أنور الخطيب في رواية “الكبش”
سارد الأحلام يبحث عن وسادة نظيفة
د. يوسف حطّيني
أولاً ـ تمهيد حكائي:
تبدأ رواية “الكبش”[1] للكاتب الفلسطيني أنور الخطيب من مقطع سردي عجائبي يلقيه الغزالي/ المهرّج على مجموعة من المتلقّين، استباقاً لمسرحية، عن كيفية وصوله إلى المكان ماشياً على سطح الماء، وعند انتهائه من عرضه يجد نفسه مستنداً إلى سور مسرح المدينة، بينما يسأله رجل فارس عن القصة التي قدّمها، ثم يطلبُ منه، بوصفه طبيباً بيطرياً أن يرافقه إلى مزرعته؛ كي يعالج له حصاناً لا يصهل؛ وإذ يقضي الغزالي في المزرعة أياماً يكشف للفارس أنّ معاناته الكآبةَ انتقلت إلى خيوله، فيخصّص الأخير للغزالي شقّة سكنية وعيادة.
يذهب الغزالي الطيبب إلى “نادي ومطعم الهمنغواي”؛ حيث تتقدم إليه معصومة، فيرفضها، ثم سمير فيرفضه، وعند خروجه تأتيه أصوات من الجهات الأربع في طريق عودته بأنّ رفضه لهما يدلّ على أنه يرفض اللذة المحرمة واللذة الشاذة، وأنه يبحث عن لذة خالدة. وإذ يستشير جاره المسعودي/ مفسّر الأحلام يرجّح أن تكون تلك الأصوات علامات من السماء. وتتطور الحكاية حين يحلم الغزالي أنّ المسعودي يحاول جرّه إلى البحر، ويلاحقه على الشاطئ بغية قتله؛ فيحاول المسعودي المفسّر أن يقنعه بأن جرّه إلى البحر إشارة إلى أنّه سينقذ البشر من الضلال.
ثمّ يحلم الغزالي بعد ذلك بمقتل أوفيسر (حارس المبنى) بطريقة بشعة، وتتهمه الشرطة بقتله، وتحقق معه ثلاثة أيام، ثم تفرج عنه بطريقة غير مفهومة، ويقدّم لنا الكاتب الحلم في إيهاب الواقع، باحترافية توهمنا أنه جزء من سياق غير حلمي. وحين يذهب الغزالي إلى صديقه الطبيب لبيب يؤكّد له أنّه تحت تأثير مادة مخدرة، فيواجه المسعودي بشكوكه وبأحلامه، فيقبل ذلك المخادع يده، ويقول له: أنت مبارك أيها الغزالي، لأنك تشبه الأنبياء في كل شيء، إلا في دخولك المدينة مهرّجاً.
الطبيب الغزالي الذي يتمنى في قرارته قتل المسعودي المخادع يذهب إلى شقته، وهو يلبس عباءة سوداء، ويحمل سيفاً، ويمثل دور المبارك الذي حلم بأنه يقتل المسعودي، فيقدّم له المسعودي كبشاً/ فداء هو امرأة (ربما كانت معصومة)، بينما يرسل الغزالي للمسعودي دوغي/ صاحبة الكلب الذي لا يريد مضاجعتها؛ ليجد الغزالي نفسه أمام المهمة الرئيسية التي أعدّه لها المسعودي: أن يكون مباركاً وأن يجهّز نفسه لتفسير حلم فارسٍ مهم، وقلب رموزه المشوّهة لصالح ذلك الرجل.
وفي حضرة الفارس المهم، في شقة المسعودي، تتجلّى براعة الغزالي، ويطلب الرجل منه أن يراه في مزرعته، فيخاف المسعودي أن يأكل الوليّ المبارك الكعكة وحده. وفي مزرعة الرجل الفارس (التي يوهم السرد دون تصريح بأنها مزرعة الخيول التي حاول الغزالي علاجها) يلتقي رجلاً أكثر أهمية من الفارس هو التوحيدي الذي يطلب منه أن يلتقيه بعد يومين بعيداً عن الفارس والمسعودي كليهما، ويجد الغزاليُّ/ الطبيبُ نفسَه أمام تناقضاته: أن يكون نفسه، أو أن يحقق رغبة المسعودي والفارس والتوحيدي، فيغسل آثامهم وفسادهم أمام العامة، وفي وسائل الإعلام، ببَرَكته الزائفة.
إنّه الطبيب الذي زاره في عيادته كلبٌ، تريد صاحبته دوغي أن يضاجعها بالقوة، ثم زارته معصومة التي تشعر أنها حيوان أو كبش، وزاره رجل يشعر أنه حيوان؛ لأنه يعيش نظاماً متكرراً في حياته، وفيها قابل “حياة” سكرتيرته التي اكتشف بعد أن أحبّها أنها ابنة الفارس، وأنّها ستساعده كثيراً كي يكون نفسه.
هكذا ذهب الطبيب البيطري إلى التوحيدي، وخلع عباءة بركته، واعترف بكل ما كان التوحيدي يعرفه أصلاً، ولكنّ الأخير طالبه بمزيد من الكذب من أجل تحسين صورته أمام الرأي العام. غير أنّ الطبيب يخرج من القصر رافضاً العرض، ويتوه، ويجد نفسه أخيراً، مستنداً إلى سور مسرح المدينة، كما في البداية تماماً، بينما يسأله الفارس في بنية غرائبية عن القصة التي قدمها.
ثانياً ـ السرد وتأثيث المكان:
لم يكن من الممكن أن نبدأ دراسة هذه الرواية دون إعادة ترتيب أجوائها، وتقديم أحداثها العجائبية والغرائبية بشكل مفهوم، بعد أن قدّمها الكاتب في لعبة سردية فائقة الإيهام، تستند إلى الأحلام والكوابيس، يعضدها في ذلك إيهام مكاني، يجعل ساحة الرواية تمتدّ على مساحة الوطن العربي، وكان من الممكن أن تمتدّ أكثر؛ لتشمل العالم الذي يشتعل فساداً، لولا الأسماء العربية التي اتخذتها شخصياته. وكان من الممكن، أيضاً، أن يمتد ـ استناداً إلى تاريخية هذه الأسماء ـ عميقاً في الزمن، لولا الإشارات الحداثية العامة، كالمقاهي والصحف والعيادة والـ إس إم إس وحصار غزة، وغيرها.
غير أنّ عدم تحديد المكان لا يعني عدم تأثيثه بالأشياء والأصوات والروائح، والشخصيات التي تخترقه وتعلّل وجوده، وقد اهتم الكاتب بتأثيث صالة الهمنغواي المقسمة إلى ثلاثة أقسام: “في الوسط تتوزع الأرائك حول صالة الرقص التي يقع البار خلفها، وهناك جزءان على اليمين واليسار”، ص73. كما اهتمّ بالعيادة والمزرعة إلى حدّ ما، غير أنّه فصّل تفصيلاً موظّفاً في تأثيث مكتب الرجل الكبير، لا بالأثاث فقط، بل بالأطعمة والأشربة، الموجودة منها، والمحتملة؛ فبمجرد اجتياز الغزالي مدخل القصر الكبير تم اقتياده إلى صالة كبيرة ثمّ إلى صالة أصغر منها: “اقتربت مني شابة وجهها جميل، وقادتني إلى صالة أخرى أصغر، أشبه بمكتب كبير يحتوي على طاولة ضخمة مصنوعة من الخشب المحفور بعناية على شكل رؤوس أسود، وأرائك موزعة بطريقة تجعل الجالسين في مواجهة طاولة المكتب”، ص229.
ومثل هذا التأثيث الذي يراد منه بعث الفخامة والرهبة معاً يعضده وصف للطاولة التي امتدت أمام ناظريّ الغزالي الذي يراد منه أن يفتح عينيه، ويغلق عقله:
- “أجلستني الصبية القصيرة في الوسط، كانت أمامي طاولة عريضة سطحها لامع، وعليها صحون عديدة تحتوي على مكسرات وقطع جزر وخيار، وأطباق صغيرة تحتوي ورق عنب وكشري وتبولة وبابا غنوج….”، 229.
- “سألتني الصبية بصوت طفولي ناعم: ماذا أقدّم لك يا سيدي؟ شاي، قهوة، عصير، ويسكي، نبيذ، شاي أخضر، عصير طازج، شوربا ساخنة…”، ص229.
