شاعر وروائي فلسطيني يغزل وَجَعه ويبحث عن غابات لم يمسسها بشر
أنور الخطيب: لا أعرف معنى دقيقاً للوطن.. والمنفى جَرّح روحي
خضوع القادة للكيان الصهيوني؛ وتفوُّق 12 مليون يهودي على 300 مليون عَربي؛ والانقسام الفلسطيني فانتازيا قذرة وحقيرة
ألوذ بالكتابة لأنها الأكثر حماقة وجُبناً في زمن الزِّنا بأطهر القضايا
خضوع القادة للكيان الصهيوني؛ وتفوُّق 12 مليون يهودي على 300 مليون عَربي؛ والانقسام الفلسطيني فانتازيا قذرة وحقيرة
اتحاد الكُتَّاب العرب مؤسسة تُشبه جامعة الدول العربية في عَجزها ورجعيتها وتخلُّفها، وزعماء اتحادات الكتاب يُشبِهون الميليشيات الموالية للأنظمة
أصْغتْ لبَوحه: حورية عبيدة
قادِمٌ مِن برْد المنافي؛ طاعنٌ في غربته، يتلو سورة الحُزن المُصَفَّى، يتساءل -متمرداً غالباً وراضياً نادراً- مَنْ أَذِنَ للوجع الدفين أن يتمدد في صدره! لكن؛ ما إن تلوحُ له زيارة لبنان؛ إلا وتتملَّكه فرحة طفل متلهف؛ لحظتها تتهلَّل أوتار صوته وهو يزفّ إليّ الخبر: “اليوم ستعانق عيناي فلسطين”، حينها يقتنص بكاميرته اللحظة الحُلم؛ من فوق أعلى صخرة في الجنوب اللبناني؛ مٌطلّاً على وطنه؛ شاهراً علامة النصر؛ بروحٍ دأبتْ على التمرد والانعتاق، وسْط رُكام التدني والأوهام والمتاهات والزَّيف والضياع، قابضاً على ستة عقودٍ عُمْر حُلمه؛ ومنفاه؛ واغترابه؛ وآلامِه؛ ولهفِه؛ وشغفِه؛ ويقينِه؛ وصمتِه.. ففي لغةِ المنافي تصير لغةُ القواميس أصغر مِن شهقة حزنٍ، لكن يبقى في فمه ماءٌ تحَجَّرَ ينتظرُ أجراس العودة.
قدَرٌ تأبَّطهُ؛ ومضى به إلى حيث لم يشتهِ، فوطِئ قلبُه أشواكاً أدْمته.. التقيتُه ليتحرَّر مِن أوجاعه؛ فباح وكأنه لم يبُح! فقد جاء في عصرِ مَن يجيدون الصراخ والنّفاق والمُتاجرة، ولا يجيدون تلبية النداءات أو الإصغاء وممارسة الحقيقة، أردتُ تقريب صورته للقارئ فزادَها غموضاً! حين ترفَّع عن الكلام عن عطائه الأدبي الباذخ ومؤلفاته؛ ما بين روايات؛ ودواوين شِعرية؛ ودراسات نقدية؛ غير مئات المقالات في الترجمة والشأن الأدبي والثقافي، لأنه لا يُجيد الجهاد في سبيل الانتشار على حدِّ تعبيره، بل ويرفض الكلام عن الأدب والشِّعر والرواية العربية! فغدَتْ الكتابة عنه أكثر صعوبة! لذا لم أجد بُداً مِن تركه يبوح ويغزل “وجعَه” الذي رافقه مذ ولادته في الغربة وأضحى مِن رعاياه؛ فصار غولاً يقتاتُ رُوحه، وباتت فواصل صمْتِه المُثقلة بالهواجس تستحقُ الإنْصات.
-“المشهد” تحاور الأديب والروائي والشاعر والمُترجم والإعلامي الفلسطيني “أنور الخطيب” الذي بادرني بقوله: هل تعلمين يا سيدتي؛ ودَدْتُ أن أفقدَ لُغتي، والأغنيات التي تتردد في جمجمتي، وأسماء الشعراء والزملاء، والمدن والقرى التي أقمت فيها أو زرتها، ومحتوى الكتب والصحف التي التهمتها، والكتب التي دونّتها سِيَّما شخوصها، ومكان وتاريخ مولدي، والنساء اللاتي عرفتهن باستثناء، لأملأ دهاليز الذاكرة بالطيور المهاجرة؛ تحطُّ قليلاً في مواسمها، تحكي لي طقوس الإفطار التقليدي في بلادها، والعُرس التراثي في مساءاتها، والموت غير المُسبَّب في نزاعاتها، وتترك لي حكمتها في أضعف ركنٍ من الدماغ، ثم تطير إلى الفضاء الضرير.
