طريق الإبداع والموت.. كُتّاب عانوا اضطرابات نفسيّة
ثمة دراساتٌ كثيرة تلاحق تلك العقول المريضة والجميلة والمبدعة لتقول إن الاضطراب مرتبط بالإبداع أو العكس حتى، تحلل تلك التصرفات وترمي عليها أحيانًا حملًا إضافيًا أو ترسم طريقًا ضبابيًا لها، لكن ومن خلال تجارب كتاب كبار فالجنون يبدو كما لو أنه ذلك الكائن الساحر، يتسلل على مهل إلى الأدمغة ويحولها، يسكن فيها خالقًا عالمه، ولكن ماذا إن كان الجنون هو رفيق الكتّاب؟ كيف ندرك عالمًا يختلط فيه الإبداع والاضطراب النفسي، حيث يظهر ذلك الخيط الرفيع الذي أثّر به المرض على الكتابة أو العكس حتى، فالكتابة شفت بعض الكتاب، وبعضهم ارتفعت سويّة إنتاجهم خلال فترات اضطرابهم العقلي، والبعض عجز عن المتابعة؟
في التحقيق التالي نسلط الضوء على بعض الكتاب الذين عانوا الاضطراب النفسي وكيف أثرت معاناتهم على نتاجهم الأدبي:
فرجينيا وولف – ولدنا في وقتٍ مبكر جدًا
اعتقدت الكاتبة والناقدة الإنكليزية فرجينيا وولف أنّها ليست مكتئبة وحسب بل “مجنونة”، وبدأت في سماع الأصوات، لم تستطع التركيز، وظنت أنّها لن تقرأ أو تكتب وبدا لها أن حالتها ميؤوس منها. عُرف عن وولف أسلوبها الأدبي وأفكارها النسوية ورغم الاكتئاب تمكنت من ترك العديد من الأعمال المهمة، كما عُرف عنها قيامها بالأشياء على طريقتها مخالفة كلّ المعايير من حولها، كما أنهّا كرهت قواعد الرواية التقليدية، رافضةً التماسك السرديّ داخل العمل، فأنجزت أعمالها بالخروج عن المعتاد وبكتابة حبكات غير مرتبطة بالبداية، تناولت العديد من المواضيع الحياتية والتي تتسم بالالتزام كما قضيتها تجاه النسويّة متسائلة عن الخيط الرفيع الذي يجمع ما بين إبداعها ومرضها، ويعتبر عملها الشهير “السيدة دالواي” واحدًا من الأعمال التي قدمت فيها وولف نفسها ومرضها عبر شخصية سيبتيموس سميث، الرجل الذي يعكس اضطرابات فرجينيا وما عانته ويتخلص في النهاية من اضطراباته عبر رمي نفسه من النافذة.
الكاتبة التي عانت في بداية مراهقتها من الهوس الاكتئابي أو ما يعرف اليوم باضطراب ثنائي القطب، قاومت طويلًا حتى اللحظة التي أدركت فيها أنّها عاجزة حقًا عن المتابعة. ومن المعروف عن الاضطراب ثنائي القطب أنه يحتاج إلى علاجات طويلة وصعبة ويتعرض خلالها المريض لانتكاسات عديدة فكيف إن تحدثنا عن منتصف القرن التاسع عشر. “يبدو الانتحار معقولًا تمامًا بالنسبة لي، لقد ولدنا في وقت مبكر جدًا”، تقول وولف.
يتناوب الاضطراب ثنائي القطب بين فترات من الكآبة والركود وفترات أخرى من الهوس والإنتاج والأفكار الغزيرة حيث ترتفع الطاقة الجسدية والفكرية للمريض، وهي من الفترات التي ينجز خلالها الفنانون والكتاب المصابون بالمرض الكثير من أعمالهم المهمة وهذا ما كان يحدث مع وولف التي يبدو أن هناك توافقًا بين أعمالها الأخيرة ومرضها، فكانت تنجز العديد من أعمالها خلال نوبات هوسها عكس فترات الكآبة التي توصل المريض إلى الحضيض من جهة الأفكار والمقدرة على التفكير السليم.
