تَقَمُّص/ شعر: يوسف حطّيني
إذاً .. سأطيرُ نحوَ نهايتي يومَا
وهذي النفسَ سوفَ تزيحُ
ما أحسستُه وهمَا
وفي نزقٍ قميصُ الرّوحِ
سوف يُغادر الجسمَا
وقلبي الموجعُ المكلومُ
سوفَ يعانقُ الحُلْمَا
إذاً سأطيرُ نحوَ الضّفّة الأخرى
أرى حولي ملائكةً
بأجنحةٍ أثيريّهْ
أعاتبهم:
أنا لم أحتفلْ يوماً
بفجرٍ مقدسيّ الروحِ
في أفراحِ أمسيّهْ
ولم أحضنْ ترابَ الحقلِ
لم أنثرْ على الجدرانِ في عكّا
صِبا امرأةٍ جليليهْ
ولم أعثرْ على طفلٍ
بعمرِ الوردِ يشبهُني
ليشعِلُ ظلمةَ المنفى
حكاياتٍ خرافيّهْ
ولم أرضعْ حليبَ القمحِ
في أحضانِ غزّيهْ
أما من مهلةٍ كي أسقيَ الأزهارَ
في حُلُمي
لعلّي أوقظُ الأوراقَ
في رؤيا خريفيّهْ
* * *
أرى حولي ملائكةً
بأجنحةٍ أثيريّهْ
وما في النفس
غيرُ ظلالِ أمنيّهْ
ولكنَّ الرَّدى المفتوحَ باباً ليس يُمهلُها
ويُغلق دونها الرُّجعى إلى دنيا تُحاولُها
وتهفو نحو كرملها.. فلا ترقى
وتغفو في بحيرتها.. فلا تُسقى
وما في الأفقِ غير الكوّة البيضاءِ
تحجب سوءَها عنها،
فتشبع ذاتها لوماً،
ولا يبقى
سوى ظلٍّ يُطمئنُها
وصوتٍ يملأ الدُّنيا:
تعالَيْ.. وارجعِي نحوي
وتُوبي.. وادخلي الفردوسَ
حَيثُ النَّفسُ لا تَشقى
ـ أما من لحظةٍ أخرى؟
أما من طرفةٍ كي ينظر المنفيُّ للوطنِ؟
أما تستأخرُ النَّفسُ الّتي وُلدتْ معَ الكَفَنِ؟
******
إذاً..
سألملمُ الأشواكَ من دربي
وأَجعلُ هجعةَ الماضينَ
رابيةً منَ العُشْبِ
وأزرعُ قصّة التّاريخِ في روحي
وأنزع فضّة النسيان من قَلبي
ولكنّ المدى المجبولَ في حلكٍ يحاصرني
سوادٌ كلّ ما حولي
ونفسي في دُجى الظُلَمِ
وهذا القبرُ يرفعني إلى العَدَمِ
وفوق القبرِ لا عشبٌ ولا ماءُ
فلا هندٌ تغازلُني
ولا تأتي لتزرعَ وردةً في القحطِ
عَفْرَاءُ
*****
أعيشُ هنا بلا نبضٍ
رأيتُ القلبَ
عُصْفُوراً من الشَّجنِ
غَذَاهُ صوتُ فيروزٍ
وحمّلهُ أغاني الرّيحِ للفَنَنِ
فغادرني
بعيداً عن ترابِ الدّودِ والعفنِ
وهامَ على سجيّتهِ
يقبّلُ زهرةَ التفّاحِ..
شهْدَ اللّوزِ في سَفحٍ جليليٍّ
وينهلُ خمرةَ الأعنابِ
في كرمٍ خليليٍّ
يناجي جدّة الزيتونِ
يمضي نحوَها خِمْصا
ويغدو طاعِماً نشوانَ
كي يلقي تحيّتَهُ على الأقصى
ويرسُم آخرَ الخفقاتِ أغنيةً
ويملأ صوتَه حِرصا:
هنا سأموتُ .. لا مثوى
سِوى الأرضِ الّتي أهْوى
ترابي، رغمَ برْدِ النّفي والتّهجيرِ،
رغمَ القتلِ والتّدميرِ،
يبقى عشقيَ الأقوى
وقدسي جنّة المأوى
******
_ وفيضُ الرّوحِ؟
أينَ نأى عن الجسدِ
الّذي أضناهُ منفاهُ؟
_ سمعتُ حكايةً عجباً
هنالِكَ في أقاصي الكرملِ المبحوحِ
ثمّ غزالة تسعى إليهِ
تباركَ اللهُ
تحوكُ الشِّعر أرديةً
كأنّ الشّاعرَ المجنونَ يُمْليها على غدِهِ
فتغدو ظلَّ منفاهُ
كأنّ الحُزْنَ في دمِها خطاياهُ
وما نزفُ الهوى المذبوحِ في العينينِ إلاهُ
هناكَ غزالةٌ ثَكلى
تُحدِّثُنا عن الماضي الّذي عاشتْ حكاياهُ
عن الأطفالِ قبلَ أوانهم كبروا
عن الشُّهداءِ
حينَ مخيَّم اليرموكِ يدفنُهم
فيطلعُ حولَهم شجَرُ
وتعشقُ مثلَ شاعِرِنا زهورَ الأرضِ
حين يرشُّها المطرُ
وتبهجُها بنفسجةٌ
ويُحزِنُها قطارٌ
هدّهُ السَّفَرُ
*******
عزيزي القارئُ المنفيُّ
إنْ شاهدْتَ عُصفوراً
يلمّ الحُزْنَ من أطرافِ وادينا
وإن أبصرتَ ظلّ غزالةٍ بيضاءَ
تسرحُ في بَوادينا
فخذْ من شِعريَ الغَافي
بنفسجةً من الأحزانْ
وضعها وسْطَ مقبرةٍ
على قبرٍ بلا عنوانْ