*وددتَ أَلَّو أخذْتَ زاداً مِن النِّسيان؟
-بل الفَقْد بكامل أبَّهته، كأنّي ما نطقتُ يوماً، وما سمعتُ شيئاً أبداً، ولم أقابل أحداً، ولم أقرأ، ولم أكتب، ولم أعمل شيئاً، ولم أعرف مدناً أو أصدقاء أو نساء، أبحث عن البياض الكامل، عن ذاكرة جنينٍ لم يخرج مِن رحمِ أمِّه، أو ما قبل النُطْفة، ربما إلى الفكرة العُذرية، والتصور البِكر، والغابات التي لم يمسسّها بشر، ولا بأس أن تكون الحيوانات قد مرت بها أو تقطنها.
يتملكُكَ قِسطٌ وفير مِن الأذَى..
-الأذى مُفردَة بسيطة، فأنا أشعرُ بالتلوث، ككرةٍ ممتلئة بالغبار البكتيري والجرثومي والنووي لم تنفجر بعد، أو دعيني أقول كحصّالة جمعتُ فيها غضبي الذي كان يجب أن أترجمه إلى صراخٍ ولم أفعل، دجّنتُ فيها قهري الذي كان عليّ أن أترجمه إلى شتائم ومسبات ولم أفعل، خبأتُ فيها قنابلي التي حقَّ لي أن أُفجِّرها ولم أفعل، جمعتُ فيها مشاعر حُبٍ كان يجب أن أبوح بها لأصحابها ولم أفعل، أشعرُ بتلوثٍ حنيني وحناني، هل تعلمين يا سيدتي لو جسدنا هاتين الكلمتين إلى حالاتٍ حتماً ستنفجر الكُرة.
*وبعد أن تنفجر الكُرة؛ ويخلو لك وجه العالَم أبيض طهوراً؛ ماذا ستؤسّسُ؟
-أُأَسِّس؟! لا أحِب هذه الكلمة، لأنها تعني تأسيساً للقَيد، كما فعلوا بالشِّعر والنَّثر والحُبِّ والأوطان، تعني الروتين والتقليد والعادة؛ وكلها تقتل أي زائرٍ جديدٍ إذا رفض التأطير والإلتزام، مَن قال أنَّ الشِّعر وزْنٌ وقافية؟! وأن المسرحية فقط على خشبة مسرح؟! وأن الوطن تحدّه البحار والجبال والوديان؟! لقد مَنح الإنسان لذاته هوية ليست له، وانتماءً لمكانٍ ربما لم ينحدر منه، فمن يعلم على وجه الدقة الجغرافيا الأولى التي أتى منها؟ كما منح لذاته إلهاً؛ وفي الواقع نصَّبَ ذاته إلهاً وقتل باسمه! المعرفة القطعية تدَمر صاحبها ومجتمعاتها، وتبتر الإبداع وتعتقل الرُّؤى، لهذا لا يحق لي التأسيس إلا لنَفسي فقط؛ ولمرحلة محددة، أُلغي بعدها ما أسَّستُ، ولا ألزِم به أحداً، لأن كائناً آخر قد يأتي من أي فضاء آخر يؤسس معايير أخرى، وقِيماً أخرى، وفي النهاية لا ثبات في الحياة، فالبياض مطلوب بين كل حقبة وأختها، والتراكم الطويل مُضرّ؛ باستثناء تراكم العلوم.
