أحمد خالد في قصيدة “في شارع ما.. يكفي مشهد واحد”
شاعر يمتد بين الحبر والمعنى
بقلم: أنور الخطيب
قصيدة أحمد خالد “في شارع ما.. يكفي مشهد واحد”، وفور الشروع في قراءتها، نكتشف مباشرة أن هذا الشارع هو الذي “الممتد بين الحبر والمعنى”، بين الأدات التي أظهرت الكلمة إلى الوجود وبين مآلاتها ودلالاتها، ولهذا، وجد الشاعر أنه يلزمه القراءة في كتب كثيرة كي يعبر شارعه الذي يدَعي باكتفائه بمشهد واحد، لكن قراءة هذا المشهد تحيله إلى قراءة كتاب الموت (كي لا يسقط المعنى بحفرته)، وكتاب الشمس حيث (يأملُ المنفيُّ بالشمسِ البعيدةِ دونَ تفسيرٍ لذلك دون معنى..)، ويقرأ في الخرائط (أينما وُجِدَ الحقيقيُّ المجازُ/ لكي أطمْئنَ أولاً ذاتي..)، وكتاب الأرض كي (أنجو من لظى البركانِ)، ويقرأ في الطبيعة ( الطبيعةُ دفترٌ سهلُ القراءةِ لو قرأنا اللاطبيعةَ جيّداً، يريد الشاعر أن يقرأ في الطبيعة مرة أخرى (كي أقدّمَ فكرةً عذرى عن المنفى أؤنسِنَهُ/ أقيمُ علاقةً بين العصافيرِ التي انتصرتْ على الصّيادِ..)، ويقرأ في كتاب الأرض (كما لو أنّهُ فيلمٌ قصيرٌ يعبرُ المعنى بظرفِ دقائقٍ كي أبلغَ المقهى بكاملِ صحّتي..) ويعيد ترتيب المشاهد عبر كاميرا الرؤى)، ويكتفي أخيرا بمشهد واحد، وهو الذي تحدث عنه الشاعر في العنوان، ويكفي هذا المشهد (لأعبرَ كلّ هذا العتمِ..)، ولكنه مشهد يدهش الشاعر فـ(ياااااااا للهولِ….عرسٌ في المخيّمِ/ ليلةٌ حمراءُ/ رقصٌ في الشوارعِ/ إنّهُ عقدُ القرانِ مع اللجوءِ/ هناكَ طفلٌ في النوايا/ يعني بأنْ يزدادَ منسوبُ الضّحايا..)، وتنتهي القصيدة مع شعور الكاتب (الآنَ يلزمني الكتابةَ ممسكاً خيطاً جديداً مِنْ مفازاتِ الروايةْ)، الرواية المليئة بالمشاهد المطعمة بالموت ومفرداته ومترادفاته مثل: (في البدءِ يلزمني القراءةَ في كتابِ الموتِ/ بل يسقطُ الموتُ اللعينُ بحفرةِ المعنى/ يؤوّلهُ المجازُ بأنّهُ الموتُ الذي يأتي كما لم يأتِ/ محضُ جنازةٍ/ نقصٌ بمنسوبِ الضحايا/ من أوحى لهذا الكمّ من قتلى الهويّةِ أنّها أملُ الغريبْ/ الفنُّ الذي يغفو على كتفِ الضحايا/ ومضطرّاً لتفهمَ أن يصيرَ الموتُ عادتك الخفيّةَ/ حتى تُصابَ بلعنةِ الموتِ البذيءْ/ الفنُّ الذي يغفو على كتفِ الضحايا باتَ أقربَ للهواةِ/ يقولُ طفلٌ أيّها الموتُ اللعينْ/ إن انتصرتْ خطايَ على خطاكَ
تموتُ وحدَكَ أيّها الموتُ البطيءْ/ قراءةٌ للضوءِ في وجهِ الضحيّةِ/ وقدْ يكفي بأنْ يمتدّ كفّي للبنفسجِ كي أعيدَ جدارةً للحبّ في قلبي يزيحُ القبرَ عن رئتي/ حينَ رأت ذراعَ السّروِ معْ قتلى الهويّةِ / هناكَ طفلٌ في النوايا
يعني بأنْ يزدادَ منسوبُ الضّحايا..).