وقد اهتمّ الروائي بالتأثيث عبر الرائحة اهتماماً كبيراً، على نحو يعيد إلى ذاكرتنا سرد الروائي الأردني غالب هلسا، فأنور يؤثث المكان والجسد بالرائحة، بما يخدم الحكاية، فيجعل رائحة الهمنغواي الليلي “تشبه رائحة العربدة، عرق وكحول ونوايا إناث ماكرة، وعيون جائعة، وأفواه ذكور لاهثة، ورائحة طعام مشبع بالبهارات الغامضة”، ص27، بينما يقدّم رائحة جسد معصومة[2] محفّزة للتهيؤات: “كانت تفوح من جسدها رائحة غريبة، كأنها ضمّخت جسدها بالمورفين أو الهيرويين. لعبت بخيالي لعبة التهيؤات، فغيّبت فكرة عناق الجسد بالجسد، وأرهقتني دون ملامسة”، ص131.
كما نظر السرد في هذه الرواية إلى المكان من وجهة نظر الأليف والمُعادي، سواء أكان ذلك عبر تسميته أم عبر صفاته، فالشقة من وجهة نظر “حياة” مكان معادٍ؛ لذلك تطالب الغزالي أن يعود إلى تسمية البيت: “قاطعتني بلهجة قاسية: أكره تسمية البيوت بالشقق، لأنها تحيلني إلى معاني الشقاق والانشقاق والشقوق، حين تتحدث معي أرجو أن تستخدم كلمة البيت، رغم أن البيوت التي نسميها شققاً لا تعني سوى أن يحشر الناس فيها حشراً كزرائب الماشية أو زنازين المساجين، لا شرفات كبيرة، ولا ورود[3]، ولا صباحات أو مساءات”، ص196.
والسرد يشير في توظيف ماكر للمكان المعادي، غرضه زيارة الفارس لشقة المسعودي، إلى أنّ المبارك/ الغزالي لا يزور القصور (التي يزورها لاحقاً)؛ حيث تتعطّل الرؤيا: “المسعودي كان قد أقنع ضيفه بالحضور؛ لأنني لا أزور القصور أو البيوت المرفّهة؛ فالرؤيا تتعطل في المكان الباذخ، وتغيب إذا حضرت ملاعق الذهب وكؤوس الفضة”، ص157.
ثالثاً ـ العجائبي والغرائبي في بنية الرواية:
مال الزمن، في بنية الرواية الأساسية، إلى التغريب، على الرغم من تعاقبية حكمت الأحداث، وكسرتها مرتين في لعبة تعود بالغزالي إلى طفولته. بينما تقسمت الحكاية الكبرى المشدودة إلى المسرح من ناحيتيها، إلى ثمانية فصول هي على التوالي:
1 ـ المهرّج.
2 ـ وكيل الله.
3 ـ أوفيسر.
4 ـ المبارك.
5 ـ الفارس.
6 ـ حياة.
7 ـ كان يا ما كان.
8 ـ مسرح المدينة.
وقد تجلّت عجائبية الأحداث في البداية؛ حيث جاء الغزالي إلى المدينة ماشياً على سطح الماء؛ ليعرض حكايته على مسرحها، انقلبت إلى غرائبية في أزمتها ونهايتها؛ حيث تاه عن الشخصيات التي يعرفها، وتاهت عنه، ووجد نفسه من جديد عند سور المسرح، وقد منح ذلك التكرار المقصود للمشهد الابتدائي السردَ بنية دائرية مُحكمة الإغلاق:
- “كنتُ أجلس على حافة سور منخفض يحيط بالمسرح؛ لأستريح من ضبابية الجمهور الذي شعرت فيما بعد بغيابه (…) عطّل انشغالي صوت رجل لامس قفاي بنغمته الخشنة: ما هذه القصة التي سردتها فوق خشبة المسرح، وكان الجمهور بين غاف ومأخوذ وراكع ومائع… إلخ”، ص14.
- “في الصباح وجدتني أجلس أمام مسرح المدينة الكبير، أسند رأسي إلى السور المنخفض (…) عطّل انشغالي صوت رجل لامس قفاي بنغمته الخشنة: ما هذه القصة التي سردتها فوق خشبة المسرح، وكان الجمهور بين غاف ومأخوذ وراكع ومائع… إلخ”، ص245.
ولن يعدم المرء وسيلة للبحث عن دلالة الدائرة السردية التي أُحكم إغلاقها، فهي على صعيد الشخصية، والسارد، والمؤلف، وربما العالم الخارجي، تشير إلى أنّ العالم يعيش في دائرة فساد تشبه المتاهة، ولا يستطيع المصلحون النفاذ منها.
في تقديم النسق العجائبي يتداخل الواقعي بالخيالي، وتتداخل الأحلام بالكوابيس تداخلاً عجيباً؛ فالفارس الذي ينقل المهرج إلى مزرعته، ينقله على المستوى المهني من دور المهرج إلى دور الطبيب، وعلى المستوى الفني من اللامعقول إلى المعقول؛ حيث يبدأ عرض آخر لا يقل أهمية ودلالة عن العرض الأول، وتتابع الأحداث التي تشدّ السّرد إلى الواقعية، بدءاً من وجود الطبيب البيطري في المزرعة، بغية إعادة الصهيل للخيول: “إعادة الصهيل إلى حصانك يختلف عن إعادة العافية إليه، قد يكون في صحة جسمانية قوية، أما الصهيل فهو موسيقى لمداه”، ص15، ومروراً بالسيف والشقة والعيادة التي قدّمها الفارس هدايا للطبيب، وليس انتهاءً بالزيارات التي تشهدها العيادة.
غير أنّ المتلقي لا يكاد يستسلم لسطوة الواقعية، حتى يشدّه السرد مرة أخرى إلى الغرائبية التي احتلت محلّ عجائبية السرد الابتدائي، وذلك من مثل قول المسعودي للغزالي: “ألستَ الذي حضرت إلى المسرح قبل عام تقريباً، وطلبت من الناس الابتسام لكل جملة تقولها، ثم صعد الرجل الذي ادّعيتَ أنه المخرج، وطالب الناس بألا يصدّقوك”، ص58.
وقد بلغت الغرائبية ذروتها عندما خرج الغزالي من قصر التوحيدي، ضارباً عُرض الحائط بما عَرَضه عليه التوحيدي. وكان لا بد من إغلاق الحكاية فنّياً، بعد أن تمّ إغلاقها رؤيوياً، فكان الحلّ النموذجي أن يفقد الغزالي ذاكرة المكان؛ ليجد نفسه من ثمّ في المكان الابتدائي. لقد طرق الغزالي التائه الباب على أوفيسر ففتح له رجل في الستين وطرده، وطرق باب شقة المسعودي، ففتح له شاب يفرك عينيه، فاتجه إلى الطابق السادس ليسأل عن “حياة:، ففتحت له سيدة تحمل غيتاراً، ووجد على أبواب يعرفها عبارات مثل: “للإيجار.. للمثليين فقط”، و”صالون تجميل الحيوانات”، ص244، وحين حاول الاتصال بالشخصيات الروائية التي شاركته فضاء السرد حدث ما لم يكن في الحسبان:
“أمسكت الهاتف بأصابع مرتجفة، اتصلتُ بسمير فردّ عليّ ضابط في إدارة مكافحة المخدرات، اتصلت بالمرأة الكبش القربان ردت سيدة قالت إنها تتحدث من الكنيسة، وأنهت صلواتها الليلية قبل لحظات، وباركتني، اتصلت بالفارس رد علي رجل الأمن في الهمنغواي، اتصلت بالرجل الكبير، ردّ علي صوت ناعم من آلة تسجيل يتحدث عن أنواع المساج”، ص245.
وإذا كنا نشير في النسق العجائبي إلى سياقات سردية من مثل: “لقد جئتكم ماشياً على سطح الماااااء”، ص7، و”قفزت فوق الموجة الأولى، ثم الثانية ثم الثالثة، ثم بدأت بالسير كأنني أنقل خطواتي الواسعة على طريق معبّد”، ص10؛ فإننا لا ننسى الأصوات الأربعة التي سمعها الغزالي عند خروجه من “الهمنغواي”، والتي جاء كل منها من جهة، وعززها صوت خامس جاء من كلّ الجهات:
- “شكراً لأنك صرفت المرأة البقرة، ولم تستسلم لإغوائها”، ص33.
- “شكراً لأنك لم تتعاطف مع الشاب كثيراً “، ص33.
- “شكراً لأنك لم تترك النبيذ يذهب بعقلك”، ص33.
- “شكراً لأنك لم تشارك في الرقص مع النساء”،ص33.
- “لا تتسرع فتخطئ، فإن أخطأت اتخذنا في حقّك إجراء وكنت من الخاسرين”، ص33.