دايفيد والاس- أردتُ فقط أن أتوقف عن الوعي
ولد الكاتب والأستاذ الجامعي الأميركي دايفيد والاس يوم 21 فبراير/ شباط 1962، عُرِف عن أعماله أسلوبها الساخر، وهو نموذج لكتاّب ما بعد الحداثة الأميركية. بعد البدء بكتابة روايته “الكوميديا اللامتناهية” عانى نوبات غير طبيعية من الحزن وشخصت حالته لاحقًا بالاكتئاب غير النمطي لكن الأطباء سيشخصون حالته لاحقًا باضطراب ثنائي القطب الحاد، “لقد عانيت من أزمة منتصف العمر عندما كان عمري العشرين وهو ما لا يبشر بالخير طيلة عمري”.
بعد روايته “مكنسة النظام” رحب النقّاد بشدّة بهذه الموهبة واعتبروه خليفة توماس بينشون، وسليل فرانز كافكا، أمّا روايته “الكوميديا اللانهائية” فتدور حول مراحل مرضه ومعاناته، مركزًا على شعور الاكتئاب، حيث ستشرح شخصية كيت غومبيرت ما تعانيه بعد محاولة الانتحار ووضعها في دار رعاية خاصة “أردت فقط أن أتوقف عن الوعي، أفضّل ألّا أشعر بأي شيء على أن أشعر بهذا”.
يتحدث والاس كذلك في “الكوميديا اللانهائية” عن المشاكل الاجتماعية والإدمان والدعارة ورياضة التنس التي كان ديفيد يمارسها، وتشكل الرواية في أحد جوانبها صورة للصراعات والهوس الذي عانى منه والاس، ففي 1500 صفحة لا يكف فيها والاس عن السرد وطرح الأفكار من هنا وهناك وكأنّ دماغه يودُّ التخلص من العالم دفعة واحدة، إنّه يتحدث عن كلّ شيء بخطوط سردية طويلة وكأنّه يهرب فعليًا بالحديث الطويل، لكن ذلك شكّل نقطة ضعف للرواية في إحدى زواياها، فرغم العبقرية السردية والتي تحتاج نفس قراءة طويلًا فإن القارئ قد يتوه حقًا ما بين الحبكات والاستحضارات، فلنتخيل إذًا ما كان يحدث داخل دماغه!
الخط السردي لديفيد هشّ ومتعرج ومتقطع يعكس حالته النفسيّة وتقلباته المزاجية، عن قصد أو بدون قصد، فقد رسم دماغه بالأفكار وحتى بالأسلوب والحبكة، يظهر أثر مرضه جليًا في كتابته وخاصة في التناوب بين الفكاهة والحزن، ووضع الكوميديا داخل قالب سوداوي متين، حيث يلخص هذا بقوله: “أريد كتابة شيء حزين، والناس وجدت ذلك الشيء مضحكًا”.
قبل انتحاره بثلاث سنوات قال والاس خلال خطابه في كلية كينيون: “قد يبدو ما سأقوله مملًا ومتوقعًا ومكررًا ولكنه يعبر عن حقيقة مؤلمة، هناك سبب لأن أغلب من ينتحر بالأسلحة النارية يطلق النار على رأسه، وذلك حتى يقضي على أفكاره المرعبة، وفي الواقع إن من يقوم بالانتحار هو ميتٌ قبل سحبه للزناد بوقت طويل”.
توقف والاس عام 2008 عن تناول مضادات الاكتئاب في محاولة لمواجهة عقله، أراد كتابة رواية تخصّ حزنه وحده لكن بدون الأدوية الكيميائية تدهورت حالته بسرعة، ليشنق نفسه في النهاية تاركًا تحفة أدبية غير مكتملة.