قاموس الشاعر مزدحم بالموت والضحايا والقبور والقتلى، هو مشهد واحد يرى فيه الشاعر كل هذا الألم، فماذا سيكون غير المشهد الفلسطيني؟ صحيح أن بلادا عربية أخرى امتلأت بالموت مؤخرا ولسنوات، وتعرضت لما تعرض له الفلسطيني عبر رحلته في درب الآلام، لكن مفردة “الموت” لم تتشكل بعد في ثقافة المبدع لتصبح مرجعا إبداعيا تستبد برؤى الشاعر أو الكاتب أو الروائي، عشر سنوات لا تكفي ليستقر مشهد الضحايا في مفازات القصيدة والرواية، وتصبح جزءًا من نسيجها العضوي والبنيوي، وفي ثقافتها التاريخية والمجتمعية، لكن عند الفلسطيني المبدع، انتقلت إليه مفردة الموت عبر سبعين سنة من اللجوء التي اكتنفتها المذابح والتشريد والمنافي، حتى كادت أن تُنتج جيناً في خارطة جسده يسمّى “جين الموت”، هذا يتجسد جليا في الأعمال الإبداعية للمبدعين الفلسطينيين، ويكاد يشكل ملمحا من ملامح الأدب الفلسطيني، حيث يتفرد المبدع باستخدامه ليس كمعضلة وجودية، وإنما كمشهد يتكرر حتى بات عبئا على المبدع يتمنى التخلص منه لكن من دون جدوى، حتى لو قرأ، كما فعل أحمد خالد، في كتاب الشمس وكتاب الأرض وكتاب الطبيعة أو قرأ في الخرائط، يبقى الموت لازمة ويتحول إلى متلازمة.
لقد حشد الشاعر بوعي وبلا وعي، مشاهداته وفلسفته ومقولاته ليقرأ الشارع (الممتد بين الحبر والمعنى)، ودلالات الحبر ورموزه كثيرة كما المعنى، وبعيدا عن الإنشغال باللغة الصرفة، فإن الحبر قد يدل على الدم، والمعنى هو المتجسد في أقاصي الرؤية هو الموت، ويتجدد الحبر ويتوالد المعنى حتى أن الشاعر يقول في نهاية القصيدة (الآنَ يلزمني الكتابةَ ممسكاً خيطاً جديداً مِنْ مفازاتِ الروايةْ)، ما يشير إلى تصميم على المضي في قراءة المشهد، وعدم الاكتفاء بقراءة كتب الموت والشمس والأرض والطبيعة والخرائط.
خبرة الشاعر الإبداعية تتجاوز عمره الزمني، وهذا دليل موهبة هذّبها الكاتب نتيجة تفاعله كشاعر وكقارئ مع التراث الشعري، معنى ومبنى، والإيقاع الذي حافظ عليه على مدى القصيدة يعكس دراية جميلة ببنية الشعر وهندسته الداخلية والخارجية، والانتقال من كتاب الموت إلى الكتب الأخرى جاءت سلسلة ضمّنها الشاعر مقولات ستعمّر كثيرا مثل: (البركانُ موسيقى سأسمعُها سأسمعُها، ولو حاولتُ تقديمَ اعتذارٍ للمغنّي/ الفنُّ الذي يغفو على كتفِ الضحايا باتَ أقربَ للهواةِ/ الأغنياتُ، قراءةٌ للضوءِ في وجهِ الضحيّةِ/ الشِّعرُ قد ينسى بأنَّ بلادَنا لم تسمعِ الأشجارَ فاصفرّتْ لنقصِ العاطفةْ/ الطبيعةُ دفترٌ سهلُ القراءةِ لو قرأنا اللاطبيعةَ جيّداً/ يكفي بأنْ يمتدَّ كفُّ الحلمِ نحو الحلمِ كي تتقطّعَ الأيدي/ يكفي أن أقولَ قصيدةً عن حاجزِ التفتيشِ قبلَ البيتِ
كي أرتاحَ في سجني/ إنّهُ عقدُ القرانِ مع اللجوءِ، هناكَ طفلٌ في النوايا، يعني بأنْ يزدادَ منسوبُ الضّحايا..)، هذه المقولات تعكس فلسفة تطيل عمر الشعر، وتحمل المعنى على أجنحة تنبت للقارئ في تحليقه صاعدا وهابطا مع الشاعر، ويرافقه حين يمسك خيطا جديدا من مفازات الرواية.
