كائن العتمة تحت المجهر
قراءة نقدية لقصيدة ” كائن العتمة ” للأديب الفلسطيني الكبير أنور الخطيب
بقلم / يوسف السحار
ما أصعب أن نصف الحقيقة المرة بكلمات وأشعار، فذاك الوصف هو بمثابة نزف واستنزاف لذات الكاتب، أنور الخطيب ينزف ألما عندما يكتب، وتلك حقيقة يجب أن نعيها إذا ما أردنا قراءة أي من نتاجه الأدبي، فالكاتب مثقل بهموم الوطن وأهوال اللجوء والشتات، لذلك فهو يكتب بحبر دمه ومداد روحه، فعوالمه الشعرية العصية على التقليد والتقمص لدى أي مدع لقول الشعر أو متقمص لشخصيته الشعرية، أسلوبه وصوره ومخياله ومعجمه الخاص، لن يكررهم زمان إلا زمانه، إنه العالم الأدبي، الذي ما يزال غامضا بالنسبة لنا ونتوقع منه الجديد في كل يوم بل وفي كل ساعة!!
منذ البدايةتدهشنا ب “كائن العتمة” كعتبة أولى من عتبات التعامل مع بنية النص الموجود أمامنا، والتي تتكون من جملة اسمية مكونة من مبتدأ ونعت، لخبر محذوف تقديره (موجود) “كائن العتمة موجود”، وها هو يعرفه في مطلع النص بقوله: (أنا)، والضمير هنا يعود على شخصية اللجوء في كل لاجئ، وعلى رأسهم الشاعر الخطيب، وكأنه يقول أن كائن العتمة موجود في وفي كل لاجئ، موجودون بحضورنا في وضح النهار أولا وببحثنا الدؤوب عن ذاتنا المتشظية في كل مكان فلا نجدها، هذا التيه الذي يعايشه اللاجئ // الشاعر جعله يتساءل عن ذاك الموقف المأمول، فيما لو صادف نجمة الصبح وقابلها ذات يوم؟! ونجمة الصبح معادل موضوعي لمحطات بطولية عابرة سجلت في الذاكرة الجميعة للشعب الفلسطيني كانت كفيلة بإعادة اللاجئ // الشاعر لوطنه بعد عودة الوطن، لكنها ليست محطة الانتصار، فالشاعر لا يتأمل الكثير من تلك النجمة، لأنها لن تعرفه ولن ترجعه، كونها كانت في سهرة وقد ضاجعت، وهنا إشارة للإجهاض التي تتعرض له مواقف البطولة ومحطاتها طوال تاريخنا الحافل بها، فليس هناك من ثورة إلا وقد أجهضت من قبل أبناءها، ولم نحاول لمرة واحدة أن نغامر من أجل إحداث التغيير المنشود، وسرعان ما تأفل تلك النجمة بعد أن تعود العتمة لحياة اللاجئ وفكره وتفكيره، وتنام النجمة في سجلات التاريخ وكتب المؤرخين، ويعود اللاجئ // الشاعر ليبرهن للجميع أنه موجود عبر تكراره ل ” أنا كائن العتمة “، فيقدم نفسه للآخرين بثوب الإصرار على الوجود بعد أن تجاهله الكثيرون، صحيح أنه لا يملك ذاك الظل الذي يحقق ذاته بين الآخرين، نظرا لتلك العتمة التي تتلبسه وتاريخه وقضيته منذ عشرات السنين، لكنه ليس بميت ولن يموت، فهو: السر، والملجأ، والسند، والقرطاس، والمرسال، هو كل شيء في عين ذاته بعد أن أصبح لا شيء في عيون الأخرين، لذلك نراه في هذا المقطع ينام بعد أن نامت نجمة الصبح، وكأني به يقول أن نوم البطولة في حياة اللاجئ معناه أن لا رجعة لوطنه تلوح في الأفق، وأن لا جديد يستحق اليقظة والاستيقاظ من اجله، لذلك آثر النوم على حياة الخيبة ويقظتها، لكنه يعود ويؤكد على ذاته وأنه كائن العتمة، لكن بثوب الخذلان هذه المرة، فبعد أن آثر النوم على حياة الخيبة، وجد نفسه وقد دنس من تحرش المذنبات، وشائعات الليل، وقد نسب لأثرهما اللون الأصفر، وفي ذلك ترميز لما أصاب طهر قضيتنا الفلسطينية بعد أن فض بكارتها المتخاذلون والمتواطؤن والمطبعون، وزاد على ذلك ما هو أعظم، حيث السواد الذي جاء من الداخل ليستقر في الداخل، إذ النميمة والوشاية التي أصابت أجسادنا بسرطان الفرقة والتشظي والانقسام، وبعد كل هذا الخذلان والهوان الذي يعيشه الشاعر // اللاجئ يضطر للشعر وللقصيدة؛ كي يعالج نفسه