آن سكستون- الكتابة شفاءٌ ذاتيّ
شجع الطبيب النفسي مارتن أورن الشاعرة الأميركية آن سكستون على كتابة الشعر والتي استشارته في أعقاب نوباتٍ من الاكتئاب ومحاولة الانتحار (1956) حيث كانت أمًّا لطفلين وتعمل كعارضة أزياء. اتبعت سكستون نصيحة الطبيب وبدأت بكتابة الشعر فعلًا وبحلول عيد الميلاد من ذات العام، كانت قد كتبت 37 قصيدة، حيث كانت تتعلم الكتابة خلال الكتابة نفسها، لتُخرِج تجربتها في مجموعة متنوعة من الأشكال الشعرية.
بعد ثلاث سنوات فقط نشرت كتابها الأول بعنوان Bedlam and Part Way Back 1960، وهي قصائد ذات مواضيع مباشرة حيث تعاملت بشكل رئيسي مع تجربتها مع المرض العقلي والحياة، والتي كانت في ذلك الوقت محرمة.
ما حاولت آن تحقيقه من خلال كتابة الشعر كان شكلًا من أشكال الشفاء الذاتي، وهي وسيلة للتعبير عن المشاعر المكبوتة بناءً على تجاربها في حياتها الخاصة، لكنه سيُحكم دائمًا وللأسف على أعمالها في ظل أنّها كتبت عن حياتها الخاصة والحميمية كالإجهاض، الحيض، إدمان المخدرات، الأدوية، الجنس، الخيال الجنسي، الدين، الانتحار، الإساءة الأسرية والموت، لقد كتبت عن كلّ ذلك بشجاعة وبصوت هوسيّ مفرط، كان الأمر كما لو كانت آن تعرض حياتها كلها من خلال فنها، مستكشفةً الجانب الأكثر قتامة من اللاوعي لديها.
يمكن اعتبار شعر آن سكستون شكلًا من أشكال الاعتراف كما فعلت صديقتها سيلفيا بلاث فكتبت عن خطاياها كما تصورتها وعن مرضها العقلي وأنوثتها وأمومتها ومزجت كلّ ذلك وكأنها بحاجة إلى الخلاص حقًا، وهنا يبدو تأثير المرض النفسي وعلاقتها الداخلية بها وحاجتها للخلاص منه، ولكن مشاركة آن للقارئ هذه التجارب إنما هي أيضًا مساعدة لمن يعيشون ظروفًا مشابهة، لتنتحر آن في النهاية اختناقًا في مرآب منزلها بعد غداء روتيني مع صديقتها القديمة الشاعرة ماكسين كومين وكأنّ الأمر هو فعل روتيني تمامًا.
إرنست همنغواي – العديد من التفسيرات وانتحارٌ واحد
يبدو أن قول الكاتب الأميركي إرنست همنغواي: “إن أفضل ما يمكن أن يحدث للكاتب هو أن يعيش طفولة غير سعيدة” هو انعكاس بشكل ما لما سيكتبه لاحقًا ولاضطراباته النفسية المعقدة، فالطفل الذي رافق والده في الصيد سيفتخر أنه قتل في عمر صغير قنفذًا بوساطة الفأس وسيهديه والده في عيد ميلاده العاشر بندقية!
