**مع الأديب محمود شقير وكتاب:( رام الله التي هناك)*.
************************
بقلم: عبد السلام العابد
أعرف الأديب محمود شقير، من خلال مقالاته، وكتبه الأدبية المنشورة، منذ بداية تعلقي بالقراءة والكتابة، بداية الثمانينيات من القرن الماضي ، وكان لي الشرف بمعرفته، بعد عودته إلى الوطن، حيث كان قد أبعده الاحتلال عن فلسطين،في السبعينيات، وكان من أوائل أفواج العائدين، ولدى التحاقه بالعمل في وزارة الثقافة، تواصلت معه، وتعرفت عليه، وكنت أجري معه لقاءاتٍ حوارية ، في برامجي الثقافية الإذاعية ،( إضاءات أدبية)، و(حصاد الكلمة)، و( من بيدر الحياة )، وغيرها، عبر صوت فلسطين.
الكتاب الذي نشره أديبنا محمود شقير والذي حمل عنوان:( ظلٌّ آخر للمدينة ) أعجبني حقا، وحاورت مؤلفه حول مضامينه، وقرأت في برامجي الثقافية فقراتٍ مختارة منه، وفي كتابه ( مديح لمرايا البلاد ) ذكر الكاتب أنه أستمع إلى هذه الفقرات التي قرأتها من كتابه ، أثناء قيادته لسيارته في القدس، بصحبة أبيه.
لقد قرأت جُلّ ما كتبه الأديب محمود شقير، سواء في مجال القصة القصيرة، والقصة المكثفة، والمقالات، واليوميات، وقصص الأطفال والفتيات، والرواية، والمسرحيات.
آخر كتاب قرأته لأديبنا حمل عنوان:( رام الله التي هناك )، وهو سيرة ذاتية للفتيان والفتيات، ويستمتع به الكبار أيضا.
والقاريء لهذا الكتاب يعرف أن مدينة رام الله تتبوأ في قلب أديبنا مكانة عالية من الحب والشوق والحنين ، تماما كما تتبوأ القدس ، يكتب في الصفحة الأولى: ( تسكنني تماما مثل القدس. رام الله هي مدينتي الثانية بعد القدس ) .
لقد تعرف على رام الله، عندما كانت مدينة جميلة هادئة، وهو فتى في السادسة عشرة من عمره ، فانبهر بجمالها، وهو الفتى الصغير الذي لم تكد عيناه تتفتحان على الكون الواسع. كان يصحب أباه الذي كان يعمل في شق شارع بين رام الله وإحدى قراها.
يعود بنا الكاتب إلى عام ١٩٥٧م ، فيقص علينا بطريقته السردية الشائقة حكاية زيارته الأولى للمدينة مع أبيه وأقاربه الذين كانوا يعملون معه في شق الشوارع ، كان أبوه يركب حمارا ، وهم يتبعونه، متوجهين إلى قرية عين عريك المجاورة، حيث كان الفتى يعمل في العطل الصيفية، مقابل بضعة دنانير في الشهر . وفي العام التالي ، يستقر به المقام في خيمة بالطيرة، ويتذكر الليالي التي أمضاها في هذه الخيمة، وهم يواجهون العقارب والزواحف. ثم راح الفتى يتجول في شوارع رام الله (ذات الأسرار المثيرة للفضول )دون علم أبيه الذي كان يرتاح حينما يرى ابنه محمودا يحمل كتابا ويقرأ فيه .
ويتذكر أديبنا بشوق وحنين تلك الأيام التي تخرّج فيها ، وحصل على شهادة المترك عام ١٩٥٩، حيث تم تعيينه معلما في قرية خربثا بني حارث، وأمضى فيها أربع سنوات ، مكنته من التعرف على أهلها ( الذين كانوا ينطوون على طيبة وكرم ).
ورغم سروره بسكنه في هذه القرية الوادعة، إلا أنه كان يشعر بالعزلة، فاستثمر أوقات الفراغ بقراءة الروايات والقصص ،إلى أن تعرف على مجلة ( الأفق الجديد ) التي ( وسّعت الأفق أمام ناظريه، وأمدّته بحوافز، ما زال أثرها ماثلا في حياته حتى اليوم ) . وَجَدَ نسخا من هذه المجلة في مكتبة المدرسة ، وقرأ ما فيها من قصائد وقصص ، وتحمّس للكتابة فيها.
أتوقف هنا؛ لأشير إلى أهمية المكتبة المدرسية ، ودورها الكبير في توفير الصحف والمجلات والإصدارات الجديدة للطلبة ، ولا سيما إذا كانوا موهوبين .ويبدو أن هنالك تقليدا حميدا لدى وزارة التربية، في تلك الفترة ، بتخصيص أموال لشراء الكتب والاشتراك في المجلات الثقافية .أذكر أنّ هنالك حصة مدرسية كانت مخصصة للقراءة في المكتبة ، وقد رأيتُ بعيني أعدادا قديمة من مجلات (الأفق الجديد) و(الأديب) و(العربي) ، في مكتبة مدرستنا في أواخر السبعينيات من القرن الماضي ، وكنت أقرؤها بشغف. وليت حصة المكتبة تعود لمدارسنا من جديد؛ لتكون منبعا ثرا للثقافة والوعي!!.