*”الوطن”.. ماذا يعني لكَ؟
-لا أعرف معنى دقيقاً للوطن؛ سِوى أن المنفَى جرّحَ رُوحي كثيراً، فكادتْ تنزف مِن جهاتها السِّت، ولدتُ في المنفَى أو الشتات، وكبرتُ؛ وكبُر معي المنفَى حتى صار غولاً يقتاتُ عليّ، حتى الآن أتعامل مع كل شيء تعاملاً مؤقتاً، مع البيت وأثاثه؛ والعمل؛ والأصدقاء؛ والزملاء، مع الحُب والكتابة أيضاً، أستعجلُ إنهاء روايةٍ أو قصيدةٍ أو مقالةٍ، وأُعيد كتابتها أكثر مِن مَرة؛ ثم أُحرِّرها منّي لأبحث عن انشغالٍ آخر أتآمرُ به على المنفى، أهربُ مِن عينيه الجاحظتين المحمرتين دائماً، أفرحُ قليلاً لنشر رواية أو ديوان؛ ثم أَنهمكُ في مآلاته، فكيف يمكن لغريبٍ أن يُؤسِّس مكتبة؟ وكيف يمكن لمنفيّ أن يتعامل مع مهنة الكتابة كوطن؟ لا يا سيدتي، الكتابة ليست وطناً، بل ملاذ آوي إليه وأختبئ فيه منّي، ففي ظل الفساد الثوري؛ وغياب القيادات التاريخية؛ والانبطاح والزنا بأطهر القضايا الوطنية والإنسانية؛ تقلُّ الخيارات، خاصة في هذا الزمن الموبوء بالارتهان للآخر، لستُ من الذين يفجِّرون أنفسهم (لأموت) أو يُدمنون المخدرات (لأنسى)، فالكتابة أقل ضرراً؛ وأكثرها حماقة وجُبناً، لأن الكِتاب يحتاج إلى رعاية كبذرة القمح، والرُّعاة عَنَّا مشغولون بالمال؛ والسُّلْطة؛ والعلاقات؛ والمهرجانات.
*كيف تنظر لإصداراتك الأربعة والعشرين؟ وهل تراها خفَّفتْ غُربتكَ وشقاء ذاكرتك؟
-غالباً ما أنسى أنِّي ذلك الكاتب صاحب الرصيد الكبير مِن الكتب رغم عدم تفرغي للكتابة، فقد عملتُ أحياناً 16 ساعة يومياً، كنت أجْترح الوقت لأكتبَ، هرباً مِن الشعور الأليم بالغربة، فالغربة ضعفٌ؛ أُداويه بالصمت والهدوء، وكغريبٍ يسعى ليكون مؤدباً يراعي أصول الضيافة والمضيف، فالوطن قوة مهما كان شكله؛ فقيراً أو صحراء بلا جبال ولا غابات ولا بحيرات ولا أنهار، ما يؤرقني افتقادي لما أعتز به في الوطن، فأنا لم أر بساتين يافا؛ وسور عكا وبحرها؛ ولا سِحر حيفا، ولا ذاكرة لي في مساجدها وكنائسها وشعبها، ولا أقيم علاقة مع خيالاتي وأوهامي، لكنني أتمسَّكُ بهذا الوطن المُسمى “فلسطين” وإن لم أره، فلا أعرف سِواه ولا أشتاق إلّاه، ورثته عن ذاكرة أبي التي صدَّقتها وآمنْتُ بها، لكن الحقيقة التي لا يريد أحدٌ مواجهتها أنَّ الوطن يبتعد كل يوم، اللاجئون يُهاجرون نحو جنسياتٍ أخرى، وفي المنفى يتذكرون أوطانهم أكثر! يرتدون الكوفية؛ ويخرجون في مظاهرات، والقيادات والمؤسسات الفلسطينية صدَّقتْ كذبة “الدَّولة؛ رغم أنها تعمل تحت عيني الاحتلال! وتماهَى المثقفون في الداخل مع تلك الكَذِبة، ويتعاملون معنا -نحن اللاجئين- كمواطنين من الدرجة الثانية أو الثالثة، حتى أنهم لم يجتهدوا في تكوين فروع لاتحاد “الكُتَّاب الفلسطينيين” في الشّتات، وحين يزور وفدٌ من الأمانة العامة –والتي مقرها “رام الله”- الإمارات أو غيرها؛ فإنهم لا يتواصلون مع أحدٍ؛ إلا مع مَن يلبي مصالحهم! لذا لا أفرح لحضورهم؛ طالما ينتظرون منِّي البحث عنهم، والأمر ذاته مع السياسيين، كذا السفارات الفلسطينية التي لا تعتبر نفسها مسؤولة عن اللاجئين!
*لكن لُبنان يصْغي لكَ ويحْتفي بكَ..
