أنور الخطيب: رواية وردة عيسى رواية المدن الحزية.. حوار سجا العبدلي

حوار مع الروائي أنور الخطيب

أنور الخطيب :ما يحدث في الخفاء هو أعلى من الفنتازيا وأقرب إلى الجحيم

بيروت- سجا العبدلي

صحيفة أثير الإلكترونية

في تلك الليلة المباركة، استقبلتنا أنطوانيت بعاطفة دافئة، أجلستنا في الصف الثالث في الصالة التي كانت تشهد القداس، حاولتُ كتمان ألم الطلق كي لا أفسد الاحتفالية لكنني فشلت، تألمت كثيرا يا بُني، وفي لحظة ما تعرضت لنوبات طلق متتالية ومؤلمة، استغثت بشكل لا إرادي بالعذراء، كانوا يعرفون أنني مسلمة، وحين سمعوا صرختي واستغاثتي توقف القداس، واعتبرها المصلّون بشارة خير وبركة من بركات يسوع المسيح في ليلة ميلاده. تقدمت أنطوانيت نحوي مع زميلتها وسحبتاني إلى غرفة داخلية كانت تنبعث منها رائحة اللبان، وبعد الفحص قالت لي: “لا وقت للذهاب إلى المستشفى، من الأفضل أن تلدي هنا، وليساعدني الرب”. كان خروجك ناعماً من رحمي، وبعد نصف ساعة من إطلالتك حملتك الراهبة الصديقة وقدّمتك لي، كانت تفوح منك رائحة البخور واللبان المحروق، حملتكَ بكفين مرتعشتين، نظرتُ في وجهك وقلت على الفور: “حبيبي يا عيسى، حمداً لله على سلامتك”، فابتسمتَ ابتسامة عريضة للحظة، فحضنُتك أكثر. نقلت أنطوانيت ما شاهدت وسمعت إلى المصلّين، انتشرت قصة تسميتك وابتسامتك بسرعة انتشار البخور في الكنيسة، سمعتُ كلمات الشكر من أعماق قائليها، وتدفقت نساء كثيرات بعد استئذانهن من أنطوانيت إلى “غرفة الولادة”، أردن رؤية الطفل الذي ولد في ليلة الميلاد المجيدة وسُمَي بـ”عيسى”، الطفل الذي ابتسم عند سماع اسمه، وربما توقعن اكتشاف بعض الشبه بينك وبين المسيح…

هكذا بدأت قصة ” عيسى ” الشاب المسلم  ذو الأسم المسيحي الذي رسم له الروائي أنور الخطيب قدره في روايته “وردة عيسى” وفيها تحدث عن الآن، عن اكثر من مدينة، وعن مدينة واحدة، مدن أصبحت تتشابه، في أنينها ودمارها. عيسى بطل الرواية علامة وشاهد على موت هذه المدن على يدي أبنائها.

  • الرواية في بدايتها خرجت مفعمة بالعاطفة والتفاصيل الحميمة  منذ لحظة ولادة عيسى والتفاف من في الكنيسة حوله، وخطاب والدته له. لكنك بعدها تخطف القارئ بعيداً ليشهد احتفالاً بالحياة في مدينة مليئة بالموت. حدثنا عن هذه النقلة.

 

ولادة عيسى في الكنيسة لم تأت صدفةً، فأم عيسى امرأة حامل في شهرها الأخير، ووالد عيسى كان يحب الراهبة أنطوانيت، وتلبيته وزوجته لحضور قداس عيد الميلاد تعبير عن فكر الأب المنفتح، وقبوله بمباركة ابنه من قبل راعي الكنيسة يعزز ذلك الفكر. وكان لا بد للرواية أن تبدأ بهذه الولادة المتميزة، وتنتهي بولادة أخرى تمثّلت بتجسّد “وردة” بعد أن كانت فكرة أو تهيؤات أو خيالاً ضروريا لعيسى، كي يستمر في الحياة، ويخلق المعادل الموضوعي لانتشار الموت في كل زاوية من البلاد. وفي الواقع لم تحدث نقلة واسعة بين الولادة الحميمية وبين ما تلاها من مشاهد الدمار والموت، لأن عيسى كان يسترجع الأحداث وهو في مكان عمله (دائرة دفن الموتى)، يسترجع كلام أمه، ثم أبيه، ثم قصة صديقه أو رئيسه في العمل، ولهذا فإن استرجاع قصة الولادة كان تمهيداً لما سيلاقيه عيسى بعد ذلك في دراسته وعمله وخدمته العسكرية، والموت المتكرر في مكان العمل وفي الشوارع وفي قسمي المدينة.

