بين سجنٍ وآخر
بقلم: سوسن بُنّي
تشابهت الأيام فيما بينها .. لم نعد نميز الأحد من الإثنين .. الشوارع لم تعد مزدحمة كالمعتاد .. الصباح هادىء جدا إلى درجة مملة .. و أضواء المدينة باتت خافتة ليلاً .. و لا سبيل لك في الذهاب إلى أي مكان ، اجراءات حظر ٍصارمة فُرضَت علينا .. أُغلقت المحلات و المولات .. و أسلوب حياة جديد لا علم لنا بصلاحية انتهائه .. فقط علينا تقبله و التأقلم معه ريثما ينتهي ذلك الفيروس الذي فرض نفسه على كل بقاع العالم و أصبح حديث الكوكب الأزرق برمته من مشرقه إلى مغربه .. شماله و جنوبه .. شاشات التلفزة احتفت به خبرًا متجدد الإحصاءات .. أعداد الإصابات و الوفيات بازدياد و استنفار كبير في العديد من المشافي و الكوادر الطبية بما في ذلك الجيش و الشرطة خدمة ًفي الحد من انتشاره .. كل شيء قد غصّ بأخبار الكورونا الذي أخذ يتربص بكل من لا يهتم بالوقاية منه .
شهر مضى على التزامنا بالحجر المنزلي الذي فرضته علينا حكومة أبوظبي مشكورةً أسوةً بباقي حكومات الدول التي اتخذت اجراءاتها الصارمة أيضا في الحيلولة من انتشاره متجنبة ًما حدث من كوارث بشرية في كل من إيطاليا و اسبانيا و الصين و أميركا التي بلغت أكبر عدد إصابات نتيجة استهتارهم به وعدم اتخاذهم التدابير اللازمة كما يجب .
و على ما يبدو أننا اعتدنا ذلك المكوث الطويل في البيت و لأول مرة في تاريخ البشرية المعاصر .. الجميع وجد نفسه محكوم عليه بالتزام بيته .. باستثناء بعض القطاعات كالصحة و الشرطة و المستلزمات الغذائية و قطاع الإعمار .. فما من خيار آخر لنا .
قبل مضي هذا الشهر بأسبوعين كنت قد شعرت ببعض الملل و التوتر .. و أعتقد أن الكثيرين أيضا قد شاطروني ذات الشعور و مازالوا يشعرون به بين الحين و الآخر .. فحالات الملل و الضجر و التأفّف بدت واضحة و ملحوظة من خلال بعض الفيديوهات المتداولة عبر الواتس اب و الفيسبوك الذي احتلت متابعته حيزًا لا بأس به من وقتنا بين تسلية ٍ و تقطيع وقت ، نندهش تارة ونضحك تارة عما يصدر عن بعض الناس من ردود أفعال لهذا الحدث الاستثنائي و المفاجىء و المحزن لمن يفقدون أحباء ً لهم دونما وداع .. فكوكبنا المتصارع القوى و كما بات معلوما أصبح قرية صغيرة بفضل تلك الوسائل المتاحة بين أيدي الجميع .
أسبوعان متواصلان بين جدران المنزل أحسست بهما بالضجر
– اف .. قلت لأمي ..
– من وين طلعلنا هل الكورونا ! فأنا ما اعتدت المكوث بهذا الشكل المتواصل لهكذا مدة .. و إن كنت بيتوتية نوعًا ما مقارنةً بغيري .. و أنا إذ شعرت بذلك الضيق .. خطر في بالي حال السجناء .. إذ كيف لهؤلاء السجناء مسلوبي الحرية أن يحتملوا السجن لسنوات عديدة .
فكرت بحالهم و بالأخص من سُجِنَ ظلماً .
فإحساسه بالظلم و القهر مضاعف عمَن ارتكب جريمة أو ذنبا استحق عليه ذلك العقاب .. فكرت به مليا .. إنه شيء صعب لا يطاق .. لم نكن لنشعر به نحن الأحرار الطلقاء لو لم يفرض علينا شيء شبيه به .
و لكن أي ّفرق ٍشاسع بين سجنه و سجننا المؤقت الذي فرضه ذلك الفيروس الذي لا يرى بالعين .