القصيدة تُعتبر طويلة نسبيا في عصر بدأ يختصر ويكثّف ويختزل، بذريعة السرعة والافتقار إلى الوقت، فتقلصت القصيدة حتى تقزّمت، وصادرت صهيل الشاعر، وحرمته من متعة الإطالة في التشبع والإشباع، لكن أحمد خالد لا يأبه بهذا، يستجيب لإيقاعه وتدفقه، فلا يوقف ماء الشعر في منتصف الجدول، ولا يخرج من البحر قبل أن يتحول موجة، أليس الشعر أقرب إلى موج البحر المتكسر المتجدد الهادئ الغاضب المقدم المحجم، ينهك مرتاديه ويمتعهم؟ أجزم إنه كذلك، والشاعر ذو النفس الطويل هو المستجيب لذاته وليس لعصره، فالعصر يجب أن يستجيب للشاعر وليس العكس، االشاعر الذي يكتب قصيدة طويلة يحلق بجناحين كبيرين ليستشعر متعة التحليق وآلام الصعيد، وأحمد خالد من هؤلاء الشعراء.
في شارعِ ما…يكفي مشهدٌ واحد
في الشّارعِ الممتدِّ بينَ الحبرِ و المعنى
سيلزَمُني الكثيرُ لأعبُرَهْ
في البدءِ يلزمني القراءةَ في كتابِ الموتِ
كي لا يسقطَ المعنى بحفرتِهِ
فأسقطُ بعدهُ
بل يسقطُ الموتُ اللعينُ بحفرةِ المعنى
يؤوّلهُ المجازُ بأنّهُ الموتُ الذي يأتي كما لم يأتِ
محضُ جنازةٍ
أو محضُ موسيقى الجنازةِ في لسانِ الأحذيةْ
نقصٌ بمنسوبِ الضحايا
و انكسارُ الوقتِ ثانيةً
و عرسٌ في المدينةِ
فجوةٌ في الشّمسِ
يلزمني القراءةُ في كتابِ الشّمسِ
من أوحى لهذا الكمّ من قتلى الهويّةِ أنّها أملُ الغريبْ
كم يأملُ المنفيُّ بالشمسِ البعيدةِ دونَ تفسيرٍ لذلك
دون معنى
هل رأى للشّمسِ ظلاً؟!
لا
فمنزلهُ حقيقيٌّ مجازيٌّ
مقيمٌ في الخريطةِ نائيٌ عنها
سيلزمني القراءةُ في الخرائطِ
أينما وُجِدَ الحقيقيُّ المجازُ
لكي أطمْئنَ أولاً ذاتي
و معنى يرقصُ التانغو برفقةِ غيمةٍ مرّتْ ببالِ سجائري العشرينَ
و التصقتْ بسقفِ الغرفةِ الصغرى
بأنّي لستُ وحدي كافراً بالأرضِ
يلزمني القراءةُ في كتابِ الأرضِ
أنجو من لظى البركانِ
البركانُ موسيقى سأسمعُها سأسمعُها
ولو حاولتُ تقديمَ اعتذارٍ للمغنّي
لا اعتذارَ لمن أقيمتْ حفلةٌ من أجلهِ
حتماً سأسمعها لأنّي من هواةِ الفنِّ
الفنُّ الذي يغفو على كتفِ الضحايا
باتَ أقربَ للهواةِ
فيقتفي أثراً لطفلٍ أعجبتهُ لعبةُ الطيرانِ حين رأى أباهُ
يطيرُ لحظةَ قبلةٍ للأرضِ
يأتي شاعرٌ يقضي على الفيزياءِ…يلعنُها
فما كلُّ السقوطِ سقوطُ
إنّ القبلةَ الخضراءَ ليستْ دائما سيكونُ آخرُها الولادةَ
رُبّما سيكونُ آخرُها الصعودَ إلى السّماءْ
