مأزق سلطة المقاومة
بقلم: أنور الخطيب
”السلطة الأخيرة التي تتسيّد المشهد في قطاع غزة انخرطت سابقاً في الانتخابات التشريعية الفلسطينية، ولو قُيّض لها ممارسة الحكم في رام الله، لربّما وقعت في المأزق ذاته الذي وقعت فيه السلطة الرسمية“
تحولت الثورة الفلسطينية إلى المقاومة الفلسطينية بعد التحول في المسار السياسي للقضية الفلسطينية، الذي نتج عنه الاعتراف بسيادة العدو الإسرائيلي على أكثر من ثلاثة أرباع فلسطين التاريخية من قبل السلطة الرسمية الفلسطينية ترجمةً للاتفاقيات التي وُقّعت بين الطرفين، صاحب الأرض والمحتل. وهذا الاعتراف لم يقسّم الفلسطينيين بين سلطة اختارت التفاوض وسلطة اختارت المقاومة، لأن السلطة الأخيرة التي تتسيّد المشهد في قطاع غزة انخرطت سابقاً في الانتخابات التشريعية الفلسطينية، ولو قُيّض لها ممارسة الحكم في رام الله، لربّما وقعت في المأزق ذاته الذي وقعت فيه السلطة الرسمية، وهي فرضية لا يمكن البناء عليها لأنها لم تتحقق، ولهذا من الصعب الاستسرسال في وصف ما كان سيحدث، لكن كان أمام السلطة التي اختارت المقاومة أحد خيارين، إما التعايش مع الاحتلال والاكتفاء بنشر العقيدة، أو المغامرة في التحدي العسكري لاحتلال يتفوّق في قدراته التنظيمية والعسكرية، ولربما كانت نتيجة لذاك الخيار إعادة احتلال الضفة الغربية من جديد، أو لربما تعايش العدو مع السلطة الإسلامية وتعايشت معه وفق الفلسفة الباطنية والتقية، وربما وقّعت معه هدنة طويلة المدى كتلك التي اقترحتها قبل أعوام قليلة لمدة عشرين سنة.
أما وقد رُفضت نتيجة الانتخابات التشريعية التي كانت ستجعل حركة حماس تسوس الأراضي المحررة، فقد (نظّفت) الحركة القطاع من أتباع السلطة الرسمية واستحوذت على السلطة في قطاع غزة، ولا زال الوضع متأزما بين الحركتين، فتح وحماس، والمصالحة، كما يبدو، باتت حلم الفلسطينيين البعيد.
سلطة المقاومة، مفهوم مثير للجدل وتآمري بعض الشيء، لأن السلطة لا تنسجم مع المقاومة والعكس صحيح، وما يجعل الأمر مقبولا وجود عنصرين، الأول أن هذه السلطة لديها هدف كبير جدا أكبر من فلسطين، وكما قال محمود الزهار “فلسطين لا تكاد تُرى على الخارطة”، وهو هدف ظهر عندما نجح الدكتور محمد مرسي في الحصول على منصب الرئاسة في مصر، وجميعنا شهد توزيع البقلاوة، وتصريح السيد هنية “باسم الله مجريها ومرسيها..”، وكان تصريحاً متعجّلا مفضوحاً يعلن بشكل واضح ارتباط الحركة بالإخوان المسلمين، مما جلب لحركة حماس عداء الكثير من الدول وخاصة دول الخليج العربية. أما العنصر الثاني فيتمثّل في وجود احتلال استيطاني في فلسطين، والمقاومة في هذه الحالة ضرورة للبقاء في السلطة، في الوقت الذي ليس بالضرورة أن تكون السلطة ضرورة لبقاء المقاومة، وهنا تكمن الجدلية والمأزق.
”فداحة الأخطاء أن يتحول الثائر إلى مُحتل للمدينة اللبنانية أو المدينة الأردنية، ما أدى إلى تضارب السلطات وتنافرها واشتباكها، والنتيجة معروفة في المكانين. ولا بد من ذكر مسألة مهمة هنا، هي أن من أخرج المقاتلين الفلسطينيين من لبنان ليس الجيش الإسرائيلي وحده، وإنما ضعف القاعدة الشعبية، القاعدة التي بدأت تتآكل جراء الفساد بأنواعه كلها، الفساد المحمول على الرعونة والاستعراض والاستقواء“
لقد كان من أسباب فشل الثورة الفلسطينية خارج فلسطين، في الأردن ولبنان على سبيل المثال، وجود المقاتلين بين الناس، في المدن والمخيمات، وهذا جعل صورة المقاتل تنتقل من المقدس الاستثنائي إلى العادي المتكرر، ومن صورة رجل معصوم إلى صورة رجل خطّاء، وفداحة الأخطاء كانت تخص الناس وبيوتهم وأخلاقهم وأعراضهم، وفداحة الأخطاء أن يتحول الثائر إلى مُحتل للمدينة اللبنانية أو المدينة الأردنية، ما أدى إلى تضارب السلطات وتنافرها واشتباكها، والنتيجة معروفة في المكانين. ولا بد من ذكر مسألة مهمة هنا، هي أن من أخرج المقاتلين الفلسطينيين من لبنان ليس الجيش الإسرائيلي وحده، وإنما ضعف القاعدة الشعبية، القاعدة التي بدأت تتآكل جراء الفساد بأنواعه كلها، الفساد المحمول على الرعونة والاستعراض والاستقواء.