أي ّفرق بين غرفة صغيرة مظلمة مقرفة و بين بيت متعدد الغرف و المنافع تسرح و تمرح به كيفما تشاء .. لك غرفة نوم تخلد للنوم فيها مرتاحًا متى شعرت بالنعاس . و لك غرفة جلوس تفعل فيها ما تشاء .. تقلب التلفاز .. تأكل .. تشرب ما لذ و طاب .. لك مطبخ تمارس فيه هوايتك بالطبخ و إعداد الوجبات .. حمّام ٌ .. و لك اطلالة بيت ٍأو فسحة سماوية ترى النور من خلالها و تستمتع بالنظر إلى الخارج مستطلعًا أحوال الطقس .. كل ذلك متاح بين يديك و الناس قد بدأت بالتأفّف منذ الأسبوع الأول من الحظر .. و بدأوا بإرسال مسجات عن إمكانية إصابتهم بالجنون إن استمر الحال هكذا لفترةٍ مبهمة الانتهاء و الخلاص .
مسكين من يُسجَن ظلماً .. سنوات من عمره تذهب سدىً .. سنوات من شبابه .. من ذروة عطائه .. من قمة استمتاعه بالحياة .. من سيعوضه عنها و هو يحشر دونما ذنب في سجن مزر ٍو مقرف .. هل فكر به أحد قبل ذلك .. أضع نفسي محله فلا أستطيع احتمال التخيل .. أي قوة و صبر يضعها الله في قلبه لكي يحتمل .
فكرت في عقله و احتمالية العطب الذي ممكن أن يلحقه به السجن ، خاصة حين يترافق مع محطات تعذيب للاعتراف بشيء لم يقترفه .
أي ّعقلٍ يحتمل كل ذلك !!
قرأت في احدى الروايات مما يسمى بأدب السجون كنت قد قرأتها منذ فترة قريبة .. دون ذكر لاسم تلك الرواية .. فأنا هنا لا أتحدث من منطلق سياسي أو ما شابه .. و إنما من منطلق إنساني و وجداني و كنت قد تأثرت بها كثيرا و خاصة أنها كتبت من قبل السجين ذاته ، تحدث فيها عن مذكراته ..مدّونا فيها جميع الأحداث من لحظة دخوله السجن إلى لحظة خروجه منه .
كتب عن كل الألم و الظلم و القهر و الوحشية و اللاإنسانية التي مورست عليهم .. يقول ذلك الكاتب بأن ما جعله يحافظ على جودة عقله و صحته و عدم إصابته بالجنون كما قد أصيب غيره ممن هم مرهفي الإحساس و ممن عذبوا إلى أن فقدوا عقلهم .
ما جعله يحافظ على ما تبقى من عقله هو استرجاعه لكل الذكريات و الصور التي مرّ بها سابقًا في حياته ،
كان يقتات عليها طوال فترة حكمه .. يستحضرها و يعيد تذكرها مرارًا و تكرارا .. يعيد إحياءها في ذاكرته كل يوم كي يقاوم وحشية السجن و المكوث فيه بين أربع جدران يتناوب فيها الليل و النهار ، الشتاء و الصيف و لسنوات عديدة دونما الشعور بها لفرط تشابه الأيام .
حين تذكرت ذلك السجين و حاله كحال العديد من السجناء .. و أنا هنا لا أشفق على من استحق العقاب
و إنما على من سجن ظلما و ما أكثرهم ، فكما يقال ( ياما بالحبس مظاليم ) .. حين تذكرته قلت لنفسي التي ملّت ، – أين نحن من هؤلاء الناس الذين لا نشعر بهم و بما يعانونه و نحن نعيش أحرارا طلقاء ..
و لكن أعود و أقول لو لم يكن السجن بتلك القسوة لارتكب الناس ما يحلو لهم دونما الخوف من رادع يردعهم عن اقتراف ما قد يرتكبونه بحق أنفسهم و حق غيرهم .
