الفصل الثامن
نجاة
إحرص على النظرة الأخيرة فصاحبها يتهيأ لرؤية الله
منذ أن دعَوْته إلى فنجان قهوة الشهوة ودعاني إلى موسيقى السكسفون الحنون، وأنا أتموّج مثل غيمة أفيون، حديثه عن الموسيقى ومرضه في صغره واحتضانه لأمه أدخلني إلى دائرته الخاصة جدا، اكتشافي لعريي وابتسامته الغامضة وموت عبد الحي أحداث حفرت هوةً بيننا وحالت دون نشوء علاقة حميمية تمنيتها، صلاح لم يقتحم أنوثتي رغم استسلامي، لكن ابتسامته كانت تحمل معنيين، الود والمكر، ككلامه ونظراته وحركاته، وموت عبدالحي الذي أكد التقرير أنه كان طبيعيا، أبعد الشبهة عن أي أحد وعنه، فالطبيب الشرعي يتعامل مع الجسد وليس النفس، والرعب قد لا يظهر في صور الأشعة المقطعية أو الصوتية، والأجهزة الطبية قد لا تصوّر الكوابيس التي تزور الإنسان قبل توقف قلبه عن العمل، ولا توثق الوجوه التي تحملق به وقد ترديه مغشيا عليه، ولا تسجل الأصوات التي قد تسبب له الصرع والحنق وتصيبه بأزمة، وبما أن التقرير سلّم بالوفاة الطبية، ولم يرصد علامات اختناق من أي نوع، فإنني توقفت عن البحث في سبب الوفاة، يحدث كثيرا أن يموت الناس فجأة، ويُرجعون السبب إلى “الموت الفجائي”، رغم أنه ليس فجائيا في أحايين كثيرة.
قررت مواصلة التعاطي مع صلاح رغم عريي أمامه، اكتشفت تلك الليلة نجاةً أخرى في ثيابي، مهيأة للانعتاق من أغلال جسدها وروحها، تواقة لحضن ساحر يسحبها لعوالم وسموات بعيدة.
دخل صلاح في نوبة بكاء حين تناهى إليه خبر وفاة عبد الحي، انتقل إلى مكتب الراحل الفارغ وحدثه بصوت سمعه كل الموظفين: (سامحني ياعبد الحي، كنت أحبك وأقدّرك، أمي سامحتك أيضا فسامحني..)، وانحنى على أوراقه فاحتضنها طويلا، ثم غادر مقر الصحيفة راكضاً وهو يناديه، لم يتبعه أحد، ولم يعد إلى الصحيفة ذلك اليوم.
فوجئنا في اليوم التالي بمقال بقلم صلاح، يتحدث فيه عن عبد الحي الأخ والصديق والزميل، وعن روحه الجميلة وشهيته للطعام وحبه للنكات، وعن تأنبيب أمه له حين نقل لها عراكه معه، وأنها تنازلت عن حقها، وأفهمته: (العبد لا يلعن، ولا تؤثر لعنته في الإنسان، أما لعنة الله هي التي تصيبه بمصيبة..)، فتصالح معه في اليوم التالي، عانقه عناقا كاد أن يخنقه. داعب عبد الحي صلاح مداعبا: (من يرى جسدك النحيف لا يعلم القوة التي تسكنك، من أين تأتي بكل هذا العزم يا صلاح؟).
أنهى مقاله: (إلى اللقاء ياصديقي، فإن قابلتك في جهنم سأعانقك كما تعانق النار نارها، وإن قابلتك في الجنة سأعانقك أيضا، كما يعانق البياض البياض..).
همهم الجميع؛ متى كتب صلاح المقالة؟ انطلقت عملية التحري، نفى رئيس قسم المحليات والمخرجون ومدير التحرير أن يكونوا قد استلموا مقالة منه، خضعوا جميعا للتحقيق بعد الانتهاء من الإجراءات الخاصة بتسفير جثة عبد الحي فأنكروا، لجؤوا إليه، سألهم: (هل تسببت المقالة بإحراج لكم أم لأهل مصطفى أو للطبيب الشرعي أو دائرة الأمن؟ وهل رفع أحدهم دعوى قضائية ضدي أو ضدكم؟ إن كانت الإجابة بـ “لا”، فلماذا كل هذه الهمهمات والأحاديث الجانبية، أنا أرسلت المقالة بالفاكس، واتصلت فأكد الموظف وصولها واضحة، وقام بإرسالها إلى رئيس القسم الذي استشار مدير التحرير، فوافق وأثنى على المقالة، حتى أن المخرج ابتسم حين وصلته، تمت العملية بسرعة الموت، أنا أؤكد وأنتم تنكرون، وستدورون في دائرة مفرغة، كأنكم لا تصدقون حبي للمرحوم، أو أنكم تخططون لاستمرار العداوة بيننا بعد سفره إلى الله، فهل عدم رؤيتكم لقلبي جعلكم لا تشعرون بنبضه؟!).
