لماذا نغني.. بقلم الأديب والمخرج المسرحي فرحان ريدان

لماذا نغني.. بقلم الأديب والمخرج المسرحي فرحان ريدان

لماذا نغني

بقلم: فرحان ريدان

لماذا نغني ؟
” لنُلهي المسافة َ عنَّا ” يقترح محمود درويش .
الغناء في مواجهة أعباء المسافة : أعباء المكان . إذ يمكن للمسافة أن تكوْنَ ، ببساطة:
الطريق إلى البيت / البلاد . وثمة ما يحوْلُ بينك وبين ألفة بيتك .
عندها قد تقول مع درويش: ” سأقطع هذا الطريق الطويلَ ،الطويل إلى آخري وإلى آخره ”
ويمكن للمسافة أن تكون الكون ذاته ، الكون الذي لا يُحَدُّ .إذ إن أقرب مجرة إلينا ، أندروميدا، تقول الفيزياء، تبعد عنا مئات السنوات الضوئية . ونجد أنفسنا ، وفق درويش ، إزاء خيارين ، إما أن :
” نقيس الفضاء بمنقار هدهدة ٍ، أو : نغني لنلهي المسافة َ عنَّا ” .
شعراء ، ومبدعون كثيرون أربكَ عقولَهم عبءُ المكان :
ليت الفتى حجرُ : يقول تميمُ ابنُ مُقبل.
ويقترح الأخوان رحباني وفيروز شيئاً آخر :
أقول لجارتي : ألا جئت ِ نسهر ْ
فعنديَ تين ، ولوز ٌ ، وسُكَّر
نُغنّي ، فأنت ِ وحيدة
وإن الغناء ْيخلي انتظارك ِ أقصرْ
الغناء ، هنا ، في مواجهة الوقت ،ضراوة الانتظار :
عبء الزمان . وثمة فلاسفة ، ومبدعون أربكَ عقولَهم عبءُ الزمان:
” علّلاني فإن بِيضَ الأماني فنيَتْ والزمانُ ليس بفاني ” يقول المعري .
والزمان الذي نتحدث عنه ، هنا ، ليس زمانَ نيوتن المطلق ، ولا زمان أينشتاين النسبي ! نحن نتحدث عن أعمارنا ، ” العُمر جفلةْ فرَسْ والناس خيَّالي ! ” كما يقول طلال حيدر،
نتحدثُ ،إذن، عن زمان يكاد يكون زماناً نفسياً ، وذاتياً. فحين نكون مع من نحب تنقضي الساعات فلا نشعرُ بها، ذلك أن الأفراحَ مجنَّحة كما يقولون ! وسرعان ما تفرُّ لحظة البهجة ، اللحظة الحاضرة ، حيث يُمناكَ تطوق خصرَ الغزالة، وتصيرُ ماضياً ! .
وحدَهُ الغناءُ / الفنُّ يخففُ عنا عبء الزمان ، وعبء المكان : يخفف عبءَ الحياة .
وحدَه الغناء يمدُّ ذراعيه مواسياً إذْ تباغتنا العواصفُ .الغناء ينعشنا ، يساعدنا في تحمل فجاجة اليومي وبرودة الحياة .كأن الغناءَ مَلاذٌ ، إشراقة ٌحانية تنسربُ إلى الراعش العميق في ثنايا نفوسنا ، فنسمو ، ونقترب من الانسان كجوهر ، وننأى عن الانسان كَ عَرَض . الغناء يُدخلنا في مناخات التأمُّل ، في ذواتنا، والمصائر، ويجعلُنا نترفَّعُ عن الضغينة ، والصغائر ، ويعزز في نفوسنا محبة البشر : كل البشر .
هذه الفضاءت الرحبة التي ينقلنا إليها الفن هي ما يُصطلَحُ على تسميته : الإمتاع :
لنتأمل ، الآن ، اقتراح شكسبير في مسرحية بيركليس حيث نسمعُ (كاور ) يقول :
ها قد جاءكم كاور
متسربلا ًبأردية الفناء
ليغني لكم أغنية ً
غنُّوها من قديم الزمان
للترويح عن النفس
وحَثِّ الناس على المجد
غاية ُ الغناء / الفن ، في اقتراح شكسبير : الإمتاع ( الترويح عن النفس) لكننا نتلمَّسُ
ملمحاً جديداً : ( حثُّ الناس على المجد ) كغاية من غايات الفن القصوى . وهي غاية جوهرية ،ونبيلة ، ومفعمة بالإنسانية . ومتناغمة مع النزوع الإنساني للقيم العليا ومع التوق المتأصل في طباعنا ،نحن البشر، نحو الحرية ورفضنا الفطري للظلم ، والحيف ، واستعباد البشر .

https://www.facebook.com/profile.php?id=100009290418907

 

اترك تعليقاً