المخيمات الفلسطينية في لبنان: هذا الوجع
بقلم أنور الخطيب
من الصعب القول إن السلاح في المخيمات الفلسطينية في لبنان يأتي ضمن الحالة العامة التي تسود هذا البلد (السلاح في كل بيت، والسلاح لدى كل الأحزاب والتنظيمات)، لأن الفلسطينيين ليسوا جزءًا من النسيج اللبناني السياسي، ولأن الحكومات المتعاقبة لا تريد أن يكون الفلسطينيون جزءًا من الواقع الاقتصادي أو التجاري ولا حتى الاجتماعي بحجة محاربة التوطين، التوطين الذي يرفضه الفلسطينيون في المبدأ، وبالتالي فإن الفلسطيني لا يتحمل سوى نسبة بسيطة من حالة اللاإستقرار الذي يعيشه لبنان، بصفته صاحب قضية لم تجد لها حلاً حتى الآن.
لبنان، هذا البلد الصغير لم يعرف الهدوء والصفاء منذ تأسيسه، ليس بسبب الطائفية فحسب، وإنما لأن لبنان (كل لبنان) سمح للآخر بالتدخل، فانتهز الآخر الحالة وبدأ في استقطاب اللبنانيين واستمالتهم وشرائهم وتجنيدهم، فتحول لبنان إلى جزر. وللبنان دور في هذا لأنه أوحى للآخر أنه في حاجة ماسة لصوته وأمواله وسلاحه وثقله الوطني والإقليمي ولثقافته، وتراكمت هذه الاتكالية حتى أصيب الجسد اللبناني بسرطان الآخر الخبيث والحميد الذي يستغل كل فجوة وأزمة ونزوة ليتفشّى وينتشر ويعزّز وجوده.
والحالة الفلسطينية شبيهة جدا بالحالة اللبنانية لجهة السماح للآخر بالتدخل، وفي حالات كثيرة حدث ارتماء في حضن الآخر طواعية فارتُهن القرار الفلسطيني شأنه شأن القرار اللبناني، وكانت النتيجة استدامة الأزمات في لبنان، وتجذّر الأزمات في المشهد الفلسطيني، فلم يهدأ لبنان ولم يحقق تنمية، ولم يسُد الوئام النسيج الفلسطيني ولم يحقق انتصاراً واحدا حقيقيا، لا على الصعيد المجتمعي ولا السياسي ولا المعيشي.
” لكن السلاح لم يعد يحمل هذه القيمة في بلاد العرب، ومن بينهم الفلسطينيون واللبنانيون، فإذا حدث سوء تفاهم بسيط بين شخصين، فإنه سرعان ما يتحول إلى معركة بالسلاح الناري أو الأبيض “
أعلم أن السلاح تقليد تراثي قديم للشخصية العربية، إنه يرمز للعزة والفخر والقوة، منذ السيف حتى الكلاشنكوف، وغالبا ما كان حمله للدفاع عن النفس والزينة، ولم يكن مسموحا استخدامه خبط عشواء وكيفما اتفق، في اليمن على سبيل المثال، حملُ الخنجر عادة وتقليد جميل يكمّل الشخصية والرجولة، لكن إذا نشب شجار بين شخصين ووضع أحدهما يده على قبضة الخنجر فإنه يُحاكم بتهمة محاولة القتل العمد، لكن السلاح لم يعد يحمل هذه القيمة في بلاد العرب، ومن بينهم الفلسطينيون واللبنانيون، فإذا حدث سوء تفاهم بسيط بين شخصين، فإنه سرعان ما يتحول إلى معركة بالسلاح الناري أو الأبيض، فلا يعتمد كل طرف على قوته الذاتية، ولهذا أسباب كثيرة أولها إحساسه بأنه مدعوم من حزب أو طائفة أو تنظيم أو حركة أو جهاز أمني رسمي وغيرها، ثم الجهل والرعونة وعدم تقدير مآلات الأمور، وثالثها الكراهية والحقد والتسرّع وضعف مساحات التسامح، وأخيرا غياب قيم الفروسية، بمعنى الحكمة والشجاعة والتأنّي والقيم والأخلاق والعفو، والنتيجة (الكل قبضاي ومتورّم الأنا ولا يأبه لأي قانون أو سلطة دولة أو عرف أو تقليد)، والنتيجة الثانية، انتشار التوتر بين الناس فتشعرهم أن أصابعهم على الزناد في أي لحظة، وقد ينشب صراع مسلح بسبب موقف سيارة، أو أحقية المرور أو نباح كلب الجيران أو نظرة أو كلمة أو تأفّف، يحدث هذا بسبب ضيق الأفق والتسرّع وغياب التأمل وعدم تقدير الآخر والاستهتار به، كائنا من كان، وغياب الحوار والمنطق، يعني الكل يقول للكل (مش عارف حالك مع مين عم تحكي؟!!) فيرد عليه الآخر (أكيد بعرف، عم بحكي مع واحد صرماي ..) ويضع يده على المسدس. أووووووف.