ونعود لنتابع سيرة أديبنا، وذكرياته مع مجلة( الأفق الجديد ) ، فبعد عدة محاولات ، تمكّن الشاب محمود شقير من نشر أولى قصصه فيها عام ١٩٦٢، وحملت عنوان:(ليل ولصوص ) وفيها وصف لهجوم الاحتلال الغاشم على جبل المكبر عام ١٩٤٨م.وتتابعت بعد تلك القصة مشاركاته القصصية في المجلة، وكان لوجوده في هذه القرية أثرٌ كبيرٌ في قصصه التي كتبها. ولا سيما قصة ( الفتى الريفي )التي تحدثت عن فتى حقيقي يعرفه الكاتب ، ذهب إلى مدينة رام الله؛ ليستمتع في أجوائها الجميلة. والحق أن قصة هذه القصة حفّزتني للرجوع إلى مجموعة ( خبز الآخرين )، وقراءة القصة المذكورة ثانية والاستمتاع بها .
في القصة جمالٌ في سرد التفاصيل، وتتابع الأحداث، ورسم الهواجس والأفكار التي تدور في ذهن فتى حصل على عدد من الدنانير ، من كدّ تعبه في موسم الزيتون ، وأراد أن يستمتع في رحلة يقوم بها إلى مدينة رام الله الجميلة .ولكن أنّى له ذلك ؟ ووالده يراقب سكناته وحركاته؟!. فكان على الفتى الذكي البريء أن يتحايل، ويراوغ؛ ليحقق هدفه . يركب الباص الوحيد مع أهل قريته، ويتجول في أسواق المدينة، ويشتري ملابس جديدة ، ونظارات، ويحاول استئجار دراجة ، ويشتري ما طاب له من حلويات، ليتفاجأ مساء بأن الباص عاد إلى القرية ، فكان عليه أن يستأجر سيارة ، ويعود إلى بيته، ليجد أباه ينتظره والشرر يتقادح من عينيه، فكانت علقته سانحة!! . إنها قصة رائعة حقا، وتشير بوضوح إلى تميز أديبنا محمود شقير في القصة القصيرة ، منذ بداياته الأولى.
وعمل محمود شقير أيضا في المدرسة الهاشمية الثانوية، في البيرة ، حيث أمضى فيها ثلاث سنوات ماتعة ، تعرف فيها على أشياء كثيرة، وأصدقاء وعالم السياسة والثقافة والأحزاب .
ويتابع أديبنا في الصفحات التالية علاقاته الممتدة الجذور في رام الله قبل الاحتلال عام ١٩٦٧م، وبعد الاحتلال، وتعرضه للملاحقة، والاعتقال والإبعاد عن البلاد ، عام ١٩٧٥م .
وبعد عودته إلى الوطن عام ١٩٩٣م ، تجدّدت علاقته الوطيدة مع رام الله، وراح يزور الأماكن التي كانت له فيها ذكريات دافئة، لكنه لم يزر سجن رام الله الذي كانت تحتجزه فيه سلطات الاحتلال، وله فيه ذكريات مريرة.
ويتذكر سنوات عمله ، في وزارة الثقافة برام الله، والبرامج والأنشطة الثقافية المتعددة التي كان يشارك فيها ، ولقاءاته مع المثقفين والأدباء والأصدقاء الذين منهم مَنْ توفاهم الله، ومنهم مَنْ ما زالوا يتابعون مسيرة العطاء، وهذا ما نتعرف عليه أكثر في كتاب يومياته الجميل:( مديح لمرايا البلاد ).
ورغم ما تتعرض له رام الله من اتهامات ظالمة، من بعض الأطراف ، إلا أنها ظلّت المدينة التي أحبّها أديبنا محمود شقير، وسيبقى يحبها على الدوام .
ونختتم كتاب ( رام الله التي هناك) بكلمات الأديب محمود شقير : ( ولا أتوقف عن تأمل أيامي فيها ، وأثناء ذلك، يتردّد في ذهني صدى تلك الأيام ، وما حفلت به من أنشطة ثقافية وحوارات …..إنّه الصدى الحميم الذي ينم عن أيامٍ حافلة ، في مدينةٍ كانت وما زالت تُغدق علينا من غناها غِنى وتجددا وبهاء.إنّها مدينةُ الصّبا والشباب ، مدينةُ الأحلام الكبيرة والأمنيات…إنّها رام الله).