ورغم أن آخر أمنيات صاحب “الشيخ والبحر” أن يحلل المرء أعماله بدلًا من جرائمه الوجودية إلّا أن المحللين النفسيين والنقاد سيلاحقون المصارع والمقاتل السابق واضعين الخطوط تحت جرائم وجوده وأثر طفولته وانفعالاته النفسية في مخطوطاتها والتي ستكون كثيرة، فهمنغواي حرص على نقل العديد من تجاربه في الحرب والحياة إلى أعماله، لكن ما الرابط بين اضطرابه النفسي وأعماله؟ ربما يبدو الوضع مختلفًا لدى همنغواي، فالرجل الذي شُخّص بدايةً باضطراب ثنائي القطب وهو مرض المبدعين، لن تكون الأمور بهذا الوضوح على الدوام فعندما عاد من رحلاته من كوبا وإسبانيا لم يكن على ما يرام لا جسديًا ولا نفسيًا وكان يتوهم أنه سيموت من السكري وكان قد بدأ فعلًا بفقدان النظر وعولج بالمهدئات لكن حالته ساءت فتعرض للصدمات الكهربائية بعد مدة، كانت الصدمات الكهربائية في تلك المرحلة ذات أثر سيء وتسببت في فقدان الذاكرة وفور عودته للبيت قام بالانتحار لأنّه ظن أنّه نسي كلّ شيء، لاحقًا وفي عام 1991 ستظهر سجلات همنغواي الطبية وستٌبين أنه كان يعاني من نقص صباغ الدم (الذي تم تشخيصه عام 1961) ، وهو مرض وراثي يتسبب في أضرار جسدية وعقلية شديدة. هذا المرض يمكن أن يفسر حالات الانتحار العديدة في عائلة همنغواي (والده وأخوه وأخته وحفيدته مارجو همنغواي) لكن وفي كتابه “دماغ همنغواي”، يدحض أندرو فرح، رئيس قسم الطب النفسي بجامعة نورث كارولينا، نظريات سابقة مفادها أن همنغواي كان يعاني من اضطراب ثنائي القطب أو اكتئاب هوسي أو حتى تراكم فائض من الحديد، فمن خلال مراجعة السجلات الطبية والمذكرات والسير الذاتية وحتى أسلوب الكتابة المتغير في همنغواي، ركز أندرو على تسع صدمات كبيرة في الرأس تعرض لها الكاتب الأميركي، أولها في إيطاليا خلال الحرب العالمية الأولى عندما سقطت قذيفة قريبة جدًا من همنغواي، وهنا تظهر فرضية جديدة أو ما يسمى بالاعتلال الدماغي المزمن سببه الضربات المتكررة على الرأس وهو مرض يسبب لاحقًا الاكتئاب والذهان، وإن ما تتبعنا هذه النظرية وحسب الجرد الذي قام به الكاتب فيليب دجيان فإن همنغواي تعرض لحوالي اثنين وثلاثين حادثًا ما بين حادث سيارة، صيد، قارب، مصارعة.
وهكذا تظهر الكتابة وأسلوبها كطريقة للتعمق أكثر في المرض النفسي وكشفه حتى ولو بعد سنوات طويلة، وقد لا يكون الأمر بهذا الوضوح دومًا فعلاقة المرض العقلي والكتابة لدى همنغواي تعرضت للعديد من النظريات التي قد تكون ربما غير صحيحة ولكنها تحيلنا إلى أنه لا منأى من تحليل الكتابة للوصول إلى عقل صاحبها في بعض الأحيان.
سارة كين- المرض العقلي غالبًا ما يكون عاطفيًا
في الوقت الذي عُرضت فيه مسرحية “ذهان 4.48” على مسرح رويال كورت في لندن، كانت سارة كين قد ماتت انتحارًا حيث قتلت نفسها في مستشفى كينجز كوليدج، جنوبي لندن، بعد ثلاثة أيام من محاولة انتحار سابقة. يبدو أن المسرحية نفسها تنبأت بالأحداث بدقة خارقة عبر سلسلة متتالية من التشظيات والعذابات، والمشاعر المكسورة والركود العاطفي، مصورةً عقلًا يعاني آلام الانهيار، ثائرة ضد الأطباء الذين لن يفهموا ما تعيشه الكاتبة الشابة المنهارة، ورغم انزعاج النقاد من المسرحية الذين تساءلوا إن كانت حقًا مسرحية؟ فهي بالنسبة للعديد منهم مذكرة انتحار مدتها 75 دقيقة دون أي نقاط جمال حقيقية.
