الكتابة فعل استحمام..
بقلم: عزيز جمال عبدلناصر يحياوي
يومية بتاريخ 31-3-2020
أحيانًا أغيبُ عن الكتابة، أغيب عن كتابة يومي المشوّش والمتهالك. المزاجُ يتدخلُ هنا، يمنعني من إمساك القلم، أودّ أن أكتب بشدّة لكنّه يكبحُ جِماحَ رغبتي، يصفعني ويربك الحركةَ في يديَّ فتغدو الكلماتُ شعبًا من السباقيتي أو جثثًا مبعثرةً في أرضٍ متحركةٍ.
أتفهم الوضعَ سريعًا ثمَّ أرفعُ الرايةَ البيضاءَ عاليًا بيديّ المجذومتين الساكنتين، أرفعها وبي حزن قارس كحزن محاربٍ فَقَدَ المعركة، أرفعها لأنّ الباب مقفل يحرسهُ سوبروس. لم أكن ولن أكون لجوجًا مع المزاج لأنّني ببساطة لست كاتبًا شغّيلًّا يجب عليه أن يفرّغ ما في أمعائه كلَّ يومٍ للقراء فيشتثَ بذلك جذورَ الخلقِ، الكتابة اليومية سلاحُ مصوّب نحو الرغبة، التأمل الحياتي واللحظات التي يجب أن تعاش فقط.
أرى الكتابةَ عمليةَ استحمامٍ، نستحمُّ لنزيل التعبَ والقذارة عنّا ولا أعتقد أنّ المرء يستحمُّ كلّ يومٍ.
المكان يعطيني شراهةً مضاعفة كيما أكتب وربّما التنوع في الأمكنة يهب للكتابة أساليبَ ومناخات متفردّة، أحيانًا أكتبُ في المطبخ وأنا بصدّد التهام القصيدة اليوميّة التي تعدّها آلهة الشعر، أحيانا أكتب في الشرفة المطلّة على الحيّ الفضيحة، هناك حيث تنكسر كلّ الأغلال وتمشي الحكايات عاريةً جنبًا إلى جنبٍ على الأرصفة، أحيانا أكتب في الشارع عندما تلجُ دونَ استئذانٍ كلمة أو فكرةٌ حسناءُ دماغي، وأحيانا أخرى أكتب في كوابيسي خربشات على وجه الشيطان القرين.
لحسن الحظّ ليس لديّ مكتب فخم أرمي فيه مؤخرتي لساعات طوال كما يفعل النبلاء أبناء الرقّة الهجينة، أنا سعيد جدَّا بالفوضى العلّامة، الأوراق مستلقية في كامل غرفتي أنظر إليّها وتنظر إليَّ نتبادل مع بعضنا البعض الأسرار المكتومة والذكريات الساخرة، يا الاهي لو لم تخلق هذه الأوراق لجرفنا السخط وفنينا، أعلم أنّك وضعت فيها شيئا من روحك من جنتك الخاصة، رائحتها تشي أنّها خلقت من الشجرة اللذيذة والأرواح السماوية اللذيذة لا تتذمر ولا تزول.
انظر إليّها نظرة العاشق المتلهفة التي يحاول ألّا يرسمها على وجهه لكنَّ الإحساس المزدحم يحرّك شفتيه بعنفٍ فيكون الخفقان العاطفي التام، انظر إليها طويلا وهي مستلقية بكامل جسدها المرمري في المنتجع الغباري لغرفتي تنتظر بشوق السائل الأسود محرّك الشهوة بداخلها، تسألني:
_لمَ كلّ هذا البرود ألن تحضنني بين يديك وتبلل روحي الملفوحة والمتيبّسة بسائلك الشهواني؟
أجيبها بتردّدٍ مضنٍ:
_ لقد كنت في بغداد ولم تتركني بغداد للحظة.
لم أكذب، اليومان السابقان كنت في بغداد، اجتزت شغافها ووصلت إلى نواتها العظيمة، كنت أتجول بين أحيائها الصاخبة المليئة بكل المتناقضات التي أرساها الله على الكون، ذهبت إلى شارع الرشيد المطلّ على دجلة، هناك تذوقت هواءً مطعمًّا برائحة عمرها آلاف السنين، كنت مدهوشا بالتمازج الرهيب بين الملامح الضاربة في القدم والملامح العصرية جدًّا، في التحركات والجولات الاستكشافية الكثيرة وبين فندق المدينة وفندق شهرزاد تعرفت على أصدقاء جدد وهم كالتالي؛ براين شابٌ انجليزي مولعٌ بتجاعيد الشرق، عدنان شابٌ فوضوي متمردٌ على البرجوازيا التي حملها من اسمه، حسين شاعرٌ يأكله الشبق لطالما أحبّ أن يكون شعره مكتوبًا ببن ثديّ الموميسات، عبد القادر شخصية عصيّة على الفهم، توفيق رجلٌ يشرب الحليب الوحشيّ للبادية متمسك بمبادئ الصحراء تمسّكا يجعله في صدامٍ كليٍ مع الآخر لكنّه رغم ذلك محبٌ ووفيٌ للأزقة الماخورية في المدن، سلمى المرأة الفاتنة والخطِرة في آنٍ، وأخيرا سلافة، سلافة المرعبة الساحرة المختلفة، حينما تلمحها ترَ أمامك التجسيدَ الحي للآلهة عشتار، حينما تلمحها تهتزْ ويتحركْ شيء ما بين فخذيك. لقد كانوا فريقًا رائعا، فريقًا ينسيك ألاعيب الحياة الصبيانية، لقد كنّا أفضل صيادين في الشارع الضيّق*.
اليوم لم أضحك، لم أبكِ، لم أدخل التواليت، أحسّ بدودٍ يحفر في ضلوعي، يحفر بشراهةٍ وقوةٍ لأنّه لم يرَ أيّ عصفورٍ في سماء القلب، هنيئا له!. اليوم أخذني النوم الثقيل إلى أحلام بلا معنى، الوسادة ضجرت من رأسي الكبير واللعاب المقزّز، نظرت إلى عينيّ الجاحظتين فضحكت، جلدي يشتاق إلى رؤية الأمّ الساخنة ليكنس الغبار عنه. جسدي يلعنني، يلعنني بكل اللعنات.
*صيادون في شراع ضيّق رواية لجبرا إبراهيم جبرا
https://www.facebook.com/aziz.yahyaoui.790/posts/1118636181821813