كلّنا عنصريون
بقلم: أنور الخطيب
ما بين العنصرية بوصفها تمييزاً وبين الوطنية بوصفها افتخارا بالانتماء خيط رفيع جدا، وما بين تعزيز الحكومات لقيمة الانتماء بين المواطنين وبين دفعهم ليكونوا عنصريين مساحة أشبه بالظل، وعدم إدراك خطورة هذا الخيط وذاك الظل جعل الناس وطنيين يمارسون العنصرية وأشكالها من تمييز وإحساس بتفوّق أعراقهم، كما جعلهم عنصريين وهم يمارسون حبهم لوطنهم وتعبيرهم عن فخرهم بانتمائهم لبلدهم. المقاربة ذاتها يمكن العثور عليها لدى المجتمعات العشائرية والقبلية، كأنهم لم يسمعوا بالحديث الشريف :(يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى..).
كتبت قبل سنوات طويلة مقالا بعنوان (بين العنصرية والوطنية) نشرته في صحيفة خليجية كنت أعمل فيها، ضربت فيه مثالا حيّاً عن الفرق بين العنصرية كتمييز والوطنية كإنتماء. وبما أن دول الخليج تحتضن جنسيات عربية كثيرة تعمل على أراضيها، فإن الأم تنبّه ابنها قبل ذهابه إلى المدرسة لأداء الامتحان: (لا تجعل المصري/ السوري/ الفلسطيني/ العراقي/ السوداني/ الجزائري/ وبقية الجنسيات، أن يتفوّق عليك في المدرسة)، وفي المقابل تقول الأم الخليجية: (لا تسمح للوافد “غير الخليجي” أن يكون أشطر منك..)، طبعاً هناك استثناءات، وسقتُ أمثلة أخرى عن المساحة القليلة التي تفصل العنصرية عن الوطنية ونتحرك فيها من دون وعي. وفي اليوم التالي استدعاني رئيس التحرير وقال: (أنت تنشر غسيلنا الوسخ يا أستاذ)، فأخبرته بأن ما ذكرته حقيقة مؤكدة، فأجاب: (ليس كل حقيقة يمكن نشرها). والحقيقة التي ربما أشار إليها سعادته هي (كلنا عنصريون بدرجة أو بأخرى).
”وهنا يمكن الإشارة إلى سقوط القيم نسبيا في العالم المتحضّر الذي يحارب العنصرية“
وفي قصص أخرى حديثة، وبعد ظهور وباء فيروس الكورونا، اشتكى صينيون يقيمون خارج الصين، في أوروبا وأمريكا والدول العربية من التمييز والتنمّر، لاعتقاد الناس أن الصينيين هم من نشر الفيروس في العالم، وأن كل صيني يحمل الفيروس. وهنا يمكن الإشارة إلى سقوط القيم نسبيا في العالم المتحضّر الذي يحارب العنصرية، إذ هذا الصيني الذي يمارسون العنصرية ضده أو يتنمّرون عليه يعيش منذ سنوات طويلة في الخارج، وقد يكون وُلد خارج الصين ولم يزرها، ويحمل الجنسية الأوروبية أو الأمريكية وغيرها، إلا أن شريحة من الناس، وبكل غباء وجهل ربطوا بين الصيني والكورونا، وأصبح الصيني يعني كورونا. هو الجهل ذاته مورس في الوطن العربي ضد الصينيين وضد كل من أُصيب بالكورونا، وبات الناس، لقلة وعيهم، ينظرون إلى المصاب كأنه ارتكب جريمة ويجب قتله أو سجنه أو نفيه، وقد حدث أن طُردت عائلات كثيرة من بيوتها في العالم العربي بسبب إصابة فرد فيها بالكورونا، ومُنعت عائلات كثيرة من دفن موتاها في مقابر البلدات.
وهذا يقودنا إلى مسألة ذات صلة، فحين يشعر الإنسان بالخطر فإنه يتحوّل إلى عنصري، ويقوم بالتعميم، فإذا شتم فلسطيني أحد السياسيين العرب، يتحول الفلسطينيون جميعا إلى شحاذين وتافهين وحقيرين وكل الأوصاف القبيحة، والعكس صحيح.
”احتلت الصهيونية العالمية فلسطين (لأنها أرض بلا شعب) رغم وجود الشعب بتاريخه وحضارته، بل إن عصابات الهاجاناه بقيادة بيغن سهّلت ارتكاب المذابح أمام عناصرها وعبأت رؤوسهم بعنصرية مقيتة بأن الفلسطينيين أنصاف بشر. وتعلّم الصهاينة هذا البطش من أسيادهم الأمريكان الذين ارتكبوا مذابح بالهنود الحمر“
العنصرية تسود العالم منذ بدء الخليقة، وأكاد أجزم أن الحروب نشبت بسببها، تمييز عرقي، وديني، ولوني، وقد خاضت أوروبا حروبها الاستعمارية سابقا بشعار عنصري يقول (عبء الرجل الأبيض white man’s burden ) في تحضير وتمدين الأمم الأخرى، وكان هذا الشعار يخبئ أطماعاً سياسية لتوسيع رقعة الإمبراطوريات وسرقة خيرات الشعوب الأخرى، فقد سال لعاب الإنجليز سابقا للبهارات الهندية فاحتلوا الهند لأن البهارات كانت أغلى من الذهب، ولا يزال الهندي إلى يومنا هذا يتعرّض للتمييز والتنمّر في مجتمعات كثيرة عربية وغير عربية، ناهيك عن الأطماع الأخرى، واحتلت الصهيونية العالمية فلسطين (لأنها أرض بلا شعب) رغم وجود الشعب بتاريخه وحضارته، بل إن عصابات الهاجاناه بقيادة بيغن سهّلت ارتكاب المذابح أمام عناصرها وعبأت رؤوسهم بعنصرية مقيتة بأن الفلسطينيين أنصاف بشر. وتعلّم الصهاينة هذا البطش من أسيادهم الأمريكان الذين ارتكبوا مذابح بالهنود الحمر، أما تجارة العبيد واستعباد الأفارقة فالتاريخ مليء بالأحداث والشواهد والقصص، وحتى وقت قريب كان السود يتعرضون للتمييز المباشر في الولايات المتحدة الأمريكية. وهتلر جيّش شعبه بفكرة أن الدم الألماني يختلف عن بقية دماء الشعوب الأخرى ويحق له اجتياح أراضيها. هذا هو عبء الرجل الأبيض الذي غيّر شعاره واستبدله بـ(نشر الديمقراطية ومحاربة الدكتاتوريات)، فدمّر في الأمس القريب، بلاداً كاملة وقتل وهجّر ملايين البشر ليصنع الديمقراطية، بينما عينه على النفط العربي وإضعاف الشعب العربي ليبقى الكيان الصهيوني متفوقاً.