  • كأن بطل الرواية يقف وحيداً في منازلة ما بين طرفي النزاع الشرقي والغربي على الرغم من حياده. كيف يمكن أن يبقى المرء على الحياد في  ظروف كهذه؟ وهل يصح أن نسميه حياداً ؟

 

بطل الرواية “عيسى” يلعب دور الشاهد على الأحداث، هو العين التي ترى وتسجل وتتابع وتتأمل المشهد من شرفة الموت، وفي الواقع لم يكن على الحياد، هو ضد حكام المنطقتين الشرقية والغربية، لأنه ضد الدكتاتورية والاستبداد، وضد التطرف الديني والجهل، وضد تجار الآثار والنساء والأطراف البشرية، وضد أخذ الناس بالشبهات، ولهذا، فإن موقفه لا يمكن أن نسميه حياداً، وإن لم يشارك في القتال، أو الاصطفاف مع طرف، فهو ناقم على الجميع، ويؤمن أن الحوار لا يمكن أن يتم بين بندقيتين ليعم السلام، ولا بين عقليتين تستخدمان الناس لتنفيذ معتقداتهما، وأنا قد أتفق معك في المنازلة، لكنه لم ينازل أحداً بشكل مادي، كان ينازل من خلال الاحتفاظ برحيق البطلة “وردة”، بتمسكه بوجودها، وإصراره على أنها حيّة لم تمت.

  • أي رمزية حملتها شخصية وردة الفتاة المتوفاة والتي كانت غير مرئية للجميع ما عدا عيسى؟

 

وردة، البطلة غير المرئية، تحمل أكثر من رمز، الأول طريقة ولادتها من رحم النار، وقبل ذلك سبب دخولها للبيت الذي احترق لإنقاذ فتاة من الوأد، ثم رمزية ظهورها في عيني عيسى وحده، كونه الشاب النظيف الذي يرفض الاستبداد والتطرف وحرق البلاد، وبعد ذلك رمزية بقائها حية بعد خروجها من بين ألسنة اللهب، ثم رمزية تجسّدها والتفاف الأطفال حولها في نهاية الرواية، “وردة” هي البلاد التي وصل حالها ليصبح أشبه بحالة ما بين الموت والحياة، كان يراها الجنود مرة والمتطرفون مرة ويغضون الطرف، ففي غمرة الاقتتال لا يرى المتحاربون سوى أنفسهم، ولهذا لا يروون البلاد التي تحترق.

 

  • ألم تُحمل “عيسى”  الكثير من العبء بسبب اسمه؟

لا أعتقد ذلك، على الرغم من ذكر العديد من القراء والنقاد لهذه المسألة، وفي الحقيقة، فإن المتطرفين الجهلة هم الذين حمّلوه هذا العبء، وهم موجودون في كل مكان، وما الكنائس التي تم تدميرها أو حرقها أو سرقة محتوياتها، وما الراهبات والرهبان الذين اختطفوا في سوريا، والمسيحيون الذين ذُبحوا في ليبيا، لخير دليل على أحقية أن يحمل اسم عيسى هذا العبء، على الرغم من أنه مسلم، لكن مشكلته أنه ولد في كنيسة.

  • للوهلة الأولى ونظراً لما يتعرض له عيسى من متاعب يبدو وكأنك تتحدث عن الخلاف ما بين المسلمين والمسيحيين، لكنك تنقلنا بعد ذلك  لنزاع اوسع، لماذا انطلقت من فكرة عدم تقبل المسلم  للمسيحي لوصف الخراب الذي حل بالمدينة منذ اربع سنوات؟

انتقلت لوصف الخراب لأن الصراع لا ينحصر بين المسلم والمسيحي، أو بين المذاهب الإسلامية، وإنما الصراع بين التطرف والوسطية، بل إنني وصفت الصراع بين المتطرفين أنفسهم، بعد أن كفّروا بعضهم بعضا بسهولة، واصبح صراعهم على الغنائم ومن بينها النساء.

