مقالة حول ديوان (كلي عاشق ونصفي غريب)
بقلم: د. علي نسر
من غربة نفسية يترنح على أراجيحها، ينطلق الشاعر أنور الخطيب في ديوانه كلني عاشق نصفي غريب دار الغاوون ليبني جسرًا بين نصفيه الممزقين اللذين تزيدهما الغربة تباعدًا، لكن العشق يبقى صمام الأمان، ويبقى الشعر موتًا للمواقيت المؤلمة التي تتدفق نفيًا وانتكاساتٍ واغترابًا، فيحاول الشاعر باللغة ان يعيد أوصال الوطن في روحه المتشظية بين الحنين والشتات والصدمات: جرّحك الوهم كثيرا يا توأمي/ وآن لخيلك أن تصهل:/ لو كان الوطن لغة/ لماتت غربتنا. ينطلق الشاعر عبر جسره قاصدًا الوطن، راسمًا معالمه برؤية جديدة، ليس لطبيعته تضاريس واضحة، وجهاته لا تشبه الجهات التي ضجر منها الجميع، وعناصره تتمرد على ما هو مكتوب لها، انه وطن المعجزات: هذا النهار لنا/ سنؤثثه بالنساء الجريئات/ بالرجال المرسلين/ بالمواليد الناطقين/ وهذا النهر لنا/ سنمشي ضد مجراه/ نعيد ماءه لمصبه/ نصفيه من أدرانه/ نعيد تشكيل التدفق/ نطلقه حاملا رسالة الماء/…لنزرع ما نشاء على ضفاف النهر/ من أطفال ينحتون في المدى جهة خامسة. ولكي يؤكد الشاعر تشكيل المعالم من جديد، يحاول التخلص من الواقع أو الحاضر الذي يحاصره، ويحيله شاعرًا لا ينتظر سوى الطعن من الخلف، كأنه مسيح أو قيصر جديدان لا يموت الا مثلهما بخيانة ذوي القربى وأهل الداريهوذا وبروتس: وحين أراقص الخيل والليل/ لا تسألوني عن السيوف والأقلام/ تنكّرت لي كلها واستقرت بظهري/ فهل لي امرأة تراقصني/ قبل موتي. ولكي يتخلص من شباك الواقع وقيوده، ينسحب نحو الطفولة متخذًا من الفراشات عصبًا رئيسًا في معظم قصائده، منزويًا في زوايا الفطرة الأولى، نافضًا عنه أسئلة وجودية لا ينتج عنها سوى أجوبة مشفّرة أكثر صعوبة من السؤال: أريد أن أكون وحدي/ ومعي شقيّ/ يعيد سؤال الطفولة/ يسترد ألعابه من جديد/ يوقظ فراشات الليل/ …تعيدينني صبيًّا/ بلا أسئلة ولا أجوبة/ يطارد فوج فراش/ ككل الصبية المولودين/ في بيوت قديمة. إنه البحث عن الوطن الحلم، وطن من خيال كلما حاول أن يصير جسما أعاد الشاعر تشكيل عجينته ليظل هدفًا يسعى اليه ولا يلتقطه لكي لا يصدم به وكأن الطريق الى المكان هدف أكثر من المكان نفسه: خذوا كل الشعر يا سادتي/ وامنحوني ساعةً/ أطارد فيها فراشة في وطني/ ولا ألتقطها. وفي هذا البحث والسعي الى الوطن/ الهدف، يخاف الشاعر من مطاردة أدمنها المنفي، فيضع حدا لنسله كافرا بالتناسل اذا كان سيتمخض ليلد منافي جديدة، والرحم فيها مفقودة، فيستحيل شاعرنا دونيًّا يشعر بعقدة النقص مقارنة بالآخرين: شكل المنفى أن تمرّ بنا الارض/ أن تجحظ الحدود بنا كالطاعون/ ان يستبيحنا الموت في غربتنا/…شكل المنفى يا والدي/ أن أخاف النساء كثيرا/ كي لا انجب منفى. وكردة فعل لتعويض هذا النقص، يعتمد الشاعر على الية دفاعية، تجعل منه نبيًا جديدًا ذا رؤية تأويلية بعيدة من المألوف: انها بديهية الحياة/ قد يجيبك الغرباء فهل انت منهم/ بلى لكن ذاكرتي مقفلة/ من اين انت ومن تكون/ مراهق باحث عن سبع سنابل/ في سنبلة/ ونبي في مرحلة الحزن والاسئلة. هذا البحث عن اسس الحياة المتجسد في السنبلة، صار حلما جديدا بوطن شكّل جسدًا او جسرًا لعبور حضارات مضت ولم تترك فيه سوى أدوات الموت والتشريد بدلا من ان تهبه مقومات الحياة والسلام: جسدي مفترق الحضارات/ مروا به وعليه/ ولم يزرعوا سنبلة/ وكل ما تركوه قنبلة. فيكافح الشاعر للحفاظ على ما تبقى من وسائل تشير الى الاتجاه الحقيقي للوطن بعد المحاولات الحثيثة من اجل طمسها او اجتثاثها، فيطلب الاحتفاظ بأصبع الاشارة نحو الوطن المستباح بعد ان تخلى الجميع عن اصحاب الحقوق: المنفى يا صاحبي/ ان تبخل السماء بأنبياء/ يعيدون لي خنصري المقطوع من جديد. وهكذا استطاع الشاعر وعبر قصائد نثرية تتدفق منها واليها الصور، أن يقدّم للمتلقي موضوعات تثبت مدى التزامه بقضايا الوطن والامة..قصائد تضافرت فيها تقنيات اللغة الشعرية عموما، تصدح بأجراس الموسيقى الداخلية، وإن حاول الشاعر ان يمنحها جوا من الايقاعات الخارجية عبر التقفية في بعض المقطوعات لكن هذا أتخم بعض النصوص بما يشبه الروي والقافية، وهذا ليس مقبولا في مثل هذا النوع من القصائد، فكان من الأجدى لو خفف الشاعر من ثقل هذه القوافي، التي لا تمنح قصيدة النثر مزية انما تعمل على تقييدها