وروحه، فنراه يذهب بعيدا بعد كل جرعة شعرية، حيث حبال السنونو، وحج الأبجدية، وحمل الطيور، لكن مآله إلى هناك حيث الخيمة التي ما تزال مرتبطة به، فأينما وجدت الخيمة وجد اللاجئ، وبمجرد أن يتذكر ويستذكر حقيقة اللجوء لا ينام، فيعاود التأكيد والتذكير بذاته وكينونته، لكن بثوب الأمل الذي يعتريه، فهو المغرم بالظهيرة، وفي الظهيرة وهج الشمس وتوهجها، فهو يأمل أن تتوهج شمس أحلامه في العودة إلى وطنه الأم، بعدما اعترف بنسبه لذاك الأب الأسود، الذي ضاجع أمه بعدما شغفته وشغفها، وفي ذلك ما يشير لعلاقة الانتماء الزائف التي ادعاها العرب في أربعينيات القرن الماضي لفلسطين، وعزفهم الكاذب على أوتار المحبة والتضحية من أجلها، لكن سرعان ما انكشف زيف ادعائهم وخيانتهم، فقد تخلى الجميع عنها بعدما ضاجعوها وأخذوا ما يبغونها منها، ولعل الدو ري مي فااااا ، إشارة للممثلين الذين أسهموا في ضياع الوطن وتيه اللاجئ، الذي كان نتاج تلك العلاقة الزائفة، فلم يعترف بوجوده القريب قبل الغريب، فبات بلا إيقاع ولا لون ولا صوت، غريب في بلاد الأشقاء، مغرب في وطنه بين إخوته، الذين ألقوه عند ذاك البئر العميق، بئر اللجوء والتشرد، في غياهب التيه والضياع، حتى جاءت تلك العتمة وأرضعته؛ كي تنجيه من ذاك الموت الذي ينتظره، فنجا وبات نبيا للظلام في حاله وترحاله، في بؤسه وشقاه، يستبد به شوق جارف لأمه // لوطنه؛ كي يرتمي في حضنها حتى ينام براحة طال انتظارها لديه، ولعل الشاعر الخطيب يتناص مع معنى قصة سيدنا يوسف عندما ألقاه إخوته في غيابت الجب، وجاءت سيارة فالتقطته، فاللاجئ هو سيدنا يوسف، وإخوته يمثلون العرب الذين تكالبوا عليه وقرروا التخلص منه، والعتمة التي أرضعته إشارة للثورة الفلسطينية التي أنجت اللاجئ والقضية من مصير الموت والاندثار، فهي وإن كانت مجرد عتمة في سلوكها وإسترايجيتها إلا أنها علامة فارقة في تاريخ اللاجئ والقضية.
إليكم نص القصيدة 👇👇👇
كائن العتمة
أنور الخطيب
أنا كائن العتمة
أقوم النهار باحثا عنّي ولا أجدني
وأكون سعيداً
فماذا سأفعلُ
لو قابلتُ نجمة الصبح
وهي عائدة من سهرةٍ
ضاجعتْ فيها قمرَ الوقت
لن تعرفَني
لم يخرج الكائن من قبلُ في مغامرة
كي يرى ذاته في الضوء
لم يسبق أن تحول الأسودُ أبيض،
لهذا، فلتذهب النجمة وهي تنزّ حليبا
كي تستحم بالظلام
ثم تنام،
أنا كائن العتمة
لا ظلَّ لي
لكنني لست ميْتاً
أنا أكثرُ من سرّ مختبئ بين حشائش الضلوع
أكثرُ من ملجأ لعاشق وقت الدموع
من حائط تسنده الريح في لحظة الركوع
يكتب المهجّرون اشعارهم عليّ
فأحملها وأمضي ثم أعود
أنثرها فوق الحطام
ثم أنام،
أنا كائن العتمة
قميصي أصفر من تحرّش المذنبات
سترتي صفراء من شائعات الليل
ملابسي الداخليةِ سوداء من أثر النميمة
أحمل هامتي كل صباح لأغسلني من صدأ الشعر
أبتل أكثر بالعابرين نحو سردِهم الرديء
أنشرني على حبال السنونو
كي أحجّ نحو أبجديتي
تحملني الطيور ثم تسقطني عليّ في العراء
حيث الخيام
فلا أنام،
أنا كائن العتمة
ال مغرمِ بالظهيرة
ولدت فيها من أبٍ أسود
كان يعزف السكسفون للطيّون
راودته امرأة كانت ترقص وفق طبول الشهوة
نشّز ثم طارحها الدو ري مي فااااا
فكنت أنا
لا إيقاع لي
لا لون ولا صوت لي
أُلقيت عند حافة البئر جائعاً
مرّت عتمة وأرضعتني
صرت نبيّاً للظلام
وظَلَّ بي شوق لأمي
أبحث عنها في غابة النهار
كي أنهارَ في حضنها
ثم أنام.
يوسف السحار
9 /5 /2020
https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=2644061885915607&id=100009354649945