” بعد الهزائم والمؤامرات وخيبات الأمل والاتفاقيات الساذجة تشكّلت النزعة الفردية الأنانية وازدهرت في ظل غياب المؤسسة المربية التوعوية، وغياب دور التنظيمات واللجان الشعبية التنظيمي والاجتماعي والثقافي، وباختصار تحولت القضية الفلسطينية إلى أغنية (علّي الكوفية علّي) “
حسناً، انتشر السلاح الفلسطيني في المخيمات بهدف وطني؛ ثورة حتى النصر وتحرير فلسطين، وكما يحدث في كل الثورات غير المنضبطة، بدأ كثيرون في استخدام السلاح لأهداف أخرى شخصية وسياسية وعقائدية وثأرية، وبعد الخروج من بيروت في العام 1982 بدأ العد التصاعدي للخراب، وظهرت نتائج السياسة التي لم تهتم بالتربية الوطنية ولم تعزّز حب فلسطين وأخوّة الدم الفلسطيني ووحدة المصير، والآن، بعد الهزائم والمؤامرات وخيبات الأمل والاتفاقيات الساذجة تشكّلت النزعة الفردية الأنانية وازدهرت في ظل غياب المؤسسة المربية التوعوية، وغياب دور التنظيمات واللجان الشعبية التنظيمي والاجتماعي والثقافي، وباختصار تحولت القضية الفلسطينية إلى أغنية (علّي الكوفية علّي) وإلى ثوب ثوب مطرّز، وراتب آخر الشهر، ويمكن أن يؤدي غياب الراتب إلى غياب الأغنية والثوب والفلكلور كله، وفي ظل هذا الغياب والإفلاس الأخلاقي، تحول السلاح الفلسطيني من وطني إلى شخصي، ومن فروسي إلى مافياوي، ومن الحماية إلى الاعتداء، وتحولت المخيمات بناء على ذلك إلى جزر أمنية، الحكماء فيها نادرون، فقد انتشرت القبلية والعشائرية والتخلف الحضاري، ولم يعد الشبّيح والأزعر والمتجاوز يجد من يردعه.
أنا لا أعمّم بالطبع، التعميم في المبدأ مرفوض، لكنني أتحدث عن ظواهر بادية للعيان، ظواهر مافياوية تسكت عنها التنظيمات واللجان، فهل يبقى للسلاح معنى في هذه البيئة المدمَّرة بفعل فاعل في ظل انحراف وجهته من وطني إلى شخصي؟
أنا لا أطالب بنزع سلاح المخيمات، لئلا أُحسب على قائمة الكارهين للوجود الفلسطيني في لبنان، ولكن أطالب بضبطه بقوة، وليُسحب السلاح ممن يرفض الانضباط، وأقترح حملات توعية جديدة ومكثفة وإعادة تربية الأجيال الصاعدة على الأخلاق الفلسطينية، بحيث تستند هذه الأخلاق على خطوط ومبادئ مثل: دم الفلسطيني على الفلسطيني حرام شرعا ووطنيا وأخلاقيا، عرض الفلسطيني على الفلسطيني حرام، بيت الفلسطيني على الفلسطيني حرام إلا بالاحترام وطيب المعشر، سمعة الفلسطيني على الفلسطيني حرام، وغيرها، وفي هذا السياق، أقترح جمع السلاح الفردي الخاص غير المرخّص من الجميع، والإبقاء على السلاح التنظيمي الرسمي.
” بعضهم يشارك في هذه المؤامرة، وبعضهم قليل الحيلة، وبعضهم يتحسّر، وأسأل عن دور المؤسسات التعليمية والتربوية فيجيبونك بسخرية واستنكار وتعجّب (مييين؟) والكل يقول في نهاية الحديث (خليها لله) “
تحدثت إلى أكثر من طرف في المخيمات ووجدت الجميع يتحدثون عن مؤامرة تجهيل الفلسطينيين وإفسادهم وتحويلهم إلى عصابات، فتسأل عن دور التنظيمات واللجان الشعبية والأمنية فيأتيك الجواب جاهزاً: بعضهم يشارك في هذه المؤامرة، وبعضهم قليل الحيلة، وبعضهم يتحسّر، وأسأل عن دور المؤسسات التعليمية والتربوية فيجيبونك بسخرية واستنكار وتعجّب (مييين؟) والكل يقول في نهاية الحديث (خليها لله)، وإذا اقترحت مبادرات وبرامج وحملات توعوية يقولون لك (من سينفذها ومن سيمولها ومن سيستجيب لك؟).
هناك أزمات حقيقية وخطيرة في المخيمات الفلسطينية، ولا علاقة للظروف القومية والدولية واللبنانية فيها، إذ لم يفكّر أحد في تنظيم هذه التجمعات وتنميتها وتهذيبها وتعليمها وجعلها تحترم القانون والملكية العامة والخاصة، وتحترم فلسطينية الفلسطيني، وقيم الفلسطيني وأحزان الفلسطيني، هنالك حالة من العبث المستشري والبطالة بنسب مرتفعة.
لا أعتقد أن الوقت المناسب قد مضى، وعلى عكس ما يعتقد الجميع، هنالك متسع من الوقت للبدء من جديد، ومعالجة الآفات والأزمات، يحتاج الأمر فقط إلى حسن النوايا وصدق الانتماء لفلسطين، وبعدها كل شيء يهون، فالإنسان الفلسطيني في المخيمات يتوق إلى أن يحيا في بيئة نظيفة يحكمها النظام والأمن والعدل، وتبقى الكرة في ملعب التنظيمات واللجان الشعبية والجمعيات المدنية والوجهاء والمثقفين الصادقين وكل الحريصين على سمعة الفلسطيني وحاضره ومستقبله. والله من وراء القصد.
https://alyoum8th.net/News.php?id=869
اليوم الثامن