قراءة في قصيدة أشجار السماء للأديب الفلسطيني أنور الخطيب
يوسف السحار :
يا لحظنا!! نص بهذه الفلسفة العميقة وبتلك الرمزية المفرطة عصي عن الفهم من أول قراءة، بل إنه يحتاج لقراءات عدة من أجل استيعاب الفكرة التي قولبت بنص شعري مزدحم بالصور التي تستدعي من المتلقي تأملا وإمعانا في تركيبتها، منذ البداية يفاجئنا الشاعر “الخفي مؤقتا” بعنوان مراوغ يحتم علينا الوقوف في حيرة من أمرنا بين السماء والأرض عبر استزراعه أشجار السماء، التي يشتهي منها دالية حبيبته؛ ليمدد تحتها روحه المتعبة جراء صدمته بواقع مزيف عاشه وما يزال يعايشه منذ عقود وعقود، لدرجة أنه تائه بين عنقودين، تارة ينزفان خمرا عليه، فيسكر ويثمل من جديد، تيه على تيه، وتارة أخرى ينز كلا العنقودين أمومة في فم طفل مهاجر، يؤملانه بحياة تبعده عن دائرة الحتف والهلاك، لكنهما لا يفعلان من أجله شيئا سوى إرضاعه وهم الحياة الزائفة وسراب واقعه المزيف، من أجل الوصول به لشهوة الموت الأولى التي يتمناها بعد تشبعه بأوهامهم الزائفة ووخاليهم المزيف، لكنها لحظة الكشف والمكاشفة، لحظة الحقيقة واليقين، لحظة أدرك في أطوائها جحيمية اسمه ومسماه، مبناه ومعناه، فهو يدرك أن للغة دور في تلك الصدمة التي تلقاها بعد انكشاف زيف الواقع وبؤسه، ويحمل المسؤولية لذاك المجاز العبثي، الذي هيأ للغة مجرى نهر على لسانه، فأصبح شاعرا، لاهيا بنجمات الصباح المسقط لها في لعبة الدهشة الرابحة والمربحة لمعناه وأناه، لكنها في حقيقتها لعبة مخادعة تقوم على تراكم الركام فوق الركام، في إشارة إلى أن الانخداع بزيف الواقع الخداع معناه: قيظ حارق، ودبق دابق وهرش مميت لذاكرة المكان، موقظا فيها أطلال الماضي الجميل بعدما تكدست في بوثقة السلفية العمياء بصرا وبصيرة بصورة شاعرية بكماء لا تستطيع سماع الحقيقة، ولا تريد أن تعيها، لذلك كله تحاول الانعتاق من أغلال الماضي، فترنو للتجدد، وتتمظهر فوق المسارح، وتتظاهر بالحداثة، مدعية تجاوزها، لكن القلب مثقل بالحصى، مفعم بجمر الخواء والفراغ، وكأن نزار قباني يبعث من جديد في هذا النص، إذ قال في قصيدته” هوامش على دفتر النكسة”: خلاصة القضية توجز في عبارة لقد لبسنا قشرة الحضارة والروح جاهلية وبين هذا المعنى وذاك، يعري الشاعر الضمني نفسه متمنيا أن لو وعى الحقيقة منذ بدايتها حتى لو كانت شوكا، فهو يتمنى الألم والانتحار هروبا من فراغه المقيت، الذي أفرز له عنقودين كافرين لا يرقبان فيه رأفة ولا رحمة، مقررا على إثرها الصلاة على نفسه، والتطهر والتحلل من كل ذاك الزيف والكذب، الذي أيقنه في ذات يوم، عله يرجع إلى حياة ما قبل الحياة، حيث كان جنينا بل إلى أبعد من ذلك، حيث كان في ظهر أبيه قبل شهوته المحمومة، التي سرقت من قبل عنقودين احترفا صب المتاهة في فم الشاعر الضمني؛ لدرجة أنه اعتبر ذلك رحمة من الله، وكأن التيه يعيد نفسه إلى أناه، أو أن الشاعر الضمني يعاود نفسه إلى رحلة التيه المستمرة في روحه، مدعيا أن لا شيء يستحق العتاب، وأن ما سبق كان بمثابة هذيان من تعب القصيد وسكرة العناب في كأس الغيب المستمر لأناه.