وتزداد الغرابة حين يصرّ الغزالي على أن يعرف مصدر الصوت، فيسأله عن مكانه، فيجيبه: “أنا في كل مكان.”، ص33، وإذا كان جواب الصوت غيبياً، فإن جواب رجل أمن الهمنغواي يأتي واقعياً: “حين يُفتح باب الصالة تطغى على أي صوت”، ص86؛ لتستمر المراوحة بين الخيال والواقع.
وثمة حدث واقعي، بالمعنى الفني طبعاً، ينتهي نهاية غرائبية، وهو يحتل أهمية كبرى، كونه يشكّل أحد المداخل التطهّرية التي يسعى إليها الغزالي؛ فحين يرسل رسالة (إس. إم. إس) إلى حياة: “أنا قذر وبحاجة لمن يغسلني، أحتاج كفك الصغيرة على قمة رأسي؛ لتسحب العفن الذي يستوطنني”، ص223، يأتيه الردّ على شكل زيارة امرأة، تأمره بعدم فتح عينيه: “سأترك كفي تحلّق فوق جبينك، لا يفصل بينها وبينه سوى ما يفصل الكف عن موقد الجمر في ليالي الشتاء، سأمنحك شلالات ضوئي”، ص223، وتستمر هذه اللغة الشعرية السردية التي قلّ استخدامها في الرواية، مؤشراً واضحاً إلى “حياة” التي وقرت في ذهن المتلقي؛ لينحرف السرد بعد ذلك مؤشراً إلى أمه: “أنا أمك التي ستحضنك بعينيها، وتشدّك إلى صدرها”، ص224.
وكأن دوامة الغرائبية ثالوث لا يكتمل إلا بثالثة الأثافي التي تمثلت في ورقة صغيرة وجدها الغزالي على طاولته: “اغتسل قبل ذهابك، لن أمنعك من مقابلة الرجل الكبير، ولكن كن أنت أيها الغزالي”، ص224؛ إذ إن الخط لم يكن خطّ “حياة”، كما أنّ أمه لم تكن تعرف القراءة والكتابة!!
رابعاً ـ الفضاء الحلمي:
يشّغل الفضاء الحلمي حيزاً مهماً جداً في الرواية، وفي لا وعي بطلها الرئيسي الغزالي؛ إذ تبنى عليه تطورات في الشخصية والحكاية على حدّ سواء. وقبل أن نبدأ بتحليل هذا الفضاء ورموزه لا بد من الإشارة إلى أننا بصدد تحليل أحلام مصطنعة، صنعها خيال الكاتب الواعي، وليس لا وعي الشخصية؛ لذلك فإنّ علينا، استناداً إلى فرويد، أن نفسّر مثل هذه الأحلام تفسيراً رمزياً، وأن نسعى إلى أن نستبدل “بمحتوى الحلم محتوى آخر معقولاً يماثل الأول من بعض الوجوه[4]“.
غير أنّنا لا يمكن أن نقتصر في تحليل الشخصيات على الأحلام؛ ذلك أن ّشخصيات مثل أوفيسر لا تجد متّسعاُ لأحلامها: “لا يحلم من ينظف عشرة أدوار كلّ صباح، ويغسل عشرين سيارة كلّ مساء”، ص142. كما أنّ اعتياد اليومي وألفته تفضي إلى فراغ، لا يتيح للأحلام أن تتشكل، بسبب غياب محفّزها، وهذا ما جعل رجلاً يزور عيادة الغزالي؛ ليعالج نفسه، فهو يشعر أنه حيوان غير قادر على الحلم: “لا مفاجآت في حياتي اليومية، ونومي فارغ تماماً، لا أرى أحلاماً جميلة، ولا كوابيس قبيحة، كأنني حيوان، ولهذا حضرت إلى عيادتك”، ص149.
غير أنّ هذا الرجل لم يكن على حقّ في اعتقاده بأن الحيوانات لا تحلم، فهي تحلم مثلنا، ولكنها “لا تستطيع التعبير عن أحلامها التي تختلف طبيعتها عن طبيعة أحلامك، قد يحلم الكلب بعظمة، أو أنه يلاحق قطة أو حشرة”، ص149، كما أنّ عدم معرفتنا بلغة الحيوان تجعلنا نقرّ ما أقرّه السياق الروائي السابق، وما أقرّه فرويد في هذا الإطار: “أمّا بم يحلم الحيوان؟ فهذا ما لا أعلم عنه شيئاً، ولكن هناك مثلاً سائراً، أدين بمعرفته لأحد تلاميذي، يدّعي معرفة الجواب. يسأل المثل: بم تحلم الأوزة؟ ثم يجيب: بالذرة”، 158.
فإذا بحثنا عمّن يحلمون في الرواية، وعن أحلامهم المتوقعة، يفاجئنا المسعودي بأنّه يتوقع أحلام الناس، ويقيم بين محتوى الحلم ومرجعه الواقعي علاقة توافق، حين يقول:
“وماذا سيحلم الناس وهم يشاهدون الأخبار الحبلى بالموت والدمار والذبح والقتل والرصاص والبيوت المدمّرة التي أفنوا أعمارهم في بنائها؟ لا توجد أحلام يا صديقي. هناك كوابيس”. ص45.
غير أنّ الغزالي يخالفه في ذلك أحياناً، ويرى، ما يراه إدلر[5]؛ حيث إن الأحلام (قد) تأتي لاستكمال نقص ما في حياة الإنسان؛ إذ “يشاهد الرجل نشرة أخبار مليئة بالدم، ويحلم بعد منتصف الليل أنه يحتضن حبيبته وسط حقل مطرّز بالخزامى”، ص46. ولكن الغزالي يعود؛ لينحو منحى المسعودي ذاته حين يقول للفارس:
“أحلام الناس غريبة أيها الفارس القدير، لكنني لا أراها غريبة، إنهم يرون أناساً يطاردونهم في الصحراء والبراري بغية قتلهم بالسيوف والسكاكين[6]، وفي البحر بغية إغراقهم، ومعظمهم يرى في أحلامه أو كوابيسه الفراغ المطلق، النساء يحلمن برجال يغتصبونهنّ، والأطفال يحلمون أن الحرائق نشبت في بيوتهم، وكثيرون يستيقظون فزعين من اختفاء المدينة بأكملها”، ص191.
غير أنه من الطبيعي أن نميل، ونحن بصدد تحليل محتويات هذه “الأحلام الأدبية”، إلى يونغ، ونبتعد قليلاً عن فرويد، لأن “الحلم الأدبي” هو من إنتاج الأديب الذي يهتم عادة بالخيال الجمعي، حتى يوصل رسالته إلى قارئ محتمل، فليس صحيحاً أن المحتويات الحلمية هنا تُستمد من الخبرة، كما يرى فرويد[7]، بل هي في السياق الإبداعي التأليفي مأخوذة من مستودع “النماذج الأولية العليا”، ومن اللاشعور الجمعي الذي نتشارك فيه[8].
وإذا كان الناس الذين يتحدّث عنهم الغزالي ينتمون إلى قاع المجتمع، كما يوحي السياق السابق؛ فإنه يسعى في خيال لاحق، وفقاً لوظيفته التبشيرية (أو ربما الإنذارية) المنتظرة أن يتحدث عن أحلام الحاضرين في أثناء لقائه مع الفارس، وهم من علية القوم. فكأنه أراد أن يواجههم بأن تراتبية القهر والخوف لا تستثني أحداً؛ فأحلامهم أيضاً لا تخلو من المطاردات: “فأحدهم يحلم بخيول وفرسان يطاردونه في الصحراء، بغية قتله، وهذا أثّر على خيوله، والخوف أن يؤثر على جنده”، ص193.
إنّ هذا الهرب في أحلام المطاردة جزء من استراتيجية مواجهة الخطر لدى الحالم، إذ لا يسأل نفسه عن مصدر الخطر أو كيفية مواجهة بل يسعى إلى الركض أو الاختباء أو تضليل المهاجم. ويرى إدلر أنّ ذلك ينبع مشاعر القلق في الحياة، وهذا ما يتوفر في شخصية الغزالي الذي رأى نفسه في مواجهة مكر المسعودي؛ لذلك كان الهرب في الحلم هو رد الفعل الغريزي المناسب: “في هذه الأحلام يرى الحالم نفسه مطارداً من مهاجم، حيوان، وحش بملامح غير واضحة، يريد أن يؤذيه أو يقتله، نتيجة لذلك يبدأ الحالم بالركض، والاختباء، أو تضليل المهاجم[9]“.