هذي البلادُ
عليك مضطرّاً لتفهمَ تعكسُ المرآةَ
مضطرّاً لتفهمَ لا ترى شيئاً
و مضطرّاً لتفهمَ أن يصيرَ الموتُ عادتك الخفيّةَ
إذ يمارسها السريرُ عليكَ
يقذفها على جسدِ الرؤى
حتى تُصابَ بلعنةِ الموتِ البذيءْ
حتماً سأسمعها
لأني مِن هواةِ الفنّ
الفنُّ الذي يغفو على كتفِ الضحايا باتَ أقربَ للهواةِ
و يقتفي امرأةً تصيرُ شجيرةً ما في الحديقةِ
الحديقةُ قطعةٌ في الأرضِ
فرطُ المعجزاتِ بها
و فرطُ الأغنياتِ بها
تصيرُ حديقةً
المعجزاتُ
يقولُ طفلٌ أيّها الموتُ اللعينْ
هيّا مَعَاً مرتونَ نحو اللهِ ثمّ نرى النتيجةَ
إن وصلتَ إليهِ قبلي إنّهُ أمرٌ بديهيٌّ
إن انتصرتْ خطايَ على خطاكَ
تموتُ وحدَكَ أيّها الموتُ البطيءْ
الأغنياتُ
قراءةٌ للضوءِ في وجهِ الضحيّةِ
رقصةٌ للغيمِ
و امرأةٌ تشدُّ الحزنَ من عُنُقِ البلادِ تصيرُ خفيفةً
لا تحتكمْ للعاصفةْ
و لأنها لم تنكسرْ صارت نخيلا في رؤى الشعراءِ
هذا ما تقدّمهُ القصيدةُ دائما
و الشِّعرُ قد ينسى بأنَّ بلادَنا لم تسمعِ الأشجارَ
فاصفرّتْ لنقصِ العاطفةْ
حتماً سيلزمني القراءةُ في الطبيعةِ
الطبيعةُ دفترٌ سهلُ القراءةِ لو قرأنا اللاطبيعةَ جيّداً
يكفي بأنْ يمتدَّ كفُّ الحلمِ نحو الحلمِ كي تتقطّعَ الأيدي
و قدْ يكفي بأنْ يمتدّ كفّي للبنفسجِ كي أعيدَ جدارةً للحبّ في قلبي يزيحُ القبرَ عن رئتي
و يكفي أن أقولَ قصيدةً عن حاجزِ التفتيشِ قبلَ البيتِ
كي أرتاحَ في سجني
و قد يكفي على جذعِ النخيلِ بأنْ أقولَ أحبُّها حتّى ولو جرّحتَهُ كي يحفظَ الذكرى
سيلزمني القراءةُ في الطبيعةِ
كي أقدّمَ فكرةً عذرى عن المنفى أؤنسِنَهُ
أقيمُ علاقةً بين العصافيرِ التي انتصرتْ على الصّيادِ
حينَ رأت ذراعَ السّروِ
معْ قتلى الهويّةِ حين لم يفتحْ لهم أحدٌ ذراعَ الأرضِ
يلزمني القراءةَ في كتابِ الأرضِ
حتماً مرّةً أخرى بهذا الشارعِ الممتدِّ بين البيتِ و المقهى
سأقرؤهُ كما لو أنّهُ فيلمٌ قصيرٌ يعبرُ المعنى بظرفِ دقائقٍ كي أبلغَ المقهى بكاملِ صحّتي
أرخي يديّ
أعيدُ تشغيلَ المشاهدِ عبرَ كاميرا الرّؤى
هوَ مشهدٌ يكفي لأعبرَ كلّ هذا العتمِ
ياااااااا للهولِ….
عرسٌ في المخيّمِ
ليلةٌ حمراءُ
رقصٌ في الشوارعِ
إنّهُ عقدُ القرانِ مع اللجوءِ
هناكَ طفلٌ في النوايا
يعني بأنْ يزدادَ منسوبُ الضّحايا
الآنَ يلزمني الكتابةُ ممسكاً خيطاً جديداً مِنْ مفازاتِ الروايةْ