  • اثرت قضية حساسة جداً في هذا العمل وهي بلا شك الركيزة الأساسية التي انطلق منها هل نحن بحاجة للكتابة عن الآن؟

لا بد من الكتابة الآن عن الآن لأن الصورة اتضحت، فالرواية تقف ضد الجميع، والصراع ليس جهاداً ولا تحريراً لبلاد من الدكتاتورية، هناك دول تورطت في هذا الصراع لتنفيذ أجندات بدأنا نراها تُترجم حاليا في العراق وسوريا وليبيا وربما اليمن، على شكل مناطق نفوذ ستتحول بعد قليل، إذا كُتب لها النجاح، إلى دويلات فقيرة وجاهلة، مُسيطر عليها من الخارج العربي والأجنبي، ولهذا، فإن الكتابة الآن تكتسب أهمية بالغة، طالما أنها تحارب التطرف والدكتاتورية معاً، فالبديل عن الدكتاتورية لا يمكن أن يكون في الفوضى أو التطرف، الاختيار بين أن نعيش تحت مطرقة التطرف أو تحت  سندان الاستبداد ليس الحل، الحل في أن نعيش في دولة مدنية تحترم ثقافات الجميع.

  • لم تشر بشكل مباشر إلى المكان الذي دارت فيه أحداث الرواية لماذا؟

 

لم اشر إلى المكان لأن ما يحدث في كل الأمكنة التي تشهد صراعا مقيتاً يتشابه إلى حد كبير، فما يحدث في سوريا أو ليبيا أو العراق أو حتى نيجيريا يحمل سمات واحدة؛ إخضاع الناس بالسيف لفكر تكفيري يرفض ويصادر كل من لا يتفق معه.

 

 

  • على الرغم من واقعية أحداث الرواية إلا انها غرقت بشكل أو بآخر بالفنتازيا. هل هي حاجة لكسر الجمود الذي تفرضه قسوة الأحداث التي تميل الى الحقيقة بعض الشيء؟

 

إن ما يحدث في حقيقة الأمر أقرب إلى الفنتازيا القبيحة، ولو رصدنا ردات فعل الناس على شريط مصور بإتقان لحرق طيار أو ذبح مجموعة من الجنود أو المدنيين بتهم مختلفة، لقرأنا عدم التصديق، ومن جهة أخرى، فإن الفنتازيا تتقاطع مع الرمزية حتى تتداخل معه، وبالتالي، فإنني أعتقد أن ما يحدث في الخفاء هو أعلى من الفنتازيا، وأقرب إلى الجحيم، فمشهد ذبح الجنود ورميهم في النهر أو البحر كالخراف مشهد فنتازي للمشاهد العادي، لكنه حقيقي.

  • العودة إلى العدم هو الأمر الأقرب إلى عودة الإنسان أو الكائنات إلى أصلها، فقد جاءت من الغيب، وتذهب إلى الغيب“، الحس الفلسفي بدا واضحاً في مقامات عديدة من هذا العمل هل نحن أمام انعكاس لفلسفتك الخاصة؟

 

الفلسفة لم تأت من الغيب، وإنما من التأمل والرصد والمتابعة والمعرفة بجوهر الأشياء والمشاهد. ورواية “وردة عيسى” مشبعة بالمشاهد التأملية التي لم تصل إلى حد تكوين فلسفة بعينها، وإنما لجأ إليها “عيسى” كي يحمي نفسه من الجنون، فهو في فصل من الفصول يريد الاحتفال لأنه حافظ على ملابسه الداخلية نظيفة، وعلى قدرته التمييز بين الأشياء، لأنه قارب على الجنون، وظهر ذلك في أكثر من سلوك اتبعه. لقد سجلت موقفاً تتداخل فيه السياسة بالمعرفة بالوطن بالدين بالمجتمع بالحاضر والمستقبل، وتوصلت إلى أن الحل يكون في موت جميع المتحاربين، فالمستقبل لا يمكن أن يشارك فيه القتلة.

  • مع الإرهاب الممارس ضد الآخر بناءً على عرقه ودينه أو إي اعتبارات أخرى كم نحن بحاجة إلى تجديد ما يسمى “بالخطاب الديني؟

منذ ظهور التطرف وتهديده لكيانات كثيرة بدأ الحديث عن تجديد الخطاب الديني، ووقع كثير من المتحدثين في مأزق كبير حين طرحوا هذا الفكر، وتحدثوا بلغة الندم، وكأنهم يعترفون أن خطابهم الديني السابق هو الذي أوصل إلى التطرف والمذهبية والقتل وادعاء الجهاد. أرى أن تجديد الخطاب الديني هو مضيعة للوقت، لأنه يعني البحث عن آيات وتعزيزها أو أحاديث وإبرازها وطمس آيات وأحاديث أخرى، أي ممارسة الانتقائية، وقد فات الأوان على ذلك، لكن من المهم تحييد الدين عن الدولة، خاصة وأن المجتمع العربي يعج بالديانات والأقليات والمذاهب، وأنا مع المبدأ الشائع (الدين لله والوطن للجميع)، ولا يحق لأي شخص دخول الجنة من خلال تمرير السيف على رقاب الناس.