حضر صلاح مبكّرا إلى العمل على غير عادته، فوجئت به أمامي، تأملني فطأطأت رأسي، بادر على الفور: (جئت أعتذر عن عدم تلبيتي لدعوتك، وأعتذر أيضا لجرأتي في دعوتك لمكاني المفضل، تمنيت لقاءك، أبدع عازف السكسفون ليلة أمس، تمنيتك معي، بل تمنيت وجود زميل غاب عنا للأبد يوم أمس الأول، رغبت في وجوده كي تصفي الموسيقى ما تبقى من شوائب قليلة جدا في نفسينا، أنا صفيت روحي، وأرجو أن يكون قد نقّى روحه في اللحظة ذاتها، أرسلت له طاقتي النقية، فالكراهية التي ترافق الميت إلى حياته الجديدة تتحول إلى لعنات، لكنني استقبلت منه إشارات تلك الليلة، يبدو أنه صفّى روحه قبل صعوده إلى السماء، ولهذا استمتعت بالموسيقى، وشربت نخبه في غيابه.. لروحه الرحمة..).
اشتعلت روحي وكدت أن أصرخ بصوت لبؤة محاصرة: “كفاك كذباً”، لكنني التزمت الصمت. قال بصوت أراده ملائكيا: (يهمني أن أترك بصمة من نور في قلوب كل من أعرفهم، أنت فعلت ذلك في قلبي، وأرجو أن أكون أنا أيضا قد فعلت..).
أيقظ قطعان فضول الأنثى في سهول نفسي، شعرت باستدراجي إلى مساحته الضبابية مرة أخرى، لم أكن واثقة من مكره، تحدث كرسول قادم من مملكة أقواس قزح، كتمت رغبة الأنثى بالسعي وراء المعلومة، وسادت بيننا سنوات من السكوت.، كان يبعث المراسل بطلب إجازاته القصيرة والنادرة، وكنت أشم رائحته في ثنايا الورقة.
قررت الصحيفة إنهاء خدماته لبلوغه الستين، حزنت، ليس لفراقه، ولكن لأن كثيرين وصلوا عمر التقاعد ومددوا لهم الخدمة خمس سنوات أخرى، ساهمت تحقيقاته الصحفية ومشكلته مع عبد الحي ومقالته عنه، ومنعه من دخول العديد من الدوائر والوزارات ظلماً في ذلك القرار، كان يعلم أن المراسل لا يمكنه القيام بإنهاء إجراءات نهاية الخدمة، بدا أكثر نضارة وحيوية، كان يرتدي بدلة سماوية تحتها قميص شديد البياض، وحذاءً أنيقا يناسب أناقة بدلته، هذّب شاربه وصفف شعره بطريقة نجوم السينما، رائحته وحدها لم تتغير، وكذلك نظراته التي تخترق الوجوه وربما الجدران، حياني بأسلوب النبلاء؛ انحناءة خفيفة وابتسامة شفافة وجلس، انشغلت بترتيب وكتابة الأوراق المطلوبة لإبراء ذمته، كان ينظر من النافذة، مددت يدي لأسلمه الأوراق فلم يأخذها، التفت فجأة وقال: (لماذا زميلك مهموم حد البكاء؟).
كنا وحدنا في الغرفة ولا نطل على أحد: (من هو المهموم..؟).
أشار إلى الغرفة المجاورة، انتقلت مباشرة إلى غرفة إسماعيل، وجدته يحضن رأسه بكفيه ويحملق في سطح المكتب: (ما خطبك ياإسماعيل.. هل تشكو من أمر ما؟).
رفع رأسه ووجهه غارق بالدموع: (أمي في العناية المركزة، اشتد عليها المرض، يقولون إنه انتشر في جسدها، ودخلت في حالة إغماء..).
طلبت منه السفر فوراً لرؤية أمه، وعدت مسكونة بالفقد الملعون، فقد فقدت أمي بذاك المرض الشرس منذ عامين.
لم يستفسر صلاح عن إسماعيل، وجدته يتململ في مكانه، تقابلت عيوننا: (أمه في العناية المركز، ويبدو أنها في الرمق الأخير، انتشر السرطان في جسدها وفقدت الوعي..).