غير أنّ المسعودي نفسه كان يتجه في تفسير الأحلام منحى غريباً، لا يستند إلى أية معرفة، أو لنقل إنه يستثمر معرفته في هذا المجال لقلب الدلالات الحلمية إلى أضدادها، بطريقة تثير حفيظة الغزالي الذي يروي حلمه له، على أساس أنه حلم صديق، ولكنه لا يلبث أن ينكشف أمام مفسّر الأحلام الماكر:
“لقد رأيت المسعودي في منامي يحمل شبكة لصيد السمك ويطاردني (…) شاهدتُ المسعودي واقفاً كالمارد إلى جانبي، وقد اسودّ لون بشرته، كان يرفع سيفاً، ويهمّ يضرب به رأسي فاستيقظت”، ص53.
وقد تلاعب المسعودي بتفسير هذا الحلم كثيراً، وقلب جميع دلالاته السلبية إلى أضدادها:
- فـ “البحر خير، ومحاولة الصديق إلقاء الشبكة على صديقه تعني إضمار الخير له، أمّا مشهد السيف الذي لم يكتمل فيعني الحماية”، ص ص77ـ 78.
- “صديقك كان يطاردك في البحر؛ ليدفعك نحو ما هو خير وأبقى، نحو معجزة كبيرة حدثت في القرن السابع قبل الميلاد، كان صديقك يدفعك نحو الحوت العنبري؛ ليدخلك إلى جوفه”، ص78.
- “ثم يقذفك على ساحل لتأكل اليقطين، وتعود إلى الهمنغواي تصلح معصومة وسمير، وتؤمن الفرقة القادمة من جنوب إفريقيا على يديك”، ص78.
وحين يلمح الغزالي إلى غزة المحاصرة يقول المسعودي:
- “وتستطيع أيضاً أن تفك حصار غزّة، وتحرر الضفة الغربية، وتمسح إسرائيل من الوجود، وتوحّد العرب على كلمة سواء، وتبني دولة القانون والشريعة، وتنشر العدل والأمان، وأن تتزوج مثنى وثلاث ورباع، وما ملكت يمينك، وربما تكون معصومة من بينهم”، ص79.
وحين يقول الغزالي للمسعودي: “رأيت حارس البناية أوفيسر مقتولاً في غرفته، كانت مغلقة والمفتاح في القفل الداخلي، وأوقفتني الشرطة ثلاثة أيام، حاولوا زيارتك فلم يجدوك، وبحثوا عن اسم معصومة فلم يعثروا على أحد بهذا الاسم في المدينة كلّها”، ص110.
يتجاهل المسعودي كل تفاصيل الحلم، وينهض، ويمسك كفّ الغزالي، ويقرّبها من فمه، ويقبّلها، ويعلنه رجلاً مباركاً، ص110، ويسعى أن يستعيد معه ما سبق من أحلامه ومن أحاديثه؛ ليؤكد له أنه (مبارك)، ويضمر طبعاً أن يضعه في خدمته لاحقاً، على نحو ما يتضّح في السياقات التالية:
- “هل تعلم ماذا يعني عثورك على الحارس “أوفيسر” مقتولا على وجه اليقين، ثم تجده يمارس الحب مع إحداهنّ، ويحضّر نفسه ليعترف أمامك بخطيئته؟ لقد أحييته أيها الغزالي، وبعثت فيه الأمل من جديد، وطهّرت روحه باعترافه”، ص113.
- “لنبدأ من رحلتك البحرية التي تقول عنها بكل براءة إنك مشيت فيها على الماء، وركع خلفك الرجال الذين كانوا يطاردونك، وهذه القصة وحدها حقيقة كانت أم حلماً تكفي لتكون مباركاً ومؤهلاً؛ لتمنح المدينة وسكانها طعماً آخر للحياة”، ص112.
- “الرجال الصالحون تعرّضوا للقتل والتنكيل، وصبروا، وأنت صبرت، والسيف الذي كان مسلطاً عليك هو السيف الذي ستحمله لتسلطه على الناس؛ لتحكم بينهم بالعدل، وليس لتسلطه على رقابهم”، ص113.
- “هنالك أمر أخير أيضاَ، ليست صدفة أن تقيم في الدور العاشر، لا يفصلك عن السماء سوى غرفة صغيرة يقطنها خادمك أوفيسر”، ص114.
وعلى الرغم من أنّ تفسيرات المسعودي تبدو ساذجة، إذا ما أُرجعت إلى مرموزات القتل والسيف والدم؛ فإنها تميل إلى الدهاء والخبث، والغزالي الذي لا ينقصه الذكاء توصّل دون جهد إلى مرامي هذه التفسيرات، حتى إنه واجه تفسير حلمه الأول بقوله: “أنت قلبت الحلم المخيف إلى مشهد عاطفي”، 79، وصعّد بعد ذلك من حربه الحلمية ضدّ المسعودي حين روى له حلماً اخترعه في يقظته؛ ليرعب المسعودي: “رأيت فيما يرى الرائي أنّي أذبحك. ولهذا أحضرتُ سيفي معي لتنفيذ مشيئة الوحي والرؤيا”، ص119. وقد أثار هذا الانتقال في مواقع الضعف والقوة رعب المسعودي الذي فَزِع إلى التراث الديني[10]، لا ليقول: “ستجدني إن شاء الله من الصابرين”، بل ليفتدي نفسه قائلاً: “سآتيك بكبش لا رأت عيناك مثله ولا سمعت، مزيج بين الإنسان والحيوان، والإنس والجن (…) ستجده يطرق بابك”، ص120.
خامساً ـ الغزالي في طريق البحث عن التطهّر:
في أثناء تقديم الشخصيات في رواية “الكبش” لأنور الخطيب، يفيد المؤلف في حدود ضيقة من العلاقة بين التسميات ووظيفتها السردية، ويختار أسماء بعض شخصياته على هذا الأساس، فالغزالي يحيل على مادة غزل، وهو أهل لأن يغزل الأحلام، وأن يقفز كالغزال، كما يوحي السياقان التاليان اللذان ينسب أولهما للمسعودي، وثانيهما للسكرتيرة حياة:
- “الأمر الأخير يتعلّق باسمك، تغزل أحلامك[11] في الليل، وتهديها للنهار”، ص113.
- “ولك من اسمك نصيب يا دكتور (…) قفزت برشاقة الغزال”، ص175.
ويحاول الغزالي أيضاً، واستناداً إلى الفكرة ذاتها، فكرة الجذر اللغوي، أن يجد علاقة بين التوحيدي واسمه، فيقول للتوحيدي:
“فقلت: يبدو أنك حاولت أن يكون لك من اسمك نصيب، فقال: ليس بالعلم والمعرفة فقط، وإنما اليتم والشقاء أيضاً”، ص232؛ إذ قُتل أبوه في معركة لا تخصه، وتوفيت أمه بعد أسبوع بينما كان في السابعة من عمره.
ويفيد أحد أفراد “شرطة الأحلام” من اسم معصومة وينقله من العلمية إلى دلالتها، حين يقول للغزالي، عندما لا تجد الشرطة أحداً باسم معصومة في المدينة كلها: “ليس لدينا معصومون يا دكتور.. جميعنا نرتكب خيانات وجرائم بقصد أو بدون قصد”، ص110.
أما “حياة” التي لا يشير أي سياق لفظي إلى علاقة لها باسمها؛ فقد كانت علاقتها بالغزالي صانعة لأثر اسمها في تطوره وفي تطور حكايته؛ ذلك أنها عنت له الحياة النظيفة، وطريق التطهر، وحثّته على الخروج من اللاحياة، فمثّلت له بذلك نقاء الحياة ونماءها.
فإذا انتقلنا إلى ملامح الشخصيات وكيفية بنائها وأثرها في الحكاية كان لا بدّ لنا أن نبدأ بالغزالي الذي يبدأ به السرد، وبه ينتهي، وتتمحور الحكاية حوله في تحولاته العرفانية والمادية، هذه التحوّلات التي يلّخصها كلام “حياة” حين يسألها الغزالي عن نفسه:
“أتسأل عن الغزالي الطبيب البيطري أم الغزالي صاحب العباءة السوداء أم الغزالي الذي يرتاد الهمنغواي بكل أناقة وهدوء، يتابع الساهرين والساهرات، ويراقب موسيقى الجاز، ويحزن للمغنية الشقراء؟”، ص208.
بدا الغزالي في الافتتاح السردي مهرّجاً، بكل ما تحمله هذه الكلمة من مرموزات، ذلك أنّ شخصية المهرّج في الأدب تعني فيما تعنيه كثيراً من الحكمة والشجاعة التي لا تحاسب عليها قوانين السلطة الجائرة، والمأثور الشعبي “خذوا الحكمة من أفواه المجانين” تجسيد لمدى قدرة هؤلاء على قول الحقيقة المغطاة بغطاء شفيف، وما شخصية جحا إلا تجسيدٌ آخر لمهرّج يقول لجمهوره: اقرؤوا ما وراء الكلمات.