  • ” تأمل كثيرا كي لا تصبح جزءاً من المشهد” هل نحن أمام تصنيفات لمن هم خارج المشهد ولمن هم جزء منه؟

 

هذا اقتناص ذكي للعبارة أشكرك عليها، والانخراط في المشهد يعني الانحياز إلى طرف ضد آخر، أي المشاركة في الدمار والحرق والسبي والحبس والمصادرة، فالمتصارعون في المشهد الآن يقولون: “إما أن تكون معي أو ضدي”، وحتى يتجنب “عيسى” الانحياز، فإنه يدعو إلى التأمل، وأعتقد أن ثلاثة أرباع مشاكلنا نابعة من غياب التأمل، الناس منخرطون في سباق لا يعرفون مساره ولا مآله، ولهذا، فإن التأمل منجاة للروح والجسد والوطن أيضا.

  • هل فرض واقع ما بعد الربيع العربي بدمويته على نهج الرواية العربية خصوصاً حين تخرج مثقلة  بكل هذا الموت والدمار؟

 نحن لم نصل إلى مرحلة “ما بعد الربيع العربي” بعد، مع تحفظي على التسمية، ولكنني اشاركك الهواجس، لقد ألقت النتائج الأولية لما يسمى بالربيع العربي بظلالها على الرواية العربية، نهجاً ومضمونا، وأعتقد أن الرواية العربية، ستبقى أسيرة لهذه الأجواء، ولا أعني أجواء الموت والدمار، ولكن ستبقى اسيرة لصراع الأفكار المجتمعية والدينية إلى سنوات قادمة، خاصة مع ارتفاع سقف حرية التعبير في الدول التي لم يطأها الحريق الكبير، ومع الانتباه إلى أهمية السرد الروائي في هذا المضمار.

  • جدلية الابداع المتمثلة في كتابة الشاعر للرواية وبالحضور الكثيف للشعراء في السرد الروائي وأنت منهم بطريقة لا تقل حميمة عن كتابة الشعر .. هل  تمثل ظاهرة  يجب الوقوف عندها خصوصا حين  نطلع على اعمال الشعراء الذين  خاضوا مجال الرواية؟

 

هي ظاهرة ليست جديدة ولا تخص الأدب العربي، فمعظم الروائيين في العالم يكتبون الشعر، والعكس غير صحيح، وبالنسبة لي بدأت بكتابة الشعر ثم كتبت القصة القصيرة وبعدها القصة الطويلة ثم الرواية، لكنني لم أتوقف عن كتابة الشعر يوماً، وإن تأخرت في إصدار اشعاري في دواوين، وأعتقد أن الروائي الشاعر يكتب روايته بحميمية أكثر، والأمثلة كثيرة أيضا، لكن الخطورة تكمن في شعراء ونقاد يرفضون هذه الثنائية، وأخص بالذكر الشعراء، بينما الأمر لا يتعلق بقرار كتابة القصيدة أو الرواية، التوجه الإبداعي لا يتم بقرار، بينما تقنيات الكتابة قد تكون بقرار. وفي كل الأحوال، هي جدلية جميلة يتسلى بها بعض الشعراء الغيورين..!

أنور الخطيب : روائي وشاعر وإعلامي فلسطيني، أصدر 12 رواية، و3 مجموعات قصصية، و6 مجموعات شعرية، وكتابين في النقد والتوثيق الثقافي، فائز بالمرتبة الثانية في مسابقة القصة القصيرة لصحيفة الرأي العام الكويتية في العام 1980. فائز بالمرتبة الأولى لجائزة غانم غباش في دبي القصة القصيرة في العام 1991.فاز بلقب شاعر صحيفة (مقال) الإلكترونية الأول لعام 2011 ، تُرجمت بعض أشعاره إلى اللغات الإنجليزية والفرنسية والإسبانية.

Read more: https://www.atheer.om/archives/11951/#ixzz6mOqhpNiQ

اترك تعليقاً