أمّا بالنسبة لأخيها سيمون كين فكانت الأمور أكثر تعقيدًا، حيث يقول: “في ذلك الوقت، آخر ما كنت أود أن أقوله هو أنها مذكرة انتحار، كنت أعلم أن الأمر لم يكن كذلك، هذه هي النقطة، لكن سارة قتلت نفسها، وكانت تكتب مسرحية حول ما تشعر به حين تكون مكتئبًا”. يضيف سيمون أنّه كان من الأهمية بمكان أن تظهر كين الاكتئاب بدقة، ويضيف: “إن المرض العقلي غالبًا ما يكون عاطفيًا، أو يصور على أنّه جنون – أكره هذه الكلمة”.
“ذهان 4.48” هي تحفة فريدة من نوعها سواء في الشكل أو المحتوى، مركبة ومعقدة نفسيًا وشكليًا، لكنها أيضًا عبّرت عن أعمق معاناة للإنسان عبر النكتة المشوشة والومضات الشعرية بالإضافة إلى أنها تحوي تذبذبًا بين المونولوجات الداخلية والحوارات الوهمية مع الطبيب مع تشريح عميق للشخصية، أفكارها، عواطفها، استنكار استحالة دمج العقل والجسم.
لا يمكن وصف قطعة أدبية تصف الاضطراب العقلي كهذه المسرحية فهي لبّ الاكتئاب حيث خرجت منه وحتى لو لم يكن في نيّة سارة الانتحار بعدها إلّا أنها كانت نبوءة، إنّها مسرحية رسم الاضطراب النفسي حدودها بدقة حيث امتزجت الكتابة والاكتئاب في أقسى صورهما.
مارك توين – الاضطراب النفسي والسخرية
خلف الوجه الفكاهي للكاتب الأميركي مارك توين كان هنالك وجه آخر، ينتظر ليظهر في وقت ما، وكأنّ كلّ مؤلفاته الكوميدية ستخلص إلى حزن لا ينتهي، حزن يخفي خلفه اكتئابًا، وربما تلك السخرية هي التي أنقذته من الانتحار فعلى الرغم من أنه عانى من اضطرابات نفسيّة عديدة ومن فقدان زوجته وأطفاله إلّا أن الكاتب الأميركي لم ينتحر بل مات بأزمة قلبية.
كان مارك توين أحد أكثر الكتّاب قراءةً على نطاق واسع على الرغم من ميله نحو الاكتئاب وغيره من الأمراض العقلية وخاصة بعد وفاة زوجته وأطفاله الثلاثة، يقال إنّه في مرحلة من حياته عاني توين من نوبات قوية من جنون العظمة، وقد تعرض لفترات طويلة من الإحباط، والذي حاول أن يخففه بتدخين السجائر والقراءة، وعلى الرغم من أن توين كان أحد أكثر العقول الأدبية الثرية في عصرنا، إلّا أنه عانى من اضطراب ثنائي القطب وغيره من الاضطرابات العقلية خاصة في سنواته الأكثر إنتاجًا كما شخّصه الأطباء حينها، الربط بين فترات اضطرابه النفسي وكثافة إنتاجه يحيلنا إلى التفكير بأن هذا الرابط الخفي يمكن أن يظهر حتى في المؤلفات الكوميدية والساخرة حيث وظف توين عبقريته في نقد مشاكل في المجتمع والسلطة.
ج. ك رولينغ – لم أخجلْ أبدًا من الاكتئاب
إحدى أشهر الكاتبات اللاتي أُصبن بالاكتئاب في العصر الحديث هي ج. ك. رولينج، صاحبة سلسلة “هاري بوتر” الشهيرة. كافحت رولينج مع الاكتئاب كأمّ وحيدة مكسورة قبل أن تحصد نجاحًا عالميًا من خلال سلسلة هاري بوتر، مستندةً إلى المشاعر القاتمة لتخلق مخلوقاتها، إنها ذات المخلوقات التي ابتلت بها، لكن حتى الشهرة والثروة لم تشفِ اكتئابها تمامًا. تؤكد كتابات رولينج أن إخبار الناس بالاكتئاب قد يكون أحيانًا وسيلة للوصول إلى المساعدة والشفاء.