إنّ الغزالي يسرد لجمهوره في المدينة التي وصل إليها أنّه جاء ماشياً على سطح البحر، ولكنه يطلب منهم في الآن ذاته أن يوقنوا أنه ليس نبياً: “لستُ مباركاً، ولا يقطر من أناملي زيت القداسة، ولست معصوماً من الرذيلة والخطايا، ولا أشفي الأبرص، ولا أعيد البصر للضرير”، ص8. وإذ يتحدّث عن تفاصيل رعبه التي قادته إلى المعجزة، وهربه نحو الماء، ينقل صورة مدينة قديمة لا تختلف في تفاصيلها عن المدينة التي وصل إليها: “يقتربون رافعين سيوفهم صارخين مبتهجين منتشين: قربااااان.. قربااااان.. كبش، كبش”، ص6.
ومن المفارقة أنّ الشرطة لا تصدق، أو لا تريد أن تصدّق، حكاية وصوله عبر الماء؛ لأنها لا تريد أن تقر بأن البطش الممارس من قبلها ضدّ الأفراد يمكن أن يمنحهم قوى إعجازية؛ لذلك تعيده إلى وظيفة المهرج التقليدية، غير الرمزية التي تهدف إلى مجرّد التسرية عن الناس: “أنت المهرّج ومكانك مسرح المدينة، هنالك مرتادون دائمون يستمعون إلى قصص الغرباء أمثالك، فإن صدّقوها منحناك إقامة دائمة بيننا، وإن كذّبوها سنقطع أذنيك”، ص11.
أما التجلّي السردي الثاني للغزالي، فهو الطبيب البيطري الذي يميل في تكوينه النفسي إلى العزلة، فقد اختار هذه المهنة؛ ليتحاشى التعامل مع الناس (ص160)، وهو “يتعامل مع الحيوانات في مجال عواطفهم وأمزجتهم وحالات اكتئابهم”، ص57. وهو حين يمارس الطب البيطري الذي يحبه، يعيش توازنه النفسي، ويكون مؤهلاً للإنجاز وللحب أيضاً؛ فقد اهتمّ بمعالجة الحزن الذي يعانيه حصان الفارس، وحزن كلب دوغي الذي بدا منكسراً بعد أن ضربته صاحبته على عضوه التناسلي، إثر رفضه إشباع غريزتها الكلبية تلك الليلة؛ لذلك حاول الطبيب الغزالي أن يقيم “علاقة خاصة” بينه وبين مريضه: “مسّدتُ على رقبته فازداد رقة وذرف دمعتين سقطتا على بلاط المكتب”، ص64، وقد أثمرت هذه العلاقة زيارة أخرى للعيادة، يقوم بها الكلب وحيداً، بعد أن ذهبت دوغي إلى أحضان المسعودي: “فتحت عيني لأجد الكلب الأسود وحيداً في عيادتي، تقدّم مني وجثا، كان حزيناً كرجل أرمل”، ص153.
إنّ العزلة التي يفضّلها الغزالي، حتى حين يرفض شراكة النساء في طاولة الهمنغواي، عزلة اختيارية تبعده عن العالم الملوث، وهي أيضاً عزلة إبداعية، تقوده أحياناً، إلى كتابة الشعر: “كان ينهض صعلوك في داخلي يدّعي كتابة الشعر، فأفتح له صفحة في دفتر صغير أحتفظ به في جيب سروالي الخلفي، وأحرره ليبدأ في كتابة ما ليس له علاقة بموسيقى الجاز ورائحة العربدة والإضاءة المريبة”، ص29.
ويخطئ من يظن أنّ عزلة الغزالي جاءت نتيجة خوف أو ضعف. إنها تمترس خلف الذات التي لا تريد أن تتلوث بعالم البشر، وقد كان الغزالي شجاعاً وجريئاً بما يكفي لمواجهة المسعودي الذي أراد إخراجه منها؛ ليلحقه بمجموعة المبارَكين المطبّلين للسلطة، دون أن يدرك أنه يعبث بانسجامه الداخلي وتوازنه النفسي.
وقد أبدى السرد كثيراً من المواقف التي تجسّد قوة الغزالي وشجاعته في مواجهة المسعودي ومشغّليه، فقد واجهه بعد حلمه بمقتل أوفيسر بوجود مادة مخدّرة في دمه بعد ليلة الهمنغوي التي تشاركاها: “زرت صديقي الدكتور لبيب.. ونصحني بالعودة إلى البيت والاسترخاء، قال إنه يوجد في دمي مادة مخدّرة، تشبه تلك التي يستخدمها الجراحون في غرف العمليات”، ص109، كما أنه واجه الرجل الكبير الذي يطلب منه أن يكون مسحوق غسيل يبيض فساده في المساجد والصحف والتلفزيون، فالرجل الكبير واثق من المستقبل: “لكننا أذكى منهم، سنلعب معهم لعبة حرية التعبير، أما حين يحين الجد، فإننا بإمكاننا إقفال نوافذهم وحساباتهم الإلكترونية كلها، ونخلق معارضة أخرى”، ص236. أمّا الغزالي فينصحه قائلاً: “أرجو ألا تكون قد بالغتَ في تقييمكَ، فأنت لا تعلم متى تصبح الكبش الأضحية”، ص236، ولا يتوقف الغزالي عند هذا الحد بل يؤكّد أنّه سيخلع عباءته إلى الأبد، وأنه لن يرحل من القصر قبل أن يفرغ ما في جوفه: “كنت أعلم أن السائل لم يكن خمراً حقيقياً، فهذا لن ينطلي على زائر الهمنغواي الليلي، لكنني تعمدتُ تقيّؤ ذاك الكلام حتى تقتلني، ولن أشكرك على عدم قتلك لي، ولن أرتدي العباءة هذا المساء”، ص236.
ويخطئ من يظن أيضاً أن الغزالي يعتزل الناس لغبائه، أو لسذاجته، أو لعدم قدرته على مضاهاة ذكائهم، فقد امتاز بالذكاء الشديد وتفوق على المسعودي في مواقف كثيرة، حتى من خلال مجاراته له، وإدراكه أنّ للمباركين صفاتٍ محددةً، فهم “يومئون ويختصرون ويوجزون، ويوزعون الابتسامات والنظرات الهادئة، ولا يقبلون على الطعام والشراب بنهم، يكثرون من الحمد والاستغفار، ولا يطيلون الجلوس في الزيارات، ولا يمارسون فضولاً غير مدروس”، ص117؛ لذلك حين انغمس، عن وعي في لعبة المبارَكين أتقنها، مضموناً وشكلاً، حتى في زيّه الذي أتقن تفاصيله: “تأكدت وأنا في المصعد من شكل العباءة السوداء، نظرت إلى السيف الذي أهدانيه الفارس الذي لم أعلم حتى تلك اللحظة ما حلّ بخيوله. توجّهت نحو شقة المسعودي”، ص117.
لقد استطاع الغزالي “سرقة القداسة من الغيب”، ص119، على حساب غريمه، وتفوق عليه، وأدهشه من طريقة كلامه أمام الفارس: “كان المسعودي ينصت إليّ ويهزّ رأسه، يحملق بي مندهشاً بين كل فكرة وأختها، وربما سأل نفسه من أين للغزالي كل هذا الكلام؟”، ص166؛ لذلك خشي أن ينفرد الغزالي بالفارس أو بأي واحد من السلطة، حتى لا ينفرد بالغنيمة؛ لذلك يقول له: “ستلتهم الكعكة وحدك؟”، ص167؛ غير أنّ الغزالي الذي لا يحب الكعك ولا الكريمة، لا يعبأ به، ويتحدث أمام الفارس وجمعه الغفير حديث الأولياء والعارفين:
“ولا أحسب الحاضرين الشرفاء سوى فرسان هذا الزمان، فالحصان يضحك إن ضحك فارسه، ويتكدّر إن مرّ بها دون منحها لمسة حنان، والعلاقة بين الحاكم والمحكوم هي ذاتها العلاقة بين الفارس والحصان، وبين العشاق والحسان”، ص189.
على أن صحوَ الغزالي، أو لنقل: قراره بإيقاف لعبة الأولياء السخيفة، كان مدفوعاً بقوة الحب التي توفرت لديه، بعد أن دخلت “حياة” قلبه؛ وإن كان قبل ذلك مهيّئاً للخروج من تلك اللعبة؛ فقد ندم لأنه لم يقتل المسعودي في شقته: “شعرت أنني تواطأت مع المسعودي على نفسي، بتقبّلي ذاك الكبش الشهي قرباناً؛ ليفدي به نفسه”، ص131.