إن إطلاق تسمية المقاومة الإسلامية على المقاومة في قطاع غزة يراد به اكتساب شرعية إلهية وسلطة غير قابلة للنقض أو النقد، وما يجعلها معرضة للنقد ارتداؤها لعباءة السلطة، أي الاحتكاك اليومي بالناس وبشؤونهم وإدارة أعمالهم، وكل سلطة تحمل فناءها في رئتيها إذا لم توفّر الهواء النقي للناس حتى لو رفعت شعار مقاومة عدو لا يختلف إثنان على مقاومته وقتاله، ولهذا فهي في وضع جدلي حمّال أوجه وأمام خيارات لم تختر منها شيئاً، لهذا تجمع بقوة المقدس والوطن جميع الخيارات أو خيارين اثنين هما، السلطة والمقاومة، والجمع بينهما قاد إلى واقع مأزوم، هو المراوحة بين السلطة والمقاومة، بين السلطة بما تعنيه توفير الحماية والأمن للناس وبين المقاومة التي تعرّضهم يوميا للغارات والاستشهاد وتدمير البيوت، في الوقت الذي لا تستطيع ولا تمتلك الإمكانيات للتعامل مع النتائج، فهي تختلف عن المقاومة الإسلامية في لبنان على سبيل المثال، حيث البيت الذي يُهدم يُبنى فورا، والمقاتل أو المدني الذي يستشهد تُحتضن عائلته احتضانا كاملا، فلا يُترك للعوز أو الحاجة.
إن اختيار الاثنين، السلطة والمقاومة يعوق تطوير المكان عمرانياً وتعليمياً وإنسانياً، ولا يوفر احتياجات الناس الضرورية، فبين كل فترة وفترة هناك أزمة وقود ودواء وكهرباء ودقيق وغيرها، وكل يوم هناك شهداء وجرحى ومعاقون، وبات من المعروف أن نسبة الفقر في قطاع غزة مرتفعة جدا، ونسبة الذين تحت خط الفقر مرتفعة أيضا، وكثيرون لا يستطيعون تحصيل قوت يومهم أو استكمال دراستهم أو علاجهم، ما يعني وجود أزمة إنسانية خانقة لم يعد لدى كثيرين طاقة على تحمّلها.
سيقول قائل إنني ضد المقاومة. لا يا سيدي، أنا مع المقاومة ومع كل بندقية تحارب هذا الكيان الغاصب، لكنني لست مع الموت المجاني اليومي الذي لا يؤسس لشيء، أنا مع مقاومة منظمة خالصة لوجه فلسطين، مقاومة لا تعرف الازدواجية لأنها تربكها، ولهذا، أعتقد أنه على سلطة المقاومة الاختيار بين السلطة أو المقاومة.
إن قتال عدو كالعدو الإسرائيلي لا يمكن أن يتم بالوسائل التقليدية، أي بالمواجهة المباشرة، إنما بحرب عصابات شبحية، يقوم بها مقاتلون مدربون على الظهور والاختفاء، بعيدا عن أعين الناس، وذلك لاستعادة قيمة وصورة الفدائي المقدسة، أما خيار المقاومة المباشرة والإعلامية وظهور القادة والمسؤولين بشكل علني فلن يقود إلى شيء، وسيبقى الواقع في حالة مراوحة في مكانه.
وحتى نبقى في الإطار، من الضروري إذا صدقت النوايا، تحقيق مصالحة بين المقاومة والسلطة، أعني بين سلطة المقاومة والسلطة الرسمية، والاتفاق على أساليب لمقاومة العدو وإيلامه في مكانه، بدقة واحترافية وابتكار، وعلى النهوض بالمجتمع الفلسطيني ومحاربة فقره، فلا يبقى يتوسل الكرام هنا وهناك، فلا كرم من دون مقابل، لأن الفقير سيثور يوما ما حتى على سلطة المقاومة. والله من وراء القصد.