نهض صلاح كمن علقت نار في ثيابه وركض، شاهدته من نافذتي ببدلته الأنيقة يجري على غير هدى، ويغيب. عاد بعد لهاث طويل وعرق غزير: (أرجوك يا نجاة، أنا في عجلة من أمري للمغادرة، متعلقاتي بسيطة جدا، اصرفي لإسماعيل تذكرة سفر واخصميها من مستحقاتي، استنفد الرجل نقوده على علاج أمه، يجب أن يلقي النظرة الأخيرة على وجهها قبل أن تغمض عينيها إلى الأبد، هل تعلمين ماذا تعني النظرة الأخيرة وهي حية وتتهيأ لرؤية الله؟ ذاك الدعاء سيحصّنه طيلة حياته، لأنها ستتذكر لحظة خروجه من رحمها، وابتسامتها الأولى في وجهه، ودفقة الحليب الأولى التي بللت شفتيه، والحضن الأول، ورائحته الأولى، ستمنحها له ثم تغيب..)
سألت باستهجان: (كيف تعلم أنها ذاهبة إلى الله؟ قد تُشفى ويسعد بها لسنوات، لا تكن نذير شؤم ياصلاح..).
مسح عرقه عن وجهه: (ما نفع الحياة مع ألم النهايات، في داخلها خلايا تقضمها قطعة قطعة، تنهشها بلا رحمة، أنا نذير رحمة يا نجاة، ستتخلص من وجعها الذي لا يستطيع أحد تخيّله مهما تقمص روحها، وحدي أعرف هذا الوجع المبكي، لكن الأمهات لا يبكين أمام أبنائهن، أمي بكت على كتفي ليس من الألم، ولكن من كابوس رأت فيه أحدا يخطفها من دارها الأخيرة بدافع الحب، وفي حقيقته كراهية، من يحب لا ينبش قبر حبيبته، سارعي يا نجاة في تحضير أوراقي، مرّ أمامي مشهد كابوس أمي، هناك من يخطط الآن لحرق دارها وحرث ترابها وتكسير شاهد قبرها، هناك من يتآمر على الذاكرة المقدسة، سأسافر وأحميها، وأعيدها إلى البيت، لقد بلغ الفقد مبتغاه، أنا أفهم أننا مهددون في وجودنا، لكنني لا أستوعب أن نكون مهددين فيموتنا، وصلنا إلى مرحلة ما قبل القيامة، ما قبل إحاطة خصورنا بأحزمة ناسفة، دفاعا عن موتانا، هل تستوعب مخيلتك هذا المصير الملعون..؟ قلبي معك يا إسماعيل).
دخل إسماعيل فجأة المكتب، تعانق وصلاح عناق الأخوة: (ما أجمل رائحتك ياصلاح..).
أجابه: (هذه ليست رائحتي يا إسماعيل، إنها رائحة أمي، فاذهب إلى أمك دون إبطاء، التصق بها وانعم بحرارة جسدها..).
خرج إسماعيل راكضا، انتقلت عدوى صلاح، انتبابتني رغبة بالركض أيضا، والتوجه إلى أمي، لأعتذر لعينيها عن نسياني لها، وأقر بتفاهة التعايش مع فكرة الغياب والموت وانقضاء الأمر، شعرت كم كنت ظالمة وأنانية وناكرة للجميل، كيف استطعت الانشقاق عن رحمها والانضمام إلى جوقة الآخرين. اكتشفت فراغي وجفاف أمومتي وحدّة نبض قلبي، لهذا ربما لم أتزوج، عشت بمنافذ ونوافذ موصدة، لم يلحظ أحد الشباب أو الرجال شرفة في بنياني، لم ير بوابة لبيت روحي، ولا شرفة لغرفة قلبي، لم ير وردة تدل على حديقتي، فشل الكحل والعطر وأحمر الشفاه والذهب في استدراج غمزة رجل لغمازتي.
ارتبك صلاح وطأطأ رأسه، كنت وأنا محلقة في تأملاتي أعلق بصري علي وجهه، تجاوزت حزن إسماعيل وإلحاح من غادرتني روحي إليها: (كن لي يا صلاح، لا تسافر، أنا أحبك منذ خمسة عشر عاما، فاعذر منافذي الموصدة، أفتحها كلها الآن، ادخل أنت وأمك وأمي وأم إسماعيل، واسكني.. واسكنوني..).
تململ فعاجلته: (انتظر؛ لا تغادرني راكضا، سأركض معك لو فعلت، ولتقم الساعة..).
تذمّر بلغة الفقد المبكية: (أنا غريب، ولا أملك بيتا دائما لي، ولا مستقبل لعواطفي، الضجر يدمنني، ومزاجي متقلّب وملعون..).
