبُ الضوء زاويةَ الجمالِ السرديِ في عَروجِ الروايةْ: ” ما هو المنفى، ما هو الحبّ، ما هي الصوفية، ماذا يقصد بالنزاع، ولمَ هو موجود، ماذا يقصد بالنّزوع إلى الكمال أو إلى أي شيءٍ، وما هو الوطن، وما هو جواب اجتماع كلّ هذه الأسئلة في سؤال واحد “؟! ” من هو الإنسان!  ما هو العالم؟ ما هي السياسة، ولمَ نحن مضطرون للتعرف عليها، وما هو موقف المثقّف العربي منها، هل هو يقوم بدوره بشكل طبيعي، أم يمثّل القيامَ بدوره ليشبعَ لذةً كامنةً فيه، إذا ما هي اللذة؟ لمَ علينا أن نكون مثقفين أكثر، وما هي فائدة الثقافة لنا كعرب “؟! ” ومن هو الفيلسوف، وما علاقة الفيلسوف بالرقص”؟!  وختم: “لا تسألني عن معنى الوطن، فأنا لن أجيبكَ “!؟ _كل هذه أسئلة عبثية تكررت في فحوى الرواية، وأسستْ لشيءٍ من الرقودِ العانس!  وراودني سؤالٌ:  هل يعجز الفيلسوف الذي يرى من رقصه كمالا أن يتجرّد من هلوساتهِ، ويستدركُ معنى الوطن، وإن كان لا يعرفه فكيفَ يطلبه؟! __

في الحقيقة فركت رأسي، ونكشني قلبي آلاف المرات، وأنا أقرأ رواية “رقصة الفيلسوف ” للأنور الخطيب، هذا الراقص الصوفي بكلّ ما تعني كلمة رقص من معنى، بكلّ ما تعني من إملاء، بكلّ ما تعني من تساؤل، بكلّ ما تعني من اضطراب، بكلّ ما تعني من استفزازٍ أو مما تعني ما تعني، بل بكلّ ما تعني من هذيانٍ وتجلّ، وتتعدى إلى كلِّ ما تعني من رقص!  إذا من يتقن الرقص يجيد نصب الكمائن، تلك الكمائن المبرأة من الإثارةِ الجنسية، ويكتفي صاحب الفضول بقراءة الأجسادِ، كلّ ميلةٍ في حرفٍ، وأدعي أن كلّ حرفٍ كان يرقص أمام نظري متهيئاً عرياناً بلا أيّ حركةٍ تثير الغريزة، ولا حتى سكونٍ مثير!  تماماً كالقراءةِ العبثية التي لا تحبلُ بنصٍّ، أو بمن يعزِّز لولادةٍ أخرى، أو يرمي أنفاسه في حضنٍ يُزجُّ فيه بكلّ ما أوتي من ضعفٍ أو استمتاع، وهل يولّد الضعف الاستماع؟!  الأنور إذ يؤسس لمعادلة من الافتراضات أو يؤسس لمعنى “جدلية العلاقة “، أن تفهم فلسفة العلاقة دون أن تفقه التعبير عنها، أو تعرف التعبير دون أن تفهم الفلسفة، هذه هي الزاوية التي يزّجنا فيها الأنور، فعلى سبيل النقص:  لمَ المنفى حياة ثالثة تناقض الأولى والآخرة، ولمَ المنفى شيءٌ من الحياةِ الأولى، ولمَ الحياة الأولى شيءٌ من الأخيرة، إذ يتحقق لهنّ تماماً تمامَ الانفصال؟!  كمن يشتري زوجةً ويطلّق أخرى، ويبقى حبّها سهماً يعلّق صدرهُ في جدليةٍ من الاحتمالات، هل الدنيا تشبه الأنثى، هل الدنيا تشبه الراقصة، هل الدنيا تشبه الكتابة، هل الدنيا تشبه المنفى؟!  كلُّ هذه التساؤلات وأكثرها بألفَ وألفٍ جدليات تؤسس لمعنيّةِ الأدب، وهل الأدب والمثقّف شخصٌ متشابكٌ بالحاضر، وهل التشابك بالحاضر يعني التشابك بالآتي، وماذا يحقق هذا التشابك لراقصٍ، أو لعابدٍ وزاهدٍ، أو لماجنٍ، أو لكاتبٍ، أو لشاعرٍ، أو حتى ماذا يحقق هذا التساؤل لإنسان!. وهل هذا معنى الثقافة؟!!!