وبناءً على نصيحة طبيبها النفسي بدأت رولينج بالعلاج السلوكي المعرفي، وبعد تسعة أشهر تغلبت على أفكارها الانتحارية والاكتئاب، خلال هذه الفترة، أخذ اكتئابها منعطفًا مظلمًا، واعتبرت نفسها فاشلة، شعرت أنها عالقة، جاءت فكرة سلسلة هاري بوتر قبل سنوات في رحلة بالقطار من مانشستر إلى لندن وكانت قد كتبت مسبقًا بضعة فصول في البرتغال، لكنها عثرت على زخم الكتابة في المملكة المتحدة واتخذت من مرضها العقلي إلهامًا استوحت منه الخرافات المكتوبة في السلسلة وفي الحقيقة كانت سلسلة “هاري بوتر” طريقًا ساعد على التغلب على الاكتئاب الذي شلّ حياتها تمامًا.
الأم العزباء العاطلة عن العمل تقدمت بطلب للحصول على إعانات الرعاية للمساعدة في رعاية ابنتها البالغة من العمر عامًا واحدًا، متخذة من الكتابة الخطوة الأولى لمواجهة مرضها، لم تملك سوى الآلة الكاتبة وابنتها واكتئابها لتبدأ في الحكاية الشهيرة للصبي “هاري بوتر” وبدأت بتوجيه كلّ طاقتها واكتئابها لتروي تلك الحكاية الساحرة، تقول إن الدموع بدأت تتدفق وهي تمشي في غرفة الجلوس الصغيرة حيث وضعت القلم لأول مرة على الورق، “وهكذا أصبح الحضيض أساسًا قويًا أعيد بناء حياتي عليه”.
خلال هذه الفترة المحبطة أنهت روايتها الأولى وقدمتها للنشر حيث رفضها حوالي اثني عشر ناشرًا، “لقد ظننت أنني أريد أن أكتب، فكتبت الكتاب. ما أسوأ ما يمكن أن يحدث؟ يمكن أن يرفضها كلّ ناشر في بريطانيا!”.
رولينج واحدة من الكتاب الذين تحدثوا عن مرضهم النفسي علانية لأنّها أرادت محاربة وصمة العار المرتبطة بالمرض العقلي “لم أخجل من الاكتئاب، أبدًا. ما الذي يجب أن نخجل منه؟ لقد مررت بوقت عصيب حقًا وأنا فخورة جدًا بأنني خرجت من ذلك”.
بودلير – من أين تأتي هذه الطاقة المجنونة؟
لمدة عشرين عامًا من حياته، كان بودلير مدمنًا وحاول قتل نفسه أكثر من مرة، وعند دراسة حياته نلاحظ أنه كان يعاني من لعنة ما، وحول هذا يقترح العديد من كتاب السيرة الذاتية أن هذا جاء إثر معاناة من أمراض نفسية أو إدمان أو وجود كلّ هذا ولكنهم يظنون أن اللعنة الأساسية التي عانى منها هي اضطراب ثنائي القطب ولأنّه وحتى التسعينيات أخطأ الأطباء النفسيون في تشخيص هذا المرض وخلطوه مع الفصام أو الجنون. عاش بودلير الشاعر الملعون حياة سيئة وحزينة ابتداء من موت والده وهو في سن السادسة وتزوج والدته من رجل آخر لكن مشكلته الأساسية تتمثل في حياته البوهيمية التي أنفق فيها الكثير من المال حتى اضطرت والدته للجوء إلى القانون لوضع محام يتحكم في المصروف الشهري لبودلير حيث عاش على 200 فرنك شهريًا وهذا ما سيجعله غاضبًا على الدوام من والدته، أمّا المشكلة الأخرى فهي إدمانه على الكحول والأفيون ليعيش داخل حلقة مفرغة من الحاجة إلى المال ثم الحصول عليه لشراء الأفيون ثم حاجته مرة أخرى إلى المال ومن ثم الاكتئاب طيلة حياته، وبالتركيز على علاقته بوالدته والتي كانت سببًا من أسباب عدم استقراره فقد كانت تلك العلاقة القوية قبل زواج والدته الثاني تمنح الطفل بودلير الاستقرار والقوة وبعد زواجها لن تكون حياته هي نفسها مرة أخرى وسينعكس ذلك على علاقته بجميع النساء فقد أظهر دومًا عدم رضاه عن النساء، “عندما يكون لديك ابن مثلي، لا يجب أن تتزوجي مرة أخرى”.