-لُبنان بلد المَولِد والمَنشأ؛ حين أزوره يَحتفي بي، بينما لا تلتفت المؤسسات الفلسطينية لحضوري! لأنّي لا أنتمي لأي تنظيمٍ أو حزبٍ؛ فلا يكفي أن أكون فلسطينياً!.. لبنان يعج بالمنتديات والصالونات غير الرسمية، وأنا مَدينٌ لهم برعايتهم الجميلة الحضارية، وأَدينُ للإمارات أيضاً احتضاني سنواتٍ طوال بحُبٍّ ورُقي، حيث أنجزتُ معظم كُتبي، والمؤسسة الثقافية الرسمية تتفهمني ككاتب فلسطيني لديه هواجس ومواقف، وفي لبنان أزور أهلي الميتين في مقابرهم، أُحدِّثهم عن نَفْسي، أسألهم عن صحتهم، أزور قبر أمي، وأبكي كما لو أنها مُسجّاة أمامي وفارقتها الرُّوح اللحظة، وقد وهبتها روايتي “شَوقٌ مُزمِنٌ” أُحاورها فيها وأستمع إليها.. ولا بأس إن اعتبرها النقاد سيرة ذاتية مع بعض الفانتازيا؛ فحياتنا –يا سيدتي- سلسلة مِن الفانتازيا.
*فانتازيا؟!
-نعم؛ فخضوع القادة للكيان الصهيوني فانتازيا، وتفوق 12 مليون يهودي على 300 مليون عربي فانتازيا، ووجود متعاملين فلسطينيين مع استخبارات العدو والدول الأخرى فانتازيا، واستمرار اعتماد اللاجئين على الأونروا فانتازيا، ووجود سفراء لدولةٍ لا وجود لها فانتازيا، ووجود وزراء يُصرون على مناداتهم بلقب “معالي” فانتازيا، رغم أن هذا “المعالي” يتحول إلى نكرة على المعابر الصهيونية، وسير القيادات الصغيرة بصحبة مرافقين فانتازيا، والانقسام الفلسطيني فانتازيا قذرة وحقيرة.
كل هذا يمنعني مِن الجهاد في سبيل انتشاري كروائي وشاعر، فالساحاتُ ليست لي، والثقافات السائدة حالياً ثقافات بوليسية، وزعماء اتحادات الكتاب العرب يُشبهون الميليشيات الموالية للأنظمة، واتحاد الكُتاب العرب مؤسسة تشبه جامعة الدول العربية في عجزها ورجعيتها وتخلفها، تخيلي أن يقول أحد هؤلاء الزعماء أنه غير مرغوب بي في نشاطاته؛ فقط لأنّي لا أُداهن؛ وأمارس حقي في الرَّد، فيتم تجاهلي عمداً، لكنّي لا أكترث، فأنا أمارس الكتابة، والحمد لله أنها تتم بدون وسيط، أكتبني دائماً، وأزعم أنّي أمَثل الإنسان الفلسطيني المحتقن عاطفياً ووطنياً واجتماعياً، ولا أنتظر تقديراً أو جوائز من أحد، فأنا أكتب لأعالج نَفْسي بنفْسي، لأقول بما تبقى مني أنّي هنا؛ أنَّا هنا.. لهذا أمتنع عن الحديث عن الرواية العربية؛ وواقع الشِّعر العربي؛ والأدب العربي؛ والترجمات وغيرها، لأن هناك مَن يبعث عنصريته ويقول: ما شأنك بنا؟ نحن أحرار بمؤسساتنا.
فقط لهؤلاء الذين يطالبون بمحاكم أدبية تغربل السَّاحات الإبداعية وتصنِّف الكُتَّاب؛ أو تحرمهم مِن حقهم في التعبير، أقول: كفاكم دكتاتورية وممارسة لأمراضكم النفسية، الحمد لله والشكر للفيسبوك وتويتر واليوتيوب الذي حطَّم سُلْطتكم، اتركوا الشباب يكتب ويُعاقر الحَرف، سيبقى مَن له موهبة ويتراجع المُدَّعي، فدعواتكم -وإن سادها حِرصكم على الشِّعر والرواية- ما هي إلا استعراض السلطوية الدفينة، والغِيرة السَّمجة.
صحيفة المشهد- مصر
https://elmashhad.com/Post/details/94437/
تقديري العميق أديبنا وشاعرنا العربي الكبير.. سَعِدَ قلبك
الأديبة الراقية والإعلامية اللامعة حورية عبيدة
شكري وتقدري وامتناني لهذا الحوار المهم الذي قلت فيه ما لم أقله في حوار آخر، قدرتك على استدراج مكنوناتي هائلة، فشكرا من القلب سيدتي