المثقف الأزعر
بقلم: أنور الخطيب
لن أتوقف عند تعريف “المثقف” لكنني سأكتفي بانحيازي إلى توصيف المفكر الكبير الراحل د. إدوارد سعيد بأن المثقف هو المنهمك بالشأن العام ويتخذ موقفا من قضاياه. ويؤمن د. إدوارد بالمثقف المستقل، ويقول في كتابه “الآلهة التي تفشل دائما” (لا أريد أن أراوغ أو أسمح لنفسي كثيرا في الغموض في البداية: أنا ضد الاهتداء والإيمان برب سياسي من أي نوع..). ولا شك أن المنهمك في الشأن العام هو إنسان تحصّل على معرفة متخصصة أو شاملة تؤهله لتكوين رؤية تنحاز إلى الحرية وحقوق الإنسان وحريته في التعبير. أما الأزعر فمعناها في قاموس المعاني هو السيئ الخلق، وهو الموضع قليل النبات.
والسيء الخلق عبارة تشمل السلوك الإنساني والاجتماعي والثقافي، وبالتالي فإن قيام أحد ما أو جهة ما في تزوير انتخابات نقابية يعكس الخلق السيء، وتقديم رشوة للمنتخبين، إن كانت وعدا بمنصب أو بطباعة كتاب أو بمشاركات ثقافية إعلامية وغيرها هو سلوك سيء، والاحتماء بالسلطة أو بحزب أو تنظيم وممارسة الاحتكار والدكتاتورية ومصادرة حق الآخرين في التعبير عن آرائهم وتوجيه النقد هو خلق سيء، وبالتالي فإن الأزعر ليس من يتحرش بالنساء أو يفرض الخوّات ويعتدي على الآخرين ويفتعل المشاكل، إنما يتعدى الأمر إلى ما أشرنا إليه. أما الأزعر بصفته الموضع قليل النبات، فينطبق أيضا برمزيته على الإنسان الذي لا يؤمن بتعدد الرؤى والأفكار. فهل هنالك “زُعْر” (وهي جمع أزعر للمذكر، وزعراوات للمؤنث)، يعني مثقف أزعر ومثقفة زعراء وفقا لموضوعنا.
أعرف مثقفاً تسلّم منصب رئيس اتحاد للكتاب في بلده، قام بتقديم رشاوى لزملائه (المبدعين) بهدف انتخابه ثم طبّق الأسلوب ذاته لإعادة انتخابه، ولم تكن الرشاوى نقودا بل حجز غرف في فنادق ومآدب طعام وإشراكهم في الأنشطة وترشيحهم لجوائز، ووعودا أخرى بضمهم لمجلس الإدارة، وبعد فوزه أنشأ قائمة سوداء تضم كل من لم ينتخبه ومن انتقده في وسائل الإعلام ومنعهم من المشاركة في فعاليات اتحاد الكتاب، ومن ناحية أخرى قرّب كل من كتب مقالة أو كتابا عنه بصفته شاعرا، بل قرّب كل من داهنه ونافقه وأجزل له العطاء (ثقافيا)، هذا الإنسان الذي خسر تاريخه الإبداعي، في تقدير كثيرين، أطلق إشاعة سخيفة على أديبة رشحت نفسها لمنافسته على رئاسة اتحاد الكتاب، وكانت إشاعة أمنية. وأعرف أيضا كاتبا كبيراً كان يرأس ملحقا ثقافيا، كان يشترط بطريقة أو بأخرى، على من يرسل له مادة للنشر، أن يتناول إحدى كتبه بالمديح والثناء، وأعرف رئيس اتحاد كتاب استمر في منصبه عشرين سنة، وأعرف رئيس نقابة فنانين احتفظ بمنصبة ثلاثين سنة! أليست هذه الدكتاتورية بعينها؟!
هذه نماذج للعديد من الحالات الثقافية والنقابية في دولنا العربية ودول العالم الثالث، ينطبق عليهم وصف المثقف الأزعر، ويندرج تحت العبارة نقاد منافقون يمتدحون كاتبات فاشلات وكتابا ضعافاً، وإعلاميين مرتزقة يوظفون أقلامهم ومساحاتهم الفضائية المرئية والمسموعة والمقروءة لمن يدفع أو يقدم لهم امتيازات أكثر، ورؤساء منتديات يحتضنون شعراء وكتابا متواضعي الموهبة مقابل خدمات متنوعة، ونساء جميلات كريمات في عطاءاتهن الأنثوية، ومسؤولين رسميين في مؤسسات ثقافية حكومية، ولجان تحكيم ارتضوا أن يكونوا أدوات للسلطة ويعلنوا نتائج بعيدة عن المعايير الإبداعية تنفيذا لإملاءات رسمية، هؤلاء جميعهم مثقفون زُعْر، يتصفون بالأخلاق السيئة، وهم كالمواضع قليلة النبات أيضا. كان من الممكن ذكر الأسماء، لكن البلطجة ستكون الرد، وربما يصل الأمر إلى رفع دعاوى قضائية، وما يهمنا هنا ليس الأسماء وإنما تسليط الضوء على الحالة والمشهد.
هناك مثقفون زُعر يشهرون في وجهك وطنيتهم ويتهمونك باللاوطنية على أقل تقدير، وأحيانا بالجبن لأنك مثقف مستقل، وإذا ما ناقشتهم يرفعون شعارات كالببغاوات ويحتمون بها ويتمترسون خلفها، ويقصونك من عالمهم المبني على الشللية والمحسوبة، وقد يمارسون استزلاماً سخيفا.
هؤلاء يتسيدون المشهد الثقافي ويحتكرونه، ولولا وسائل التواصل الاجتماعي والفضاءات الإلكترونية والمثقفين الأحرار الشجعان، لتمكنوا من السيطرة على المرحلة الثقافية الجديدة أيضا، وواصلوا ابتزازهم للمبدعين من كتاب وفنانين ونقاد، وتحكموا بمفاصل الأنواع الإبداعية، إذ معظم هؤلاء كلاسيكيون تقليديون لا يؤمنون بالتطور والحداثة، ويتعاملون مع من يخالف مدرستهم كعدو أو منشق أو عميل يرمي إلى تشويه الثقافة (الأصلية). هؤلاء هم من يقف سداً أمام وجود قصيدة نثر جميلة أو قصيدة تفعيلة في المناهج الدراسية، ويأخذون التلاميذ رهائن في عالم عنترة والمتنبي وامرؤ القيس وطرفة ابن العبد وغيرهم، هؤلاء هم متطرفوا الثقافة ودواعشها، ينسقون فيما بينهم ويتبادلون حضور المهرجانات ويتقاسمون الجوائز بأخلاق ثقافية سيئة.
الجماهير العربية هذه الأيام تنتفض لإسقاط الأنظمة السياسية، بينما هناك منظومات ثقافية واجتماعية واقتصادية تمارس الفساد أيضا، وهي المسؤولة عن بقاء الأنظمة السياسية. الفساد الحقيقي ليس سرقة المال فحسب، إنما تكريس وتثبيت سلوكيات ثقافية واجتماعية ومدنية متخلفة وغير حضارية، بالتالي تجذير الفساد والهتك المتواصل لأخلاقيات العمل الثقافي والمجتمعي، أي هناك زُعر يتآمرون على القيم الحقيقية المسؤولة عن ارتقاء المجتمع وثقافته.
حين نتخلص من زُعر الثقافة، سنتخلص من زُعر الشارع وفساد السلطة، لهذا لا بد من تعرية هذا الأزعر المثقف وتلك الزعراء المثقفة للنهوض والارتقاء.