يقرعُ أنور شيئاً من أسرّةِ الأسرار، ويرغي بشهوةٍ لا منقطعةٍ ليعرف أو ليغرفَ لذة الجواب، وينسى أنور سرّ التساؤل فيرتمي في حضنِ الأجوبة، هو لا يرتمي بقدرِ ما يُرمى، يجيدُ الفيلسوف دورَ الحكيم، لكن “رقصة الفيلسوف “، لا تمثّل الفليسوف المجنون، بقدرِ ما تمثّلُ انتشاءً من معرفةِ حقيقة المعنى، “ماذا يعني المعنى “؟ شخصية الروائي حين يكون شاعراً لا يستطيع أن يفرق بين الشعر والنثر، وأحيانا أخرى يتورّط الروائي غير الشاعر بشكل مفاجئ بالشعر، لأن الرواية تطلب طقساً كبيرا من ذَبولٍ يفضي بدوره إلى فضاءات الخيال والتخييل إذا كان الروائي مبدعاً؟!  ونحن أمام رواية “رقصة الفيلسوف ” التي ما كان لها أن تتبرأ من الشعر، رأيناها تؤسس لحقيقة الشعراء، بطرح سؤال “من هو الشاعر الإنسان، وماذا يجب عليه”؟!

أنور الخطيب كالشعر تماما مهما قيل عنه مبرؤٌ من الواقعِ، كانت تشبيهاته منعوتتا سبب وحقيقة به، لكنه هنا يمثل القصيدة المثقفة، التي لا تفقد واقعيتها مهما ادعت ذلك!  من هو المسلم، من هو الملحد، من هو الكافر بالمجرّد والدليل، من هو الماجن، من هو العابد من هو الصوفي، ومن هو المغترِب، ومن هو اللاجئ، ومن هو المنفيُّ، وما هو سّر الحياة، وماذا يعني أن تسبر ذاتك بكلِّ موجود أو بكلّ غائب، وماذا وماذا؟! ولمَ ولمَ، وما هو سرُّ “اللمَّ “؟! يضيق أنور بصدرِ اللذةِ، ولا تضيق اللذة بجسد أنور، مرّة يدعي أنه أنثى، وأخرى يجسّد الرجولة المتشعّبة، وأخرى بأخرى حتى يصير جواباً لكلِّ سائلٍ عن أيّ شيء، وهنا يتجلّى أنور بأقشب حلّةٍ مثقّفةٍ ، إذ الكلمة في داره تملكُ ألفَ شخصيةٍ، وكلّ شخصٍ يَلقى نفسه فيها، فيلقي نفسه بها. فالليبرالي يرى من أنور ليبرالياً تقدمياً، والشوعي يرى منه مكافحاً كادحاً، وصاحب التجلٍي يراه صوفياً، والمؤمن يراه منه فعلَ الله فيستحضر الحمد، والغنيُّ يرى من أنور مترفاً، والفقير يرى من أنورَ مصلوباً على كتفي رغيفٍ، والماجنِ يرى من أنورَ طيشه، والفلسطيني يرى من أنور قضيته، والمغترب يرى من أنور جهنم، والكلمة ترى من أنور الوجدان أو الهامش أو الورقة.  ذلك كلّه يجسده أنور بمفردةٍ واحدةٍ وطقس مختلف، فيتماهى الروائي في روايته بحيث لا تكاد تلتمس شخصيته تماماً، هل هو “أبو البشائر “، أم هو الزعيم، أم هو .. أم هو …أم أم؟!  أن يكمل الروائي روايته بعدة طقوسٍ، وانت تتلمّس شخصيته فلا تراه إلا إنساناً نكرة!  أزعم أن هذا ما أراد أن يؤسس له أنور الخطيب في روايته “رقصة الفيلسوف ” وقد نجح تماماً فأنت تراه يتماهى في انفعالات الأسئلة، ورقودِ الإجابة، وأنت تراه وأنت تراه… دون أن تراه!  ما شبّع الرواية وأثخن فيها بل وغرز منها وفيها الجمال، هي تلك اللغة القوية بألفاظها السهلة “كأنه السهل الممتنع ” بأكثر من معنى، فهنا تأسيس لمعنى “السهل الممتنع ” بالمعنى الروائي، والمعنى الشاعري، بل “السهل الممتنع ” بامتناعٍ وتمنّعٍ بكلِّ متناول!  اما الحديث عن الأعمال السياسية في الرواية، فرأيت أنها حيكت على سبيل الحقيقة، لا على سبيل المجاز ولا الكناية، ولا حتى التعريض، رأيت أن الأنور استغل فرصة الرواية ليعرب عن رأيه السياسي في ا”لمحيط “..

في النهاية، أزعم أن عنوان الرواية “رقصة الفيلسوف ” من جوامع الكلم، فهو إجابة لكلِّ تساؤل، فالإجابة: ارقص على وتر الأسئلةِ كالفيلسوفِ العارف بهويةِ السؤال ستقول لك الإجابة: “هيتَ لك “. ولو سألت حتى: “عرفني بالله “؟!

اترك تعليقاً