تربية الحقد وتعزيز الكراهية
بقلم: أنور الخطيب
لا حاجة لسرد وقائع وتأريخ أحداث وجلب شواهد لنؤكد التغيير الذي يكاد يكون جذريا في الإحساس بمفردة “العدو”، ويكفي السفر إلى الماضي القريب لاكتشاف أن مجرد لفظ المفردة كان يستدعي مشاعر النفور والغضب والرفض واللاءات جميعها، كانت مؤذية للسمع وجارحة للمشاعر ومثيرة للاشمئزاز، صورة العدو كانت أقرب إلى شخصيات مصاصي الدماء وسارقي القبور وباقري الأرحام وحارقي الأشجار والورود وذابحي العصافير. الصورة كانت قرينة الكوابيس، لم يجرؤ أحد أن يفكّر برؤية أو مقابلة العدو، لأننا سنقتله أو يقتلنا، نحرقه أو يحرقنا، نأسره أو يأسرنا، لا يجتمع ضدان في مكان واحد.
كنا ننأى بأنفسنا عن الاحتكاك بكل ما يخصه، إلى درجة ابتعادنا عن قراءة تاريخه وآدابه وفنونه ومعتقده، حتى أقنعنا الثوار بمقولة (إعرف عدوك) حتى تسهل محاربته، و(إعرف عدوك) استدعت تعلّم لغته والاطلاع على تاريخه وآدابه وفنونه وفلاسفته ودينه وسياساته، حتى وصلنا إلى عبارة تقول إنه إذا أردت معرفة عدوك لا بد من محاورته والتحدث إليه والوقوف على وجهة نظره، كل شيء كان نظريا وتجريديا، حتى استيقظنا ذات يوم على ترجمة العبارة بشكل لم يستفز أحد، شاهدنا الأعداء في بيوتنا على شاشات التلفزيونات في البرامج الحوارية والرسائل الإعلامية، خاطبهم المذيع بالأسياد والأساتذة، ابتلعنا المشاهد حتى استيقظنا في يوم آخر على مفاوضات معه وتوقيع معاهدات ثم اجتماعات ودية وزيارات اجتماعية ومآدب غداء وعشاء وسهرات، ثم استيقظنا في يوم ثالث على وجوده في المعارض والمؤتمرات وحلقات النقاش العالمية، فتحوّل العدو إلى بشر مثلنا، وعندئذ أيقظنا هو على تصريحاته وأحاديثه عن الديمقراطية والسلام وحقوق الإنسان وحماية النازحين الذين شردتهم الأنظمة، تجرأ ولفت انتباهنا إلى قياداتنا الفاسدة التي لا تعمل لصالح شعبها، وزاد أن اتهمنا بعدم رغبتنا في السلام لأننا غير موحدين، فهو لا يمكنه الحديث مع قيادتين. ايقظنا العدو في زمن آخر على دعمه لثوار “الربيع العربي”، فهل كان ناشر عبارة إعرف عدوك متآمرا على شعبه؟
نحن نعلم أن التاريخ لا يُجتزأ بهذه الاجتزاءات والسطور، فبين كل سطر وسطر وقعت حروب ومؤامرات وانشقاقات وتهجيرات ومذابح أدت إلى هزائم واستسلامات وخضوع وركوع وخيانات، قادت إلى مفاوضات وتنازلات واتفاقيات خلقت كيانا هزيلا وإدارة ذاتية فاسدة، وحكومات دول استمرأت العمالة، وقيادات ضعيفة فلكلورية سطحية.
بعد تلك اليقظات، وجدنا أن العدو لم يعد عدواً، اختفت المفردة من خطاباتنا السياسية والاجتماعية والتاريخية، تلاشت من خطابنا الوطني، أصبح العدو جاراً له سفارات وبيوت في عواصمنا العريقة، نخاطبه بأدب جم ويحتج لو أسميناه عدواً. تمادى البعض فتبرع له ليبني المستوطنات، وتناذل البعض فساهمت شركاته في بناء المستوطنات مباشرة.
تلوثت اللغة وأضحى العدو حليفاً وحامياً لبعض الأنظمة، ولهث عدد من الإعلاميين وصب جام حقده علينا خوفا على العدو الجميل النبيل الوديع، ومنحه صك براءة من دمنا، برّأه من ذبحنا، وعود على بدء، لو تجرأ أحد في تبييض صفحة العدو قبل أربعة عقود لما أشرقت عليه شمس اليوم التالي.
هل معرفة العدو تساهم في تعديل صورته من الذئب إلى الحمل، من مصاص دماء إلى مخلوق سلمي، أم أننا لم نعرف العدو أصلا، أم أننا كنا نعرف حقيقته وأغلقنا أفواهنا؟ ولا أفرّق هنا بشدة بين إنسان عادي ومثقف وسياسي، لقد تحول معنى العدو وشكله في الذهنية الخاصة والعامة، وها نحن اليوم، نذهب للعمل في بيوته ومزارعه وورشه وشركاته ونحتج لو أقفل المعبر ومنعنا من الذهاب للعمل.
هل الاحتكاك بالعدو يعدّل من صورته، فنعترف به وبوجوده وننسى دمنا القديم والحديث؟ هل الأحداث التي وقعت خلال خمسين عاما كانت مسرحية لتقديم رائحة أخرى للعدو، لا نشمئز منها ولا نكرهها؟
كيف تحول قاتلي إلى جاري، أتحالف وأنفذ معه مشاريع مشتركة؟ كيف تحوّل عدوي إلى صديقي أبتسم في وجهه واصافحه ونضحك سويا؟
أخشى أن الصورة التي تغيرت ليست للعدو، وإنما لنا، هي صورتنا التي تغيرت إلى درجة لم نعد نعرفنا، اقتتلنا وخنّا وتأمرنا وتنازلنا وانبطحنا واستسلمنا. نحن العدو الذي تغيّر، وليس هو، فهل كنّا أعداء حقيقيين لعدونا يوما ما، ولماذا فشلنا في تربية أعداء حقيقيين لعدونا حتى اليوم؟
قد ينظر كثير من الواقعيين إلى هذا الكلام بعين الشفقة بدعوى أن الزمن تجاوزه، وقد يحزن البعض الآخر قليلا لهول الخيبات لكنه سرعان ما يواصل حياته بشكل طبيعي. نحن بكل بساطة، كفلسطينيين وعرب لم يعد لدينا عدو اسمه الكيان الصهيوني الإستعماري الإمبريالي، اختفى، واختفت معه مصطلحات مثل الرجعية والإمبريالية والاستعمار، وإلى جانب كل ذلك اختفى شعار (ثورة حتى النصر). كأن اختفاء الأول يوجب اختفاء الثاني.
إنه من المؤسف أن نطالب اليوم بإعادة صورة العدو الأولى قبل أن نعرفه، بكل وحشيتها وإرهابها، ولا بد أيضا من تربية الحقد والكراهية من جديد لهذا العدو، لتحيا فلسطين في ضمائر وقلوب الأجيال، فإن لم نفعل نكون قد حكمنا على الأحلام بالموت، وعلى الذاكرة بالذوبان، وعلى الوطن بالإعدام.
صحيفة اليوم الثامن- فلسطين
https://alyoum8th.net/News.php?id=702