بين الشاعر والروائي.. بعيدا عن اللغة البلهاء

أنور الخطيب
يطل الروائي على حقل الشعر من شرفات الأزمنة والأمكنة والشخوص، لا ليجمّل الأحداث بلغة البيان والفانتازيا، أو يعيدها إلى صوابها الماكر، أو يدجّن أنياب الحكمة المستقاة من تراجيديا الفعل اليومي المشتق من فكر مهزوم، وإنما كي يحمّل اللغة على صهوة الفجر النظيف من الأحجيات، ويمشي في قافلة الضوء خلف المغنّي الذي تدوزنه أوتار امرأة تطل على نايه من شقٍ في ستارة هودجها المتراقص.. ذات الدمار وذات الياسمين.


والروائي والمغني قاتلان محترفان يتوسطهما شاعر يحلو له لعبَ دورين شبقيين، يبقي على صلة القربى قائمة بين ماضٍ ميتٍ ومستقبلٍ آيل للتأويل، شاعر يتلذذ في ارتباك الدرب، يمدح اللعنات السائرة على سيقان نحو أرضٍ يباب، ولا يسأل اللغة الانتهازية كيف تقود مفردة لئيمة قلب أنثى إلى العشق، ولا يجلد صورته الشعرية وهي تغوي صبيّة تصدّق وحش البلاغة وهو يفترس البراءة في نهديها، بل يذهب في حفلة المديح حتى آخر رمق الرعونة، وفي رقصة الإغواء حتى آخر قطرة من بكارة الصباح، ويتوّج النقاد قصيدته المدماة على أنها هيكلٌ جديد يمهّد لفتح جديد، وبحرٌ مفتوح على كل التفعيلات يفتح الطريق لأنثى العروض كي تلد الحركات المغناج، والروائي يراقب بقلب ملعون، والمغنّي يردد اللحن الفاتن والمفتون، وفي نهاية اللعبة ينتشي المطبلون.
الشاعر مخلوق أرعن، لكن الشاعر الحذق هو من ينجو بدهاء من هذه الآفة الغبية، والروائي مخلوق انتهازي، لكن الروائي المحنك هو من يتعاطى في كل ليلة عشرين كأسا من القلق لينجو من تلك الصفة الإنسانية، ويقترب كما يقترب “محضّر الأرواح” من الساهرين والعشاق والأرامل واليتامى والسكارى والغرباء، فإذا اجتمع شاعر ناجٍ وروائي قلق في إنسان، ارتفع منسوب الندى في روحه ليطل من شرفة النبوة الأرضية على المبشّرين بالألم، قد يمنحهم بعض سكينة في قصيدة، وقد يصطحبهم في رحلة الآلام نحو بعض خلاص، فيتماهى بهم، ويحملهم على محمل الشهادة في حقل مزدحم بالأشواك وريحان الجنة.
الشاعر ليس نقيض الروائي، والروائي ليس عدو الشاعر، كلاهما مخلوقان من بذرة الحكمة وإن شطّ الشاعر في تجلياته، أو تحسس الروائي خاتم النبوة على ظهره، فنواياهما كنوايا طفل أصيب بلوثة الإدراك المبكر، وبمتلازمة الوعي الشقي، وعلى العالم احتماله كما هو، عابث حين يتجرد من وعيه ويرتدي اللاوعي، ومهندس دمار حين يخلع لاوعيه ويبدأ بإعادة ترتيب الأمكنة والأزمنة، ويرسم المستقبل الجاثم هناك، على بعد مسافة قريبة من الجنون، فلا يتدخلن أحد في عبثه، ولا يقاطعنه أحد وهو يعيد هيكلة الدمار، فمساطره مختلفة، ومعاوله مختلفة، والمواد التي يستخدمها لا تشبه شيئا سوى أدواته، فهو يصنّعها في معمله الداخلي، حين لملم الخارج عن وجوه الأطفال المشردين، وجمع نقاط الدم عن كؤوس النرجس، ليقدم خلطته السحرية على ورق الدهشة.
هذا الإنسان، الذي تضيء أنامله عتمته كي يراه الناس، لا يستجديهم ولا يطلب الرفق به، كل ما يتمناه أن يبقوا بعيدين عنه كبشر، قريبين منه كملاك يحمل في قلبه شيطان مؤنسن، وكل ما يأمله أن يعانقوا حروفه بالقلق ذاته الذي خرج من آتونه الشعر، ومن مسيرته الرواية، فإن فعلوا كانوه، وإن لم يفعلوا سيطفئ أنامله كي لا يراه أحد، ويعيد تشكيل العتمة من جديد، وقد يصيح بأعلى حنجرة سكونه، وقد يصمت بأعلى حباله الصوتية، وقد يخرج من عتمته عاريا ليرقص في الضوء، فإن فعل لا تحدثوه عن العيب، فهو في قرارة روحه مدّثر، ولا تلقوا عليه أي بردة كي لا يعود إلى أوله، إلى مرافقة الجماد، ولا ترجموه، فهو لا يفقه هذه اللغة الخبيثة، اتركوه راقصاً في معبده الخاص، يحده من كل الجهات أنتم، ويحدّكم من كل الجهات.
هذا الشاعر الروائي مبشّر بالخلود، فهو يسكن هناك في البعيد وإن رأيتموه قريباً، هو المستقبِل لكم يوم تفقهون.

نُشرت في صحيفة الحدث – فلسطين
http://www.alhadath.ps/article.php?id=b4dddy740829Yb4ddd

اترك تعليقاً