لقد حاول الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر، نشر القومية وجمع شمل أبناء لغة الضاد، وتحقيق العدالة الاجتماعية وتحرير الفلاحين والفقراء من الإقطاعيين وتأميم المؤسسات والشركات الوطنية، لكنه حورب بدعوى أن القومية ضد الدين، وفي خطاباته المبكرة كان يعلّق على هذا الأمر بالقول: (هل الدين ضد العدالة الاجتماعية، هل الدين ضد إزالة الفوارق بين الناس، هل الدين هو استعباد الفلاحين؟)، وظلّ عبد الناصر يتصدى لذاك الفكر حتى قُتل (بعض القصص يقول بأن أعداءه وضعوا له السم فمات). بينما الصراع لم يكن بين القومية والدين، بل على زعامة المنطقة العربية، ولا يزال الصراع قائما حتى اليوم.
”في عالمنا العربي، فإن الأحزاب تمارس العنصرية بأشكال قبيحة، كأن تستخدم ورقة التخوين والفساد والسرقة ضد الأحزاب الأخرى، وغالبا ما تكون صادقة، إلا أنها تمارس شكلاً من أشكال العنصرية البغيظة“
والباحثون عن الزعامة والساعون إليها يقعون في ممارسة العنصرية من دون وعي، أو بقصد أحيانا، للتقليل من شأن منافسيهم، فحتى في الولايات المتحدة، الدولة التي تدعي الديمقراطية، يمارس أعضاء من الحزب الديمقراطي العنصرية على أعضاء من الحزب الجمهوري ليكسبوا أصوات الناخبين. أما في عالمنا العربي، فإن الأحزاب تمارس العنصرية بأشكال قبيحة، كأن تستخدم ورقة التخوين والفساد والسرقة ضد الأحزاب الأخرى، وغالبا ما تكون صادقة، إلا أنها تمارس شكلاً من أشكال العنصرية البغيظة، وبعض الأحزاب، وحتى يظهروا كوطنيين، فإنهم يتحولون إلى عنصريين حتى النخاع، كأن يصف أحدهم الفلسطينيين بالزعران، أو أن يطالب أحدهم بقطع الكهرباء عن المخيمات الفلسطينية، أو يمنع زوجة الفلسطيني من منح ابنها الجنسية أو حقوق التعليم والطبابة. بل إن بعض الدول تمارس العنصرية ضد الفلسطينيين بمنعهم من العمل، ولم تحاول تغيير قوانينها حتى اليوم خوفاً من التوطين أو إحداث خلل في التوازن الطائفي، متناسين أن المحافظة على النظام الطائفي هو محافظة على نظام عنصري، ولا علاقة لذلك بالمحاصصة وغيرها.
على الرغم من انتقال الدول من الأنظمة العشائرية والقبلية والباشوية والبيكوية إلى أنظمة الدول المدنية، التي تُدار بدساتير متطورة وقوانين حديثة، إلا أن العقلية العشائرية لا تزال تتحكم في مفاصل الدولة المدنية، وتغوّل هذه العقلية في مؤسسات الدول جعل الناس تبحث عن جذورها وتدّعي أنها تنتمي إلى عائلات كبيرة، وكثيرون اجتهدوا ليثبتوا أن نسبهم يعود لآل البيت، أو أحد الصحابة أو الخلفاء، وهذه الجهود، إضافة إلى أنها تظهر حجم العنصرية لدى الناس، فإنها تعكس ضعف الشخصية والذات الإنسانية، فهي لا تجد قيمتها إلا في الانتماء إلى عائلة كبيرة أو شريفة، وليس في ثقافتها وعلمها وإنسانيتها.
العنصرية متفشية في العالم بتوحّش، وما يجعلها مستترة في بعض المجتمعات هو تطبيق القانون وفرض الغرامات، وأعني الدول الغربية، وجميعنا لمس العنصرية ضد المسلمين والعرب بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 على أثر تفجير برجي مركز التجارة الدولية في مانهاتن في تيويورك، أما في الدول التي لم تسن قوانين ضد العنصرية، رغم وجود المساواة بين المواطنين في الدساتير كلها، وأعني الدول العربية القبلية الباشاوية البيكوية، فإنها عنصرية حتى النخاع، ولا بد من حملات وقوانين الدساتير، لمواجهتها.
كلنا عنصريون؟ نعم، لأننا لا نفقه الخيط الفاصل بين العنصرية والوطنية، والغريب في الأمر أننا دول تابعة للآخر في كل شيء، في اقتصادها وتجارتها وحمايتها وسياستها، ورغم ذلك (نتفرعن) على بعضنا البعض. وأخيرا، رحم الله امرئ عرف قدر نفسه فوقف عنده.