أما عن نفسي و بعد شعوري بأنه لا مفر من الخروج مساءً ترويحا عن النفس .. خرجت بكل جرأتي و عدم مبالاتي بالكورونا بعدما اتخذت إجراءاتي الوقائية بوضع كمامة .. و عدم ملامسة أي شيء بطريقي .. مستغلة الفترة المسائية التي تسمح لي بالخروج لوقت محدد .. و على وقع أغنية المبدع الراحل ملحم بركات ( و مشيت مشيت .. و مشيت بطريقي ) التي جعلتها رفيقة مشواري ذاك ، أطلقت العنان لقدميي لتسيرا بحرية و انطلاق و نشوة الخروج بعد أسبوعين متواصلين .. تنفست خلالها معنى أن أكون حرّة طليقًة .. نظرت إلى السماء فإذا هي صافية على غير عادة .. تتلألىء فيها النجوم بوضوح و القمر كان هلالا ساطعًا .. أتممت مشواري مستمتعة بما قمت به على الممشى المحاذي لبناء سكننا و في تمام الثامنة موعد حظر التجول كنت في المصعد في طريقي إلى البيت .. و أنا أشعر بمتعة الحرية التي سلبت منّا بسبب الكورونا .
للكورونا حديث مطول .. لا يقتصر على قيمة الحرية التي لربما لم نكن نقدرها حق قدرها و نحن نمارس حياتنا بشكلها الطبيعي و المعتاد .. لن أستفيض بحديثي عنها أكثر من ذلك .. فالحديث عنها أصبح مستهلكًا ما بين نصح ٍو تنظير و إرشادات و استعراضات ملأت وسائل التواصل كافة ً ، إلى درجة أشعرتني بضرورة الابتعاد و الانشغال بما يفيدني .. فلا طائل من الكلام و التعرف على آخر المستجدات التي لن تقدم و تؤخر في حياتنا شيئًا .
لا شك أن ثمة انعكاسات سياسية و اقتصادية و معاشية سيئة للكثير من الناس الذين ينتظرون فرجا و انتهاءً لهذا البلاء و لكن ما باليد حيلة أمام وباء ٍ يهددنا بسلب أغلى ما نملك و هي الحياة .
ما بعد الكورونا لن يكون كما قبله كما يقول منظرون و محللون .
لا شك أن الكورونا سيغير نظرتنا إلى أمور كثيرة في حياتنا ، سيعيد ترتيب الأولويات .. سيجعلنا نستشعر بعض النعم التي لم نكن نشكر الله عليها دائما .. أما على المستوى العالمي و الحكومي فستكون هنالك متغيرات عديدة .
و إلى أن تنته تلك الجائحة التي ألمّت بنا ، علينا ممارسة حياتنا كالمعتاد ضمن نطاقها الضيق المتاح .. كلّ ٌعلى حسب ما يهوى و ما تفرضه مسؤوليته تجاه نفسه و أفراد عائلته .. فسبل الترفيه و المتعة ما زالت بين أيدينا .. كما هي سبل الفائدة أيضًا .. و كلما شعرنا بالضجر علينا تذكر من هم في ظروف أسوء من ظروفنا كالسجناء .. و الأطباء الذين يواصلون حربهم ضد ذلك الفيروس ليل نهار .. يسابقون الزمن للتمكن من اختراع لقاح أو دواء يحد من انتشاره و التعافي منه بأسرع وقت ممكن .. مستبسلين و مخاطرين بأنفسهم أمام واجب الانسانية و القسم الطبي الذي أقسموه يوم تخرجهم .. مضحين براحتهم و سلامتهم في سبيل العناية و الاهتمام بمَن يتساقطون صرعى ذلك الفيروس ما بين مريض و متوف ٍ .
لا شيء يدوم في هذه الحياة .. فقط علينا التحلي بالصبر قدر المستطاع و رؤية الحياة من جوانب أخرى .. و ملء ذلك الفراغ بما يفيدنا و يمتعنا و يجعلنا أكثر تحديًا و صمودا في وجه تقلبات الحياة و مفاجأتها التي لا تنتهي ريثما ينتهي هذا الوباء .
دمتم بخير و صحة .. سالمين آمنين ❤️
Sawsan Bunni