يومَ توحَّمَتْ نهيلا
(إلى عبد الهادي جنيدي)
بقلم : فرحان ريدان
كما تعرف ،نحن في نابلس ، مثلكُم في حلب ،نسمِّي القابلة: دَاي ، ونناديها : يُمَّا .
جئنا إلى الدنيا : واع واع .. فكانت أولَ من استقبلَنا. لَمَسَتْ لزُوجَتَنا ولم تأنفْ منّا
ورأتنا كما خلقَنا الله ولم نخجلْ منها .. واع ..واع .. نظَّفتنا ، وقبَّلتنا ، وطمأنتنا .
كِبرنا ، تعلّمنا ، تقاتلنا ، تزوَّجْنا.. وواحدنا يقول :صبحك بالخير يا أم أمين ..ادعِ لي يُمَّا
أو يتصل من عاصمة بعيدة : يُما بعثتْ قرشين ،لا تواخذيني ، مش من قيمتك يُمَّا .
وهي تحبنا جميعاً ، ما إن ترى أحدَنا حتى تُسارع في السؤال عن صحته وأحوال أسْرته
في الصيف الماضي رأتْ عفيف ابنَ عمتي محاطاً بمرافقيه. كان يعبُرُ الساحةَ متجهاً إلى سيارته
قالت :كيفك يا أزعَرْ ؟ شلون حالك يُمَّا ؟
ابنها أمين لا يبخلُ في شيء، لكنه بعيد، في فرنسا،تزوجَ ولم تحضُرْ عُرسَهُ وأنجبَ ولا تعرف أولادَه ويتصل : بَدِّكْ شي يُمَّا ؟ فتقول : بَدِّي شوف ولادَك يُمَّا .
أرضُ دارها مفتوحة على الساحة ، فيها حوض مَردكوش ، وزيتونتان بينهما مصطبة
ويطيبُ لصغارنا أن يحلّوا ضيوفاً على أم أمين !
فيتعربشون على السطح وينطُّون على الخابية .. ويتباطحون على المصطبة :
يعيْدونَ ما فعلناه نحنُ في شقاوة أوضح . وحين تأتي امرأةٌ وتهمسُ لأم أمين ثم تخرجان معاً
في خطىً حثيثة يفهمون أن امرأةً توشكُ أن تلد :
نتوقفُ عن اللعب ، يصمتون ، ثم ينسحبُ كلٌ منا إلى بيته .
وتراها تعبُرُ الساحة وهي تُردِّدُ الفاتحة التي تحفظها غيباً، فهي لا تعرفُ القراءة
يوم الأربعاء الماضي،وقبلَ طلوع الشمس، كانت عائدةً إلى بيتها فأم حسان رُزقتْ بمولود ثالث
.. وعندما صارت على تخوم الساحة تذكَّرَتْ أن نهيلا مَرْتْ ممدوح في الوحام
وأنها تشتهي طُلميَّة محَمَّصَة ، وأم أمين تعرفُ أن حليمة مَرْتْ ياسين تخبزُ كل أربعاء
وبالفعل ما إن نظفَتْ حليمةُ الصَّاجَ وأوقدَتْ التنور حتى رأت أمَّ أمين تدخلُ الدار
قالت حليمة مبتهجة : يا حيَّا الله يُمَّا .. حَلَّتْ علينا البَرَكي
– الله يصبحك بالخير ياحليمي .. رُقِّي طلميِّي لَ نهيلا
– من عيوني يُمَّا ، ليش نهيلا لحْقِتْ تِحبَلْ ؟
– سِدِّي بُوزِكْ ! الوَحَدي فيكُنْ بَسْ يِدْعَسْ رجَّالها بأرض الدار بْ تحبَلْ
.. أوقفَها الجنودُ عند بيدَر ناهي ، والطلمية في يدها، وهي لا تُريد أن تطويها
فهذا يُفسدُ شهيةَ نهيلا. اقتربُ جنديٌّ يُفتِّشُها فأوشكَتْ يَدُهُ أن تلمَسَ الطُّلمية
نَقَلَتْ الطلمية إلى يدها اليسرى وأبعَدَتْها وراء ظهرها ثم فَرَدَتْ يُمناها
ودَفعَتْ الجندي في صدره . احتشدَ الأولاد حولَ أم أمين كأنما انشقَّتْ الأرضُ عنهم
اعتقلوها وأصعدوها إلى سيارة الدورية. حَمَلتْ الطلمية وحرصَتْ أن تظلَّ مفرودةً
ثم نظرتْ في عيون الأولاد وقالت في لهجة آمرة : تْخافِنِّشْ يُمَّا. رَدُّوا : مِشْ خايفين يُمَّا.
أفرَجوا عنها بعد ساعة ،خرجَتْ والطلمية في يدِها وما إن رآها الأولادُ حتى اندفعوا إليها
قالت وهي تقبَّلهم:( تقبروني ،شوفتكُمْ ب تردّ الروح ).ثم وقعَ نظرُها على يحيا ابن ابراهيم
وهو ابنُ سنتين.كان حافياً وعارياً. انحنتْ وحملتْه.قال سلمان ابن معضاد:أنا بحمْلو يُما
ردَّتْ : بحملو بعيوني يُمَّا . عادتْ إلى دارها وهم يحفُّونَ بها . وفي الطريق سألَتْ يحى
وهو على يدِها: خفتْ يا يحى ؟.قال : مَخُفتِثْ منهم .. خُفت عَليتي يُمَّا
في مساء اليوم ذاته ، اليوم الذي توحَّمتْ فيه نهيلا، تخاصَمَ جميعُ الرجال مع جميع الرجال
في ساحة البلدة، تضاربوا بالأيدي، تصايحوا ، وتشاتموا
خرجَتْ أم أمين من دارها لحظة قال فارس لمحفوظ:
انقلعْ من هان يا كلب واحد عميل وعامل حالك ثوري
ردَّتْ أم أمين : ( طبّقْ نيْعَكْ يا فارس) فصمتَ فارس على الفور .
ثم اتجهَتْ إلى مجموعة الرجال الذين يحاولون منع محفوظ من الوصول إلى فارس،كان محفوظ
قد أشهَرَ مسدسه وحالَ بعضُ الرجالُ بينه وبين خصومه، وكان الشرُّ واضحاً وضارياً
في عينيه ، وبدا أنه لن يرتدع . صاحتْ أم أمين : روحوا غاد !
أفسَحوا لها ، تقدَّمَتْ من محفوظ ، نظرَتْ في عينيه صامتة ً
متجهمة ، ثم صَفعَتهُ في وجهه.بوغتَ محفوظ. وقف ذاهلاً ، وواجماً ، ومشوشاً .
استدارتْ راجعةً إلى دارها ، لكن خطواتهالم تكن كما عهدناها كانت تمشي كالدائخة
وإذ صارت عند المصطبة ترنَّحَتْ وارتمَتْ فوقها، ثم فتحَتْ نحيبَها. ركضنا إليها
وركضَ محفوظ معنا. سمعناها تبكي تقول :
( الحق عليّي اللي ما خنَّقتكم وإنتو زغار ..أستغفرُ الله العظيم )
ورأينا محفوظ يرتمي على يدها ويقبّلها . ورأيناها تحضُنُ محفوظ وتضمُّهُ إلى صدرها
محفوظ يبكي ويقول: بتمُوني يُمَّا ، وهي تُجهشُ وتقول : تنقطعْ إيدي يُمَّا