برجاء: (أنا بيتك، ومستقبل فؤادك، والواحة التي تتململ فيها، والجهات التي يتقلب فيها مزاجك، اسمح لي بالدخول من خلاياك المشرعة على الحياة، الآن أدرك كيف شعرت بإسماعيل ولم أشعر به، وكيف كتبت مقالة في عبد الحي ولم يرها الآخرون، أؤمن الآن أنك الرائي بقلبك، وأنّي وجدتك، سأسافر معك أيها المنتشي بآلامك، هئنذي كما ترى، أصبحت أحب الشِّعر؛ والغرباء والمنفيين، أهملتك خمسة عشر عاما، وتجاهلت أمي أمك سبعين عاماً، وتجاهل أبي أباك عقوداً، فهل أنا جديرة بالتكفير؟).
أعاد لي ما كرهت: (هل تذكرين تلك الليلة، رقصتِ بكل ما ملكت روحك من انعتاق، عريتِ جسدك كأنني مرآتك، وحميتك من نفسي الأمارة بالعشق، ولم أقل لك السبب؛ نظرتك يا نجاة تشبه نظرة أمي وهي تعض على وجعها، سأذهب إليها وحدي، سيقودك قلبك إلى مكاني لو كان لي..).
انقبض صدري، ليته ظل محافظا على لعبة الإيهام، وإصراره على رفضه لدعوتي، لم أقل شيئا، اختلطت مشاعري وتناقضت وتشابكت.
نهض صلاح متوجهاً نحو الباب، وقبل أن يمسك المقبض قلت: (عظّم الله أجرك ياصلاح..).
التفت مذعوراً بعينين منفتحتين على الفقد، أسبلهما حين بحت: (توفي الملازم عبدالله قبل أسبوع..).
طأطأ رأسه وغادر ولم يعد.
صابر
اعتقد صلاح أن إثبات خروجه مع نجاة سيعيد إليها أنوثتها وسيسعدها، أراد إعادة ملكية المشهد، فهو حق لها وللاوعيها، لانعتاقها النادر من ذاتها. ظنّ أن تأكيده سيعيد لها توازن نبض قلبها، لم يتبادر إلى ذهنه أن المرأة العربية تعشق الوهم، تمارس في السر شهوتها وتنكرها حين تظهر للضوء.
حدثني عن فتاة قابلها في السنة الثانية من دراسته الجامعية، لم يكن بينهما حديث سابق رغم وجودهما في الفصل ذاته، عزلته الدائمة أغرتها، رسمت توحشاً ما في شخصه، وقفت أمامه فجأة واعترفت بحبها: (أنا على استعداد لمرافقتك إلى أي مكان لأثبت عشقي لك..).
زارته في السكن الجامعي بعد يومين، جمعتهما غرفة ضيقة في مبنى فارغ مكون من ثلاثة طوابق بسبب زيارة الطلبة لعلائلاتهم. احتست قهوتها ثم صعدت على السرير الصغير وبدأت بخلع ثيابها قطعة قطعة، خجل وارتبك وكاد أن يقترح الخروج والمشي في حديقة المجمع لولا عريها الكامل وترجلها عن السرير، وشروعها بطقس إغواء لم يفلت منه مثى وثلاثاً، حتى تمدد منهكا إلى جانبها وراح في نشوة النوم، نهض على أثرها فلم يجدها، وحده كان كما خلقته أمه.
أقبل عليها في اليوم التالي مبتسماً فرحاً: (لماذا رحلت أمس بهدوء لصة، استيقظت ورغبتي متوهجة هائجة؟).
رسمت عقدة بين حاجبيها: (عمّ تتحدث يا صلاح، أنا لم أحضر حتى أرحل، يبدو أنك تتوهم كثيرا..).
واسيته: ( لا تبتئس، ولا تغضب، النساء يعشقن الغريب عشقاً مؤقتا، يشتهينه عابرا مهما كان بارعا..).
يبدو أنه تذكر تلك القصة حين فعلت نجاة ما فعلته الطالبة الجامعية، وأراد أن يطمئنها في البداية، وحين أبدت استعدادها للرحيل معه ذكرها بالليلة المجنونة كي يؤكد لها التراكم الذي قد يتمخض عن استمرارية في مقبل الأيام، فانكمش قلبها ونفر، أرادت الاستمرار معه كامرأة لم يمسسها بعد، وتكون ليلة دخلة لا سابق لها، كأي امرأة توهم نفسها بالعذرية في ليلة زفافها حتى لو مارست العشق مع حبيبها عشرات المرات، وقد تبدي تمنعاً وخجلا.
لم يفهم صلاح معنى البداية، لم يدرك حاجة نجاة لتكون عروساً طازجة. نعت إليه موت الملازم عبدالله لتكتب نهايتها معه باسلوبها البدوي، الذي يومئ ولا يجهر. وكي ترسخ قرارها فلا تعود عنه، رسمت علامات استفهام جديدة على موت عبد الحي وبعده الملازم عبدالله، ولتؤكد على صواب كتابتها للتقرير الخاص بالمشاجرة التي وقعت بين صلاح وعبد الحي.