نص ونقد
ثنائيات منتهى عمران بين رَجُلين
بقلم: دكتور سلمان كاصد
لقاء عابر يحصل لنا جميعا في أزمنة وأمكنة لم نخترها ، وربما يقودنا حدسنا إلى أن نتأخر أو أن نستعجل الرحيل في القطارات وسيارات النقل العام أو في أمكنة الحياة المختلفة، وكل ذلك نفترضه واقعا في قصة لا تخرج إلى الافتراض بل هي أقرب إلى ما هو واقعي.
وفي ضوء ذلك نقرأ قصة (رجلان ) للقاصة والشاعرة منتهى عمران .
لنقرأ في القصة ما تحمل من ثنائيات ضدية أسهمت في تشكيل جمالية النص.
رجل عجول يصعد القطار ويجلس قرب رجل آخر فيدور بينهما حوار متقطع عن القدر والزمن والعجالة والحياة والموت والغياب والحضور وما يستطيع المتلقي أن يحمل النص من تناقضات وتقابلات ثنائية.
رقم البطاقة هو الذي قاد الرجل العجول الصاعد ليجلس محاذيا شابا نحيلا تبدو عليه حالات القلق والخوف من مجهول يتوقعه،
كان بدء الحوار بينهما عن العجالة حين كشف الرجل العجول عن ساقه الاصطناعية التي فقدها حين لم يكن عجولا
( حين لم اكن عجولا خسرت ساقي ) قول الرجل العجول بما يفترض أن عجالته أنقذته من ضياع القدم الأخرى
هنا يحصل التناقض بين البطء / العجلة و الفقدان / الامتلاك
تلك ثنائية بنيت عليها أول القصة ، لتأتي ثنائية أخرى
بما يمكن أن نحصرها من جهة الرجل النحيل وهي ( الفضول / المعرفة) و( اللا فضول / التجاهل)
نكتشف وبشكل أطلق عليه السارد الفضول الجمعي الذي أوعزه إلى طبيعة الذات البشرية عندما أراد الرجل النحيل معرفة سبب بتر ساق الرجل العجول ، وكأنه بذلك ينوب عن الطبيعة البشرية ومن ضمنهم المتلقي في معرفة أسبباب الأحداث.
تتولد ثنائية ثالثة وهي ( الحضور / الغياب) وهذه الثنائية هي جزء من القلق الوجودي ، حينما يحاول الرجل النحيل أن يزيح التجهيل بالكشف ، وذلك بمعرفة سبب البتر وبعكس ذلك تنهض المعادلة التقابلية الثانية من ذات الرجل العجول في محاولة منه إلى الإخفاء لسبب الفعل (البتر) التي يؤجلها قليلا حينما يطلب من الرجل النحيل الانتظار لجواب سيأتيه حال الرجوع من الحمام ، ولكنه لن يعود ولن يحصل الرجل النحيل على هذا الجواب كونه سيغيب عنه أبدا حين توقف القطار الذي صعد فيه آخرون بعضهم يبدو مستعجلا وبعضهم يبدو بطيئا..
يولد هذا الغياب قطيعة بين الرجلين على مستوى الذات أولا والتاريخ الشخصي اللامشترك ثانيا وهي ذاتها قطيعتنا التي نعيشها كل يوم ، وبهذا لم تكتمل الرحلة بينهما لأنهما عاشا تجربة اللقاء العابر.
إن القصة درس في العبور الشخصي في هذه المفارة التي اسمها الحياة.
رجلان
منتهى عمران
رمى جسده على الكرسي الذي يحمل رقم بطاقته بجانب رجل نحيل وطويل له شعر أسود لامع جمعه كذيل الحصان إلى الخلف متأهبا في جلسته كأنه يستعد للنزول رغم أن الرحلة في أولها. كان نَفَسَه المتسارع يقطّع جملته الأولى:
_كان عليّ عدم الاستعجال وانتظار قطار الرحلة القادمة كدت اسقط وأنا أحاول الصعود.
رد عليه الرجل النحيل
_كونك عجولا هذا ليس عيبا فربما لا سلامة في التأني فركوبك في القطار السريع هو نجاة من قدر ما يتربصك.
_ ممم .. وكم مرة نجوت؟
_ لا أتذكر عددا محددا ولكنها مرات كثيرة.
المرة الوحيدة التي لم استعجل فيها خسرت ساقي.
نظر الرجل اللاهث إلى ساقيه مستغربا
_ إنها ساق صناعية
_ أنا آسف
_ لاعليك إنها تؤدي الغرض، لا تعرقل استعجالي على الأقل.
_ هل وجهتك إلى العاصمة؟
_ نعم
_ وأنا كذلك.. ولكن لم تقل
قاطعه الرجل العجول
_ تريد أن تعرف كيف وأين حدث بتر ساقي؟ إذن أنت عجول أيضا ولكن بفضولك، وهذه هي العجلة الوحيدة التي يكاد يتفق عليها بنو البشر.
_ عذرا لا أقصد احراجك.
_ لا .. لا احراج في ذلك أنا نبهتك لها وإلا لم تكن لتعرف ذلك أبدا.
صمت الرجل العجول وهو يتأمل سحر الطبيعة التي اطلت عليهما من النافذة.
فخرج الرجل اللاهث عن صمته قائلا:
_ .. ولكن لم تجبني عن سبب بتر ساقك.
انتبه الرجل العجول كأنه كان في غفوة
_ هاا .. أشعر أني بحاجة للذهاب إلى الحمام عند عودتي سأجيب عن سؤالك.
توقف القطار في محطته الأولى ونزل بعض الركاب وصعد آخرون وتحرك مرة أخرى ولم يعد الرجل العجول إلى مكانه.
كل الشكر والتقدير للدكتور سلمان لإضاءته النقدية المهمة ولموقعكم للنشر
الشكر لكم ولإبداعاتكم المحفزة على الكتابة، شرف لنا نشر المتميز