قراءة في ديوان آيتي أن أكلم الناس
باسل عبد العال*
اقفلوا باب اللغاتِ فلا أراني / ولا يراني أحد / الحرفُ طوع محنتي / خاشعٌ إذا ارتدّ، ماردٌ إذا سجد،/ ولا تقولوا / إنني أهوى التصعلكَ في السماوات العلى / أو إنني الفردُ الصّمد / آيتي؛ أن أكلّمَ الناسَ من شرفةِ الضوءِ/ أبعث فيهم دمي / أسرّب صوتي لطفلٍ / تلعثم في يومِ جمعةٍ / تنهّد في يوم أحدْ.
هكذا أنشد الشاعر الفلسطيني أنور الخطيب في ديوانهِ الأخير ” آيتي أن أُكلّم الناس ” الصادر عن دار مداد ، ،دولة الإمارات العربية المتحدة – دبي ، ويحتوي على 57 قصيدة ، عدد الصفحات 136.
آيتي أن أُكلّم الناس ، نتلمّس في القراءة الأولى للعنوان روحُ الجوهر الذي ينبثق من المعنى الأوّل لأيَّ كتاب يقع في أيدينا ، ولاسيما حين يكون العنوان جزء لا يتجزء عن المضمون ، الآية ، والناس ، والكلام ، وممّا لا شكَّ فيهِ ، أنَّ الملهم الأوّل في القراءة الأولى فيهِ ،هي لغة القرآن وحكمته أو وصيتهِ التي توقظ الباطني نحو الظاهري ، وتمزج الواقعي بالسّماوي ، هنا يأخذنا ديوان آيتي أن أُكلّم الناس إلى البحث عمّا يريد الشاعر أن يُكلّم الناس في آيتهِ / قصيدتهِ ، هل سيتلعثم في يوم جمعةٍ كما قال ، حيث يرتبك في النطق لأنّ التباساً ما حدث أثناء خطبتهِ ؟ أمَّ أنّهُ تنهّدَ في يوم أحدٍ، خوفاً واضطراباً من قلقٍ قادم ؟، هي أسئلة الجوهر الأولى في الديوان ، لذلك اختارها الشاعرعلى الغلاف الخارجي ، كلمات قليلة الإيقاع ، كثيرة المعنى ، ورؤى تطلق صراح الحمامات البيضاء الجميلة ، حيث الفضاء مفتوح للتأويل ، لاكتشاف الجمالي الذي يتوسَّد العفوي في النصوص .
قطّعوه ،
ونادوه فلم يأت أحد / آيتي أن أوقظ الطفل في كهفه / وإن لم يفق / أوقظُ الكهفَ في طفله / وإن لم يفق / أعيد الطفل إلى رحمه / فاقفلوا باب اللغات / في انتظار بعثه من الشتات / مبتهلا: مددٌ يا أنايَ مدد..
لم تسقط هذه الكلمات سهواً على الورق ، فقط. كي تسمّى شعر ، إنَّهُ الشعر الذي يحفر في الأثر ، حين تضيع الهوية في غياهب الشتات ، مِن أين جاء الطفل الذي كَبر وترعرعَ في المنفى ؟ هل هو مجرد رقم؟ يقفز هُنا وهناك بين أيدي موظفي المنظّمات الدولية ؟، ويكتشف في النهاية التراجيديّة أناه ، هو بالطبع نشيد الخطيب ، الشاعر الذي لا يكفُّ عن النبش في إسمهِ ، يقول :
أنا الشاعر الغريب المغرّب / العاشق المعشّق / المعذّب حد الطرب / أدوزن ليلي بريشة نجمة شاعرة / تنثرني على قميص نوم القصيد / بلا قافية ولا تفعيلة / وإنما / كخمرة ، من كأس روحها تنسكب .
أن يفتتح الديوان ب أ نا الشاعر الغريب المغرّب ، تكفي كي يُشعلَ أرض القصيدة بصدمةِ الأسئلةِ التي ذكرناها مُسبقاً ، أن يبدأ باشعال النّار في المعنى ، تلك هي جراح الهويّة التي دفعت شاعرنا إلى صياغةِ المقدّس أوّلاً ، فعناوين القصائد ” خيول اللهفة ” و ” مسقط الجباه ” و ” باب القيامة ” و ” أحد ما ” و ” شهيدة” و ” زنبق مر ” ألخ … ، و تفسيرَهُ الشعري لحروفِ ” ف ل س ط ي ن” ، كلُّها توحي بذاك المقدَّس المتشبّث بالقصيدة الأولى حتى الخاتمة. يقول :
فاءُ.. الفؤاد المتيّم بالفقد / فلٌ تبرعم فوق فمٍ / فاح في تجلّي الروح ..
ولامٌ.. تلوم تلال الخلايا على بعدها / وتلمّ السفوح / وسينٌ.. سنابك خيل اللسان استلّ صهيل الجروح..
وطاءٌ.. يطن بطين القرى، يطال ظلالاً تطول / توطّن طير القلوب طيّ الحقول،/ وياءٌ.. يمام اليتيم يئن بيقظة يرغول يافا / ويمشي بيمّ الحبيبة حتى يواري النزوح / ونونٌ.. نوّار نهد النهار، تنهّد،/ نزّ حنيناً من سورة التين…
حروف فلسطينهُ ترنُّ وحدها في عاطفيّةِ المُتلقّي ، هل لأنّها فلسطين فقط ؟. أمَّ أنّ تلك الفلسطين ، هي عزف منفرد بأصابع مِن نزيف؟ ليس تأويل الشاعر، فحسب ، بل هو أيضاً ، تأويل الذاكرة التي تستدرج الخيال إلى تأمّل فلسطينيّة الشاعر ، وَيختم :
حروف تحمل الفل والطين، والفن واللين / تعويذتي في لحظة التيه، سقوط النياشين/
أقوم إليها بليلٍ كأني أقوم لربٍ / وحين يوُسْوَس لي / أعوذ متمتماً: لكلٍّ فلسطينه / ولكلّي فلسطين .
هكذا كَلّم الشاعر أنور الخطيب النّاس في ديوانهِ السابع ، آيتهُ قصيدتهُ التي تعرجُ إلى النفس بخطوات الجمال الواثقة كالراقصة ، لغتهُ تسبح في ماءِ المرايا التي تعكس صورتهُ ، هذا أنا أنا / وتلك أنا الجماعة .
*باسل عبد العال/ شاعر وصحفي ثقافي مقيم في أبوظبي
https://thakafamag.com/?p=15480
مجلة الثقافة الجزائرية