في المقام الأول، نحنُ لا نحبُّ أن نُسمَّى “لاجئين”، لكننا، وبتلقائية تاريخية مفهومة لاستدراك المُضيع، نحب أن نحافظ على مصطلح “اللاجئين”، لا كـ “تسمية”، بل كـ “صفة”، وكلازمة تُغني عن توضيح الحال؛ وتُغني عن شرح التاريخ، وتتركه حيا، لأنها كانت لصيقة بالفلسطيني وحده، قبل “الربيع العربي” الذي لم يكتمل ليحمل معه مسألة لجوء من نوع آخر.
واللاجئ الفلسطيني؛ دُفعَ دفعاً إلى البحث عن ملجأ؛ كان خيمة، كبُرَ مخيماً، فصار وطناً قسرياً، يحملُ، دون أية حمولةٍ زائدة في الذاكرة، وطناً أصلياً، كان له، وظلّ، ما ظلَّ في خيمته المخيم.
نحن اللاجئين، نحمل لجوءنا معنا، ليستمر بتكاثُرِنا خارجَ الحيز الأصلي للجغرافيا الأصلية ما قبلَ تطهيرنا عرقياً. تشهدُ قرانا ومدننا أننا كنا هناك قبلها، شيدناها، فعمرناها، لتشهدَ علينا، ونشهد عليها. لا شيء منها يزولُ، وإن أزيلَ أو أزيح، فقوانين الطبيعة تُربِكُ الفاعل إذ أوضحت له أن عملية الإزاحة تلك لا تكتمل أبداً لأن خطوطها المرجعية ثاتبة، ولأنها ليست سوى تغيير في موضع الجسم من مكان إلى آخر وحسب، وأن عملية الحركة تلك، تنسفُ اكتمالها كفعل ثابت محقق، لأن مجرد تعريفها يعني، بالضرورة، العودة إلى أصلِ المكانِ الذي بدأت فيه عملية الإزاحة.
ولسبب مغاير، لم يكتمل تجانس اليهود شعباً أو قومية قادرة على تشكيل تناغم هوياتي قابل للاندماج في نسيجٍ عضوي واحدٍ، فأنشأ كياناً عنصرياً على بقايانا-دولةً غريبةً عن: المشهد، والبيت، والمنجل، واليرغول والبئر العميقة، والسنسلة، والحجر الذي فيها. أخذوا كل زاويةٍ ممكنة، بذريعة أن لا مكان يمكنهم العيش فيه بسلام دون إبادة، فرحلوا إلينا “مهاجرين” و”قادمين جددا” بدعوى عودتهم إلى أرضهم المسماةِ في دينهم لهم، فوصلوا إلينا، أُناساً توفرت كل سبل استمرارهم فقط عبر قتلنا.
أما نحن اللاجئين، وقبل أن نكون لاجئين، كنا أناساً عاديين، متفائلين لطيبتنا، وكنا طيبين لعِظَمِ ثقتنا بحقنا فيما لنا فوق الأرض وتحت السماء وما بينهما، استقبلنا “القادمين” في سفن البحر، وعشنا معهم مكرهين، وعملنا معهم في أراضٍ كانت لنا، بنوا بيوتاً فيها لتكون مستوطنات، وأقاموا حراساً عليها فشكلوا جيش الاحتلال، طردونا من باقي أرضنا، وصادروها، وقتلونا، ووضعوا أيديهم على بيوتنا، وغيروا ملامح المدن التي لنا وأطلقوا عليها أسماء تنفي صلتنا بها، لتربطهم هم.
نحن اللاجئين، الذين تمزقت حياتنا الخاصة، بدأنا حياتنا الجديدة في الشتات تأسيساً على قصص مروعة من حياتنا السابقة، لم يكن الجديدُ، مدهشاً، بل كانت حياتنا السابقةُ تفوقه دهشة، لاستسهال استبدالنا، بأقوامٍ آخرين، وكأننا بشرٌ زائدون عن الحاجة لا مبرر لبقائنا أو استمرار وجودنا. حاولنا اتباع كل النصائح، إلى أقصى حد ممكن، كل النصائح الجيدة، التي تجعلُ من اللاجئ “لاجئاً فلسطينياً جيداً”، في كل مكانٍ هُجِّرنا إليه، لكننا كنا “لاجئين مشؤومين” عندما تعلق الأمرُ بنصحيةٍ واحدة قدمها لنا منقذونا من التطهير العرقي بأن ننسى ما مضى، فحاولنا ولم ننسَ، ولن ننسى.
نحنُ اللاجئين حماةُ الماضي والمستقبل، لأن لا حلَّ دوننا، ولأننا لا يمكن أن نعطي لقضيتنا شكلاً مرسوماً بحساب الصفقات المبنية على الخسارات؛ خسارة الأرض والوطن والهوية.
نحن اللاجئين، ومنهم أنا، اللاجئةُ من الرملة في فلسطين رولا سامي إبراهيم سرحان وبطاقةُ لجوئي تحملُ رقمها: 15513908
عن صحيفة الحدث الفلسطينية
https://www.alhadath.ps/article/98847/نحن-اللاجئين