النقطة الخاصة في حياة بودلير النفسيّة أننا لا نملك أي إثباتات حول اضطرابه النفسيّ وكلّ ما كُتب وسيكتب هو بناء على قصائده وحياته الخاصة، أمّا ملامح اضطرابه العقلي فتؤكدها علاقاته الجنسية الكثيرة حتى بعد إصابته بعدد من الأمراض التناسلية، إلّا أن بودلير تابع علاقاته بشكل مبالغ فيه غير مبالٍ بالعواقب وهذا ما قد يكون أحد أعراض الهوس كما يرى الأطباء.
أما النقطة الأساسية والتي تتعلق باضطرابه فهي تظهر من خلال كتاباته، ففي أحد نصوصه المعنون “صانع الزجاج الكريه” يصف بدقة أعراض اضطراب ثنائي القطب وتناوب حالته بين الهوس والاكتئاب، بين الطاقة العالية والأفكار المتقدة والحياة المنطفئة.
“لا يستطيع الأخلاقي والطبيب، اللذان يدعيان معرفة كلّ شيء، أن يفسرا من أين تأتي هذه الطاقة المجنونة فجأة من الأرواح الكسولة، وكيف أنها تعجز عن إنجاز أبسط الأشياء وأكثرها ضرورة، وتعثر في لحظة ما على شجاعة مسرفة لتنفيذ أكثر الأعمال عبثية وأخطرها في كثير من الأحيان”- في هذا المقطع يصف بودلير من دون قصد الانتقال من مرحلة الاكتئاب إلى مرحلة الهوس، حيث يقوم بكثير من التصرفات غير المفهومة والخطيرة حسب قوله، أما في حياته الطبيعية فتُظهر العديد من خطاباته إلى والدته بعض الأفكار الساذجة والعبثية التي تدل على مروره بمرحلة الهوس كأن يقول لوالدته أنه سيتقدم إلى الأكاديمية الفرنسية وهذا ما كان مجرد فكرة هوسية أخرى.
مصادر:
La double vie de Baudelaire: le trouble bipolaire et la dépendance à l’opium\ Kristen Murphy\ University of Rhode Island
5 writers who suffered from mental illnesses & the impact it had on their art\ kim Maccann\ the airship
8 Famous Writers With Depression\ Madeline R. Vann, MPH\ every day health
13 Quotes About Depression and Overcoming It\ LANA BARHUM\
7 Famous Writers Who Lived with Mental Illness\ Hannah Blum\
10 Brilliant Writers Who Were Mentally Disturbed\ brainz
5 Books Written by Authors in the Grip of Mental Illness\ Jeff Somers
Female writers and mental illness\ Flossie Waite\ voice
9 Famous Authors Who Did Stints in Mental Institutions\ Emily Temple
Suicide Is Not an Act of Cowardice\ KEN WHITE\ The Atlantic
A NAUSEA OF THE CELLS AND SOUL: HOW INFINITE JEST ILLUMINATED DEPRESSION AND SUICIDE\ the overgrown
Anne Sexton and the Poetry of Mental Illness\ Andrew Spacey\ Owlcation
‘The strange thing is we howled with laughter’: Sarah Kane’s enigmatic last play\ Andrew Dickson\ the guardian
How JK Rowling overcame depression and rejection to sell over 400 million books\
مجلة ضفة ثالثة