لقد كان الغزالي إذاً بحاجة إلى شرارة تشعل فتيله فقط، وكانت “حياة” هي الشرارة المنتظرة، فلولا وجودها لم يكن ليهتم بذلك الاستذكار العشقي الذي ارتدّ به نحو الماضي:
“تذكرت الفتاة التي قابلتها عند باب المدرسة قبل عشرين سنة، ولم أدر من منهما كانت الأجمل، لكنّ حياة بدت أكثر استعداداً لانتظاري في اليوم التالي”، ص175.
ولولا وجودها أيضاً لما انفتح باب الطفولة الذي كان مغلقاً، ولما تعلّق بجملة “كن نفسك” التي يقولها أبوه: “قال لي أبي وهو يعلّق على ظهري حقيبة مدرسية قديمة تحتوي على دفتر ومسطرة وقلم رصاص ومقص وسندويش: كن نفسك أيها الغزالي مهما كانت الظروف”، ص158.
وإذا كان الغزالي قد خرج عن أن يكون نفسه حين ادّعى (بناء على تطور حكايته مع المسعودي) أنه رجل مبارك، فإنّ حياة تدفعه نحو الجهة التي يحبّها، مستفيدة من الإيقاع اللغوي ذاته، حين تقول له: “لا تعد إلى القصر إن لم تجد نفسك فيه”، ص180، وتدفعه أيضاً إلى تطهّره المنشود الذي بدا في أثناء لقائه مع الفارس من خلال الأفعال التي لم يقم بها، من مثل الرغبة في السؤال عن طرق اقتناء القطع الأثرية وأثمانها، بما يعنيه ذلك من فضح للفاسدين، ومن خلال إحساسه أن رائحته أصبحت نتنة، وأن عليه البحث عن وسيلة للتخلص من النتانة:
“فكّرت أولاً في الذهاب كثور هائج إلى المسعودي لأقتله في اللحظة التي يفتح فيها الباب، وثانياً أن أستدرج المرأة “دوغي” إلى العيادة، فأرش وجهها بالأسيد، كي تعود للبحث عن صديقها المهزوم المسكين، ثم ابحث عن سمير وآخذه إلى الصحراء تحديداً، فأخوزقه على قمة كثيب ناعم، ثم أتوجه حاملاً سيفي إلى الفارس في قصره أو مزرعته، بلا عباءة سوداء، ولا لحية طويلة ولا بركات ولا لعنات، وأعطيه مفتاح العيادة والشقة، وأقول له إن المباركين ماتوا ولا طائل من صناعتهم لتهريب الآثار والاتجار بأعضاء البشر”، ص222.
سادساً ـ شخصيات في مدار الغزالي:
ثمة شخصيات تسبح في فلك الغزالي، تتمحور حوله زمناً ثم تمضي إلى حكايتها الخاصة، ولعلّ أكثرها تأثيراً المسعودي الذي حاول إخراج الغزالي من ملكوته وإلحاقه بمدار جديد لا يناسبه، مدارٍ يجعل الغزالي مفسّر أحلام، كما كان المسعودي نفسه، “زبائنه سياسيون ورجال أعمال وأثرياء ونساء وفنانون وفنانات”، ص54. وقد توفّرت للمسعودي كثير من الصفات التي تؤهله؛ ليكون معوّقاً لتحقيق المشروع الأساسي للغزالي، و(هو أن يكون نفسه). فالمسعودي مخادع يسعى إلى زرع فكرة في ذهن غريمه، هي أنه ـ أي الغزالي ـ من أصحاب الكرامات، مؤكّداً له أنّ “الأصوات التي سمعتها هي علامة من السماء”، ص42. وهو ـ حين يمثّل الغزالي حالة الاقتناع ـ يغيّر استراتيجيته، ويلجأ إلى بث الشكّ بالشخصيات التي تحيط به؛ فحين يختار الفارس الغزالي يقول المسعودي في شبه استسلام “لقد اختارك الفارس وانتهى الأمر”، ص170، ولكنه لا يغلق الدائرة بل يحاول زرع الشك والخوف في صدرٍ لا يريد له أن ينعم بالاستقرار:
- “عليك الحذر يا صديقي من الفارس والطبقة التي ينتمي إليها، سيرميك خارج عالمه عند أول خطأ ترتكبه مهما صغر حجمه وشأنه”، ص171.
- “عليّ أن أحذرك من الحارس أوفيسر، لا دلائل لديّ على سوء نواياه، ولا دلائل لديّ على حسنها أيضاً،عيناه ليستا بريئتين”، ص171.
هذا المسعودي الذي يتدخل في أمور الآخرين، ويزور شقة الغزالي بعد أسبوع من استقراره فيها، منافق يدّعي التديّن، ولا يمانع من الذّهاب إلى الهمنغواي استجابة لدعوة الغزالي: “لم أكن أتوقع موافقته بسرعة، فهو يؤدي الصلوات الخمس في مواقيتها، ويصوم شهر رمضان بأكمله”، ص46. وهو يرفض الزواج ولا يمانع في إقامة العلاقات الجنسية مع النساء، ويقول بصفاقة: “لكنني لا أحرم نفسي منهنّ، فهنّ حاجة ضرورية، وأنا أعطيهنّ أجورهنّ دون نقصان”، ص57.
وهو، فوق ذلك، جاهل بتفسير الأحلام، فلا يسأل عن التفاصيل الحلمية، ويكتفي بما يسرده الحالم، مهما كان عاماً، ص141، وهو مدّعٍ في شأن قدرته الجنسية؛ إذ تفضحه دوغي حين تقول للغزالي: “صرفت الوقت توقظ أعصابه دون جدوى، وحتى يغطي على فشله بدأ يحدثني عنك”، ص212، معربةً عن عدم ثقتها به: “أنا لا أثق بالمسعودي؛ لأنني لا أثق بالرجل العنّين”، ص212.
وتمتاز شخصيته بكثير من الغموض، وإقامة العلاقات المشبوهة؛ إذ “يختفي بعد صلاة العصر في المسجد المجاور، ويخرج إما مصطحباً الإمام في سيارته، أو يدخل المسجد؛ فلا يدخل منه إلا بعد صلاة المغرب بقليل”، ص67. وقد جلّت “حياة” بعض غموضه حين أشارت إلى أنّه “ضابط فاشل في الاستخبارات”، ص207. وقد استأجر له والدها شقة ليراقب عائلتها.
وثمة رجلان آخران يدوران في فلك الغزالي، وينتميان إلى مدار المسعودي الذي يسعى إلى إعادة صياغة شخصية الغزالي، هما الفارس والتوحيدي؛ فالفارس الذي كان في ظاهره “فارساً لا يشقّ له غبار”، ص19، يبدو عند التحقيق جباناً “يقود سيارته بهدوء وزير مهدّد بالقتل”، ص16؛ لذلك سرعان ما استنتج الغزالي الذي دُعي لمعالجة الخيول “أن الفارس هو من فقد صهيله”، ص18.
وقد تأكّد ذلك حين أخبر المسعوديُّ الغزاليَّ “عن الرجل القادم الذي تطارده خيول غاضبة في منامه، وقال إنه من علية القوم، فارس ابن فارس، ولديه إصطبل يقع في ضواحي المدينة”، ص160، وشرح له أن وظيفته الأساسية تكمن في إعادة تشكيل دلالات أحلامه و”في تحويل الكوابيس من جهنمية إلى وردية”، ص162.
أمّا التوحيدي الذي كان يلّقبه بـ “الرجل الكبير”، فلم يجرِ تقديمه بشكل غير مباشر عبر سرد الشخصيات عنه؛ لذلك قدّم معظم صفاته، خارج إطار الفعل الحكائي، على نحو ما نجد في السياقات المباشرة التالية:
- “نشأتُ يتيماً بعد أن قُتل أبي في معركة لا ناقة له فيها ولا جمل، كان عمري سبع سنوات، ثمّ تعرّضت أمي بعدها بأسبوع لحادث سير، ونفقت على الطريق كبقرة شاردة”، ص232.
- “حضر أحد أفراد المؤسسة العسكرية، واصطحبني إلى مدرسة داخلية لأبناء الشهداء”، ص233.
- “في الليلة الاولى بكيتُ كثيراً، شعرتُ بالصقيع، وارتجفت طوال[12] الليل، وقررتُ بعدها ألا أبكي في طوال حياتي، وألا أتوقف عند بكاء الآخرين”، ص233.
إذاً يقرّر التوحيدي أنّ القسوة المفرطة التي تليق برجل كبير مثله هي نتيجة من نتائج ماضيه المفرط في القسوة، وهذا ما قاده إلى إحضار أقزام متوحشين يحرسونه ويملؤون ساحات بيته، وهو يختلف عن الآخرين أنه يتحدّث مباشرة، ويصل إلى غرضه دون مواربة، ويرحّب بضيفه (المبارك)، بوصفه طبيباً بيطرياً، ويوضّح له مراده بكلّ وضوح: “ستكون المبارك الذي يبارك أعمالنا في المساجد والصحف والقنوات التلفزيونية، وستعود إلى البيت ثم تخرج إلى عيادتك بهيئة الطبيب، فلا أحد يعرفك، ولن يتابعك. ألا يستحق من وهبك “حياة” أن تقول كلمة حق تبيّض بها خيره وأمواله؟”، ص235.
ولعلّ هذه المباشرة هي التي دعت الغزالي أن يواجهه بطريقته، فبعد أن استخدم التمويه في مواجهة المسعودي والفارس انتقل إلى الردّ على العرض المباشر بشكل مباشر، ورفض أن يكون مسحوق غسيل، بل إنه رأى أن الرجل الكبير من خلال عرضه الصفيق هذا لم يعد كبيراً، وأنه “بدأ يصغر شيئاً فشيئاً”، ص235.
وتبدو الشّخصيّتان الذكريّتان (سمير وأوفيسر) مكمّلين فنّيّين، أكثرَ من كونهما ضرورتين حكائيَتين؛ إذ يبدو الغرض الأساسي من وجود أوفيسر/ الرّجل النّيبالي الذي يحرس المبنى أن يكون ظهيراً للغزاليّ، ومتلقّياً لبوحٍ أو فعل، لا يمكن له أن يقوله أو يفعله أمام المسعودي. أمّا سمير فقد أسندت إليه وظيفة فنّية تقوم على إيهام المتلقّي، ومساعدة الحبكة في إظهار غرائبيّة الأحداث، استناداً إلى غرائبيّة ظهوره في أمكنة متعدّدة، وبوظائف مختلفة.
أما الشخصيّات الأنثوية الثلاث التي ظهرت في فضاء السرد (معصومة ـ دوغي ـ حياة)، فقد شكّلت حوامل فنية ودلالية ثانوية، غير أنّ الأخيرة منها كانت حاسمة؛ وهذا ما يشي بقوة الحبّ، كونه محرّكاً للحدث الرئيسي نحو التصعيد النهائي.
تحضر معصومة، منذ زيارة الغزالي الأولى في الهمنغواي، وتقوم بدور تمويهي في بناء الحبكة الغرائبية أكثر إتقاناً وفاعلية من دور سمير، وتختلف عن جميع الشخصيات بظهورها الجسدي الحميم، فهي “عامرة الصدر مكتنزة الشفتين، لها عينان متوحشتان، وشعر قصير جداً”، ص31، وهي في موضع آخر “ترتدي عباءة سوداء تكاد أن تلتصق بجسدها، وتغطي رأسها بنقاب شفّاف، صوتها ناعم، وحروفها بطيئة مغناجة”، ص 59، وفي موضع ثالث “تشدُّ العباءة حول خصرها، وتعطيني ظهرها؛ لتُظهر كم هي مؤخرتها شهية”، ص59.
غير أنّ هذا الحضور الجسدي اللافت رافقه حضور نفسي يجسّد شخصية مقهورة من الداخل، يبدو في عينيها “حزن امرأة مغدورة تخفي موجات حزن بدأت تتلاطم في رئتيها، فيظهر صدرها وهو يعلو ويصعد”، ص83، ويبدو القهر الذي تعيشه هذه الشخصية مركّباً؛ فقد كانت مطيّة لرغبات المسعودي ومشاريعه، تلك الرغبات والمشاريع التي جعلتها تكره الرجال الذين يرون فيها وجبة دسمة؛ لذلك تزور الطبيب البيطري؛ لأنّ المجتمع يراها كبشَ فداءٍ على مذبح اللذة، فهي تصرخ في وجه المسعودي: “أنت الحيوان، وأنت الكبش الملعون”، ص69، وتقول للغزالي: “خلّصني من ذلك الحيوان، وأكون لك طوال[13] الحياة”، ص130.
وتبدو دوغي رديفة للمسعودي في قهر الآخر، وإذا كان المسعودي يرغب في أن يجعل المرأة كبشاً لطموحاته، فإنّ دوغي أرادت أن تجعل الكلب رجلاً فحلاً تأمره فيطيع، أو تجعل الرجل كلباً يضاجعها على الطريقة الكلبية؛ وحين يشعر الغزالي أنها تريد منه أن يقوم مقام الكلب في العض واللهاث ومصمصة العظام تصحح له: “أنا من تريد أن تكون كلبة، كلبتك، هل تخيلت امرأة كلبة، تقبض عليك، فلا تتمكن من الخروج والهرب، وتبقى طوال الوقت تصارع الخروج، وفي أثناء ذلك تكون قد انتشيت مرة ثانية، فتشتد عضلتك وتواصل حتى تذوب”، ص124.
على أن الغزالي يربأ بنفسه أن يكون في ذلك الموضع، فيرسلها للمسعودي، من أجل أن يلتقيا: كلباً وكلبة. غير أنّ المسعودي يخفق، حتى في أن يكون كلباً، تاركاً دوغي تبحث عن اللذة المنتظرة من أيّ سبيل، قهي تقول للغزالي: “جئت إليك لتذكر مهاراتي أمام صديقك الفارس، وربما لرجل آخر قد تزوره خلال هذين اليومين، قد يكون أكثر صهيلاً”، ص212.
أمّا “حياة” التي برزت أهميتها، على الرغم من ظهورها المتأخر، فقد كانت حاسمة في توجيه الغزالي؛ إذ أربكته ـ إثر انتباهه لأنوثتها بعد عام في العيادة ـ وجعلته مراهقاً يتعرّف إليها من جديد. وحتّى يحافظ عليها كان لا بدّ أن يسعى؛ ليكون في مستوى طموحاتها، تلك الطموحات التي لا تعني مَزارع أو خيولاً أو بركاتٍ تحصل عليها من وليّ مزيّف، بل تعني الغزالي التقي الطاهر البريء من التلوث: “أنا أحب الغزالي الطفل الذي يفرح لقطعة بسكويت مع فنجان قهوة عند الصباح، وأحب الغزالي الرزين الذي يسعى لأن يكون ذاته، وأحب الغزالي المغامر الذي يختبر الشخصيات”، ص208، فهي تحبّه وتقف معه؛ ليجابه قوى الشرّ التي تتربص بقلبه النقي، وتعده أن تبقى دائماً إلى جانبه، لا ليحمي نفسه فقط، بل ليكشف زيف السلطة، من خلال حكاية أخرى منتظرة، يرويها ـ بوصفه مهرّجاً ـ لجمهور جديد: “لا تخف، أنا سأنقذك، لن أدعك تغرق، لن أدعك تضيع، لا تبكِ أرجوك، أرجوك”، ص213.
سابعاً ـ في تناسب الرؤية والأدوات:
يسعى أنور الخطيب في رواية “الكبش” إلى ترسيخ الفعل الرافض للفساد والإفساد في آن معاً، وينتقد، خلف غلافٍ فني شفيف، ما يجري في دهاليز السلطة من أساليب التجارة غير المشروعة من أجل التمتع بالثراء الفاحش، ومن أجل الحصول على متع الدنيا المختلفة، مع الحفاظ على هيبة السلطة ونظافة صورتها التي يتداولها العامة.
وإذا كان الغزالي قد رفض أن يكون، في المحصلة السردية العامة، كبش فداء، في سبيل تحقيق هذه المهمة غير الشريفة، فإنه رفض كل أشكال الفداء التي تغطي الفساد الإداراي والأخلاقي، سواءٌ أتعلقَ الأمر به أو بغيره.
لقد رفض الغزالي أن يكون كبشاً في مدينته، وفي المدينة الجديدة، ورفض أن تكون معصومة كبشاً، واستفزّ الروائي مشاعرنا تجاه هذه الكلمة، حتى نرفضها، إذ قالت معصومة للغزالي:
“أشعر أنني حيوانة، وأريدك أن تعالجني (…) أنا يا دكتور أشبه بالكبش، كبش محرقة أو كبش فداء لا يهمّ، أشعر بأنني كالإنسان الآلي، لعبة في أيدي الآخرين وأحياناً الأخريات، وأريد أن أعود إلى طبيعتي، فلا يمتلكني أحد، ولا يضحي بي أحد”، ص60.
وشرحتْ، إمعاناً في الرفض، مفهوم الكبش تمثيلياً في عيادة الدكتور، وهو الدور الذي يَطلب منها المسعودي ومَنْ وراءه أن تقوم به لتنظيف سمعتهم الملطّخة:
“جثت على ركبتيها، ومدّت ظهرها، واستندت على كوعيها، وغطّت رأسها وكامل جسدها بعباءتها، وحرّكت مؤخرتها ذات اليمين وذات اليسار، ثم إلى الأعلى والأسفل مرات عدّة، ثم نهضت والتقطت حقيبتها، وقالت: هذا هو الكبش يا دكتور، هذا ما يطلبون مني القيام به”، ص62.
إنّها المعركة الأساسية بين رؤيتين: رؤية تعدُّ الناس عبيداً من نموذج المسعودي الذي يفضّل “المرأة ذات المؤخرة السمينة التي إن سارت على أربع تبدو ككبش شهيّ”، ص57، ورؤيةٍ ترفض أن يكونوا كذلك، وتحذّر المسعودي ومن هو مثله من أن تدور عليهم الدائرة؛ لذلك يقول الغزالي للتوحيدي: “أرجو ألا تكون قد بالغتَ في تقييمكَ، فأنت لا تعلم متى تصبح الكبش الأضحية”، ص236.
إن رفض فكرة الفداء ها هنا لا تعني رفض الفكرة الدينية لها، بل رفض تشويهها، فالفداء الحقيقي يكون من أجل إعلاء قيمة مثالية، لا من أجل تغطية الفساد، لذلك فإنّ أنور الخطيب لا يدعو فقط من خلال هذه الرواية إلى نبذ هذا النوع من (الكبشية) على صعيد الأفراد، بل على صعيد المجموعات والأوطان أيضاً، وهذا ما يجعل فكرة روايته نبيلة، تتجاوز الخاص؛ لتُحيل على العام.
ويلاحظ أن الكاتب يحشد الرمز والإيقاع اللغوي والموضوعي (من مثل إيقاع الشك وإيقاع الجنس)؛ ليعوّض عن غياب لغة شعرية، لا تظهر إلا قليلاً؛ فقد استخدم لغة الشكّ التي تنمّي الشعور الغرائبي بشكل لافت، عبر استخدام سياقات إيهامية متعددة، خاصة في البداية، ويمكن أن نشير إلى بعضها فيما يلي:
- “ولا أدري، أكان البحر يحملني أم كنت أحمل البحر..!”، ص7.
- “ركوبي البحر لم يكن قراري الطوعي، ببساطة لم يكن اختياري، ربما دفعتني يد قادمة من الغيب الرحيم، أو ركلتني قدم قفزت من الجحيم الرجيم”، ص8.
- “لم تكن معجزة، ربما كانت، وربما كان الماء متجمّداً، ربما حملتني كبسولة الزمن، ربما حملني دولفين على ظهره، ربما خطفتني حورية الحبر…إلخ”، ص10.
- “ربما لم تكن تلك الصور صوره، وإنما أجرى عليها تعديلاً بواسطة برامج حاسوب”، ص19.
- “اعترتني شكوك بشأن مقابلتي فارساً اصطحبني إلى مزرعة فيها خيول كثيرة، وجود السيف على الجدار في زاوية أنيقة هو ما أزال شكوكي”، ص24.
أمّا إيقاع الجنس فقد جاء عالي النبرة، وإن لم يحتوِ على ألفاظ تخدش الحياء العام، وثمة مقاطع سردية تقدّم الجنس إيقاعاً غالباً، من مثل مشهد معصومة مع الغزالي في شقته (ص ص126ـ 129)، ومشهد المسعودي مع دوغي في شقته (ص135)، كما أنّ هناك سياقات لفظية يبدو لنا فيها أن استخدام الكلمات ذات الدلالة الجنسية غير موظف التوظيفَ الأمثل، ومن أمثلة ذلك قول المهرج: “لقد ضاقت الدنيا بي حتى صارت أصغر من فرج نملة”، ص7، ومن ذلك أيضاً وصف نساء الهمنغواي، وهنّ يسحبن “دخان السجائر ويحبسنه في صدورهنّ حتى يكاد يخرج من حلماتهنّ”، ص28ـ، والمقهى الذي يمتلئ “برائحة شهوة نساء أو بقايا جماع”، ص28.
يمكننا أخيراً أن نقول باختصار إنّ أنور الخطيب قدّم لنا حكايةً، استنفر لها ما يمتلكه من أدوات فنية؛ ليرسّخ رؤية نبيلة، حكايةً يعترف ساردها أنها “لم تكن مضحكة أو مسلية”، ص11، بل هي غريبة بما يكفي لتوقظ في المتلقي حاجةً بحث عنها الغزالي منذ البداية، حين قال: “أنا مجرد باحث عن وسادة نظيفة من الوساوس”، ص12.
أنور الخطيب: الكبش، مداد للنشر والتوزيع، دبي، ط1، 2017.
نُشرت في مجلة الرؤية الإلكترونية العمانية على 4 حلقات
الحلقة الأولى
https://alroya.om/post/241185?fbclid=IwAR0l5OXXBxfdb6gq5REug9FKvCXi7kMuLFH7DkeGiUHNwzV5fYElN-yPXeU
الحلقة الثانية
https://alroya.om/post/241279?fbclid=IwAR1XYVD6b3yqUXrLrsuTFB23HhKtF2oGErrr0MXvl8z-lN-OdSyPUVMAqnA
الحلقة الثالثة
https://alroya.om/post/241372/أنور-الخطيب-في-رواية-الكبش-(3-4)
الحلقة الرابعة
https://alroya.om/post/241655?fbclid=IwAR21Je_KXSX9XBqAPvK_ROTHLQ5_U8Wl3jt5iQWCOZc7eeIenNZx9ZsCE3U
[1] أنور الخطيب: الكبش، دار مداد، دبي، ط1، 2016.
[2] عندما نشير إلى معصومة، نتحدث عن وهمها، فالمرأة التي زارات الغزالي في عيادته، وفي بيته تكاد تكون معصومة، بمعنى أن السياق يؤشر، ولا يؤكّد ذلك. ويصدق الأمر نفسه على سمير، وعلى بعض أحداث الرواية التي تتخذ من الإيهام لعبتها المفضّلة.
[3] تجمع كلمة وردة على ورد وأوراد.
[4] سيجموند فرويد: تفسير الأحلام، ترجمة: د. مصطفى صفوان، راجعه د: مصطفى زيور، دار المعارف، القاهرة، ص127.
[5] “يرى إدلر أن الأحلام تسعى إلى تحقيق نقص يواجه الإنسان في الحياة، فقد يحلم فتى بأنه جذاب وبطل مُخلّص ويطير ويقذف النيران علي الأعداء؛ فهو بذلك يحب أن يكون ذا مكانة عالية ومنزله رفيعة، أي أن الأحلام علاقتها عكسية بالواقع”. نقلاً عن ألبير يوسف: تفسير الأحلام في العصر الحديث بين فرويد وإدلر، موقع المحطة الإلكتروني، 24/ 6/ 2018.
[6] للسيوف والسكاكين دلالات جنسية، حسب فرويد، وسوف نتغاضى عن هذا الرمز هنا؛ لأنّ السياق ليس سياقاً حلمياً بشرياً، بل سياق إبداعي يستبعد هذا الاحتمال. وقد أفاد الكاتب من هذين الرمزين وأشباههما عدة مرات لا في سياق الحلم فقط، بل في متابعة الأحداث، فأشار غير مرة إلى السيف، وإلى الغصن الذي يزهر.
[7] يقول فرويد: “المادة التي تكوّن محتوى الحلم إنّما تستمد جميعها من الخبرة على نحو أو آخر”، تمكن العودة إلى: سيجموند فرويد: تفسير الأحلام، مرجع سابق، ص50.
[8] تمكن مراجعة: كارل يونغ: الأحلام – ترجمة: محمود منقذ الهاشمي – دار الحوار، اللاذقية، ط1، 2013، ص 71.
[9] نقلاً عن ألبير يوسف: تفسير الأحام في العصر الحديث بين فرويد وإدلر، موقع المحطة الإلكتروني، 24/ 6/ 2018.
[10] الإفادة هنا واضحة من قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام مع ابنه إسماعيل. يقول تعالى في سورة الصافات: “فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيم ٍ (107).
[11] تفرّق اللغة بين النسبة إلى الغزال والغزّال، ولكننا هنا سنتجاوز ذلك إلى وحدة الجذر اللغوي.
[12] الصواب (طول)، لأن (طُوال) صفة تطلق على الرجل الطويل، فيقال: رجل طُوال، وطِوال: جمع. والحقيقة أن هناك عدداً غير قليل من الأغلاط (الإملائية خصوصاً) التي يحسن بالكاتب أن يتخلّص منها.